بعد غياب امتد 4 سنوات منذ تقديمه فيلم “آنّا”، عاد المخرج الفرنسي لوك بيسون ليقدم فيلمًا ينتمي إلى نوعيّته السينمائية المفضلة، شارك به في الدورة الفائتة لمهرجان فينيسيا “البندقية” السينمائي.
في فيلمه الجديد “رجل الكلاب أو جامع الكلاب Dogman” يحاول بيسون نفض الغبار عن ذاته، خصوصًا بعد بقائه في الظل عدة سنوات، بسبب إخفاقات متكررة لأفلامه خلال العقد المنصرم. بيد أنه هُنا، في أحدث أعماله، يحاول خلق دراما نفسيّة في المقام الأول، عن فتى تعرّض للعُنف الأسري من قِبل والده خلال طفولته، الأب (كليمنس شيك) الذي يحمل صفات الشر المُطلق؛ عنيف وغير متزن وقاسي القلب، وهو رمز لمؤسسة أبويّة وذكوريّة تُمارس وجودها من خلال العُنف، وصورة من صور الشخصيّات الشيطانيّة ذات البُعد الواحد، التي تأخذ أفعالها أشكالًا متطرفة، رُبما لطبيعة نشأته في دائرة مُغلقة من أجيال تفرغ ما تعرضت له من عُنف في الأجيال التي تليها، أو حتى لخلل نفسي في شخصيته، ولكنه على أي حال يعاقب ابنه بالحبس في قفص الكلاب، ونتابع نشأة الألفة بين الطفل دوغلاس (كاليب لاندري جونز) والكلاب.
من خلال هذا الخط البسيط، يبدأ المخرج في بناء سياق حميمي، ليلغي عند الفتى دوغلاس شعوره بذاته، وقدرته على التمييز بينها وبين الكائنات من حوله، فيرى الكلاب كائنات بشريّة، أو فوق بشرية، ويكسر حائل اللًغة بحدسٍ سحري يجعل بينه وبين الكلاب لُغة خاصة ومفهومة، أبجديتها المحبّة والتفاني.
يُقدم بيسون لحظة إنقاذ الكلاب لدوغلاس كلحظة خلاص أوليّة، يتحرر بعدها الفتى حتى نهاية الفيلم، صحيح أنه لن يتحرر كُليًّا من إعاقته ولا نظرة المجتمع له؛ لكنه سيتحرر داخليًّا من فكرة الإعاقة ذاتها، رُبما لذلك تراه يتعلق بالفن لأن الأخير معني بالتحرر، خصوصًا بالنسبة للبطل الذي يتحرك بين الشخصيّات، ويتحول إلى شخص مختلف في كل عرض على المسرح.
والحقيقة أن البداية المأساوية لشخصية دوغلاس، وسمته بشخصية الضحيّة، لكنها ساعدت المشاهد على الانحياز له من الناحية الأخلاقيّة، وهذا ساهم في بناء المناخ العام للفيلم، ورؤية البطل في خانة الضحية دائمًا. رُبما هذه سقطة من سقطات الفيلم، لأنها تُساهم في خلق وجه واحد للبطل، ولا تأبه للوجه الآخر، أو تجافي طرح الأسئلة الأخلاقية، ربما لإخلاصها لنوعيّة معينة. لكن على الناحية الأخرى تظهر الكلاب ككائنات مُدهشة، حاولت تعويض القصور في بناء الشخصية الرئيسية، فتأسيس عالم كامل على وجود الكلاب أمر غاية في الصعوبة، لأنك ستشتبك مع هذه المخلوقات ككيانات شعورية وعاطفية، وأكثر من مجرد حيوانات ذكية، بل أشياء متجاوزة للجانب المادي، ومكوّنات أساسية للدراما، لدرجة طغيانها الكامل على كُل المكونات الأخرى.
يبدأ الفيلم بدوغلاس يرتدي فستانًا مفتوحًا وشعرًا مستعارًا بينما يقود شاحنة ضخمة وهو ينزف، حتى توقفه سيارة الشرطة وتقبض عليه، ومن هُنا يبدأ الفيلم في خلق فضاءات السرد، وينطلق من منطقة أساسها استجواب الماضي، فالشُرطة تحضر له طبيبة نفسية إيفيلين (جوجو جيبس) لتفهم عقليّة ذلك الرجل القعيد على كرسي متحرك، والمتهم في الوقت نفسه بعدّة جرائم أكبر من قُدرة من يستخدم ذلك الكرسي.
من هذه النقطة يبدأ المخرج الانطلاق نحو الماضي، وخلال ذلك يحاول تلفيق عدّة مسميّات وقضايا لقصة البطل، كدوافع وحوافز لجرائمه أو نمط حياته، إلا أنها تفتقد للعمق، ويمكن دحضها بمجرد التفكير بشكل منطقي في الأحداث. فدوغلاس فجأة يُصبح عامل في ملهى ليلي، بشكل غريب يتكئ على المصادفة، أو يجعل من الأشخاص الآخرين سُذّجًا وسطحيين، فالمسؤول عن الملهى الليلي يقتنع بتشغيل ذلك الشاب القعيد في الملهى بمجرد وقوف البطل بمساعدة الدعامات التي يركبها، هل هذا كافٍ لأي شيء؟! إلى جانب ذلك يحاول المخرج فتح الفيلم على رمزيات تتجاوز نطاق نوعية الفيلم الأقرب للفانتازيا، ليصدر شخصيته الأساسية كبطل يحاول بمفرده إعادة توزيع الثروات وإنقاذ العالم من الرأسمالية.
والحقيقة أن الفيلم يقف حائرًا عند مناطق معينة حينما يتعلق الأمر بالبطل، فالهويّة الجنسية للبطل والتي كانت مكونًا أساسيًا في تشكيل الملامح الخارجية للشخصية وحياتها؛ محل شك، فنحن نرى البطل وقد أحب فتاة في دار الرعاية، ولكن بقية الفيلم يُظهر ميولًا عكس ذلك. رُبما حاول بيسون منحنا شعورًا بالسيولة gender and sexual fluidity، ولكنه ترك مكانها فراغًا.
رغم كُل ذلك، فقد قدم الممثل الرئيسي كاليب لاندري جونز أداءً مميزًا ولافتًا، وحاول أن يمنح الشخصيّة أكثر مما منحها بيسون نفسه، لتتبدى كشخصية ذات أبعاد مختلفة. والحقيقة أن كلاهما نجح في بعض لقطات الفيلم أن يخلق بعض اللحظات السحرية والانفجارية، وجاهدا ليخرج المشهد الأخير استثنائيًّا، بتخليق الكثير من الفخاخ في المعركة الأخيرة، والتركيز على الكلاب كعنصر مميز في ذاته على مستوى الحركة والذكاء؛ ولكن في الحقيقة المنتج الذي شاهدناه أشبه بحلقة تليفزيونية أكثر منه فيلمًا سينمائيًّا، فظهر المنتج الإبداعي مخيبًا للآمال، رغم الآمال التي كانت معقودة على عودة بيسون.
اقرأ أيضا: مهرجان «كليرمون فيران»… جنّة الفيلم القصير