فاصلة

مراجعات

«رحلة 404».. عن الخطيئة والغفران ومساءلة القدر

Reading Time: 5 minutes

يمتلك المخرج هاني خليفة مكانًا خاصًا في ذاكرة أغلب أبناء جيلي، الجيل Y أو جيل الألفية Millennials، أبناء الثمانينيات ممن تعرفوا على السينما المصرية وسط فقر التسعينيات الإنتاجي، والمنافسة المحتدمة بين نبيلة عبيد ونادية الجندي، والأقل احتدامًا بين نجومية عادل إمام ومحاولات أحمد زكي ومحمود عبد العزيز للحاق به، حتى جاءت قنبلة “صعيدي في الجامعة الأمريكية” لتغير وجه الصناعة، وتدشن لعصر جديد له نجومه وسردياته وقواعده الحاكمة.

سهر الليالي

يذكر جيلنا الأثر المذهل الذي حققه فيلم هاني خليفة الأول “سهر الليالي”، حتى أن عبارة قرأتها آنذاك لا تزال حاضرة في ذهني بعد 23 عامًا من عرض الفيلم، قال كاتبها: “إذا كان صعيدي في الجامعة الأمريكية قد أحدث ثورة في السينما المصرية، فسهر الليالي هو ثورة التصحيح”. أي بعبارة أخرى: إذا كان “صعيدي” قد قدم جيلًا جديدًا يُمكن أن يكون أفراده نجومًا لأفلام جماهيرية ناجحة، فهاني خليفة صنع الفيلم الذي يُثبت أن ذلك الجيل قادر على صناعة أفلام حقيقية، تناقش أمورًا حقيقية، وليست مجرد أعمال كوميديا رومانسية مُبهجة تُبسط الحياة بشكلٍ مُخل.

لذلك فكل عمل جديد لهاني خليفة حدث يستحق الترقب، لاسيما وأن الفروق الزمنية بين أفلامه كبيرة بشكل ملفت. قرابة الربع قرن مرت على فيلمه الأول، والآن يُقدم خليفة فيلمه الثالث: “رحلة 404” موضوع مقالنا.

نحتاج عند هذه اللحظة تحديدًا التذكير بقاسم مشترك بين كل الأفلام التي ذكرناها: سيادة، الشخصية النسائية الرئيسية في “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، لعبتها منى زكي، بيريهان، الشخصية النسائية الأكثر تأثيرًا وإجادة في “سهر الليالي”، لعبتها منى زكي، وغادة، البطلة المأزومة في “رحلة 404″، تلعبها أيضًا منى زكي. كأنه فيلم ممتد لبطلة واحدة. اختار القدر فيه أن تكون منى وجه أحلام جيلنا، صورة لعلاقتنا المعقدة، والمتخبطة، بالسينما والعالم وبأنفسنا.

شخصيات لها تاريخ

يمكن تقسيم الشخصيات الدرامية عمومًا إلى نوعين كبيرين: الشخصيات التي عاشت حياة بسيطة حتى تأتي مغامرة الفيلم لتصدمهم بوجود ما، هو أعقد من رؤيتهم لما حولهم؛ والشخصيات التي تمتلك ماضٍ وجذور عميقة تسبق أحداث الفيلم، فلا تبدأ المغامرة إلا والشخصية جاهزة تمامًا لها، بعدما خاضت واختبرت الكثير، وكوّنت بالفعل تصوّرًا متماسكًا عن موقفها من العالم، لتأتي الدراما فتختبر هذا التصور.

تنتمي غادة إلى النوع الثاني بامتياز، فماضيها هو المركز الذي يدور كل شيء حوله، وما تخوضه خلال الأيام القليلة التي تتعرض فيها لمغامرة الفيلم، بما فيها من تعقيدات وعوائق، ولحظات تضطر فيها لمواجهة بشرٍ من الماضي والحاضر، ليس إلا انعكاسًا لذلك الماضي، بل إن شعورًا عامًا يُحلّق فوق الأحداث، يُخبرنا إن كل ما تخوضه من أحداث عسيرة، هو في الأغلب أقل بكثير مما خاضته بالفعل خلال سنوات عمرها، لكن ما اختلف هنا هو قرارها في أن تواجه الأمور بطريقة مغايرة.

القصة كما صار معلومًا للجميع من المواد الدعائية والمراجعات النقدية عن امرأة تائبة، تمتلك ماضيًا مُشينًا اضطرت فيه لممارسات ندمت عليها، واعتقدت أنها نجحت في التخلص نهائيًا منها، لتؤسس حياة جديدة، شريفة، ستتوجها بالسفر لأداء مناسك الحج بصحبة والدها، غير أن الرياح تأتي دائمًا بما لا تشتهي السفن.

اقرأ أيضًا: منى زكي.. أصبت بـ”التوحد والتعاطف” عندما قرأت “الرحلة 404”

رحلة 404

صُنّاع “رحلة 404″، المخرج هاني خليفة والمؤلف محمد رجاء، يقدمان صورة نموذجية لبراعة الاستهلال، عبر طريقة تقديم غادة التي نعرف من خلالها قدرًا ملائمًا من المعلومات، يجعلنا مهتمين بما يحدث لها، شاعرين بأن وراءها من تخفيه، وراغبين في فهم المنطق الذي يحرك حياتها الحالية، والذي نفهم ضمنًا (ويتزايد فهمنا تباعًا) كونه مختلفًا عما كان عليه من قبل.

في كل مواجهة نكتشف جانبًا جديدًا من غادة، عبر سلسلة من المواجهات المكتوبة ببراعة، سواء على مستوى خلق الموقف أو كيفية التحرك داخله. مواجهات مع الأب وزوجته، الأم، ربّة العمل السابقة، زملاء الماضي والحاضر، وبالطبع الرجال حولها، أو من كانوا حولها. يلمس الفيلم بذكاء قدر عدم الارتياح المتوقع في علاقات كهذه، كانت بصورة وتطورت إلى صورة أخرى لا يثق أحد في قدرتها على الاستمرار، حتى صاحبتها.

الخصم الحقيقي في الداخل

إذا فتشنا عن القيمة الأساسية في “رحلة 404″، الموضوع الحاكم الذي يدور حوله كل شيء؛ سنجد أنه ثنائية الخطيئة والغفران. كل من في الفيلم، سواء بطلته أو طيف الشخصيات المحيط بها، موصوم بشكل أو بآخر بخطيئة كبرى ما: الشره للمال بأي ثمن، الضعف والانكسار وتجاهل الحقيقة الصارخة تفاديًا للمشكلات، إفساد حياة فتاة بدعوى الحب والعفّة، وغيرها من أشكال الخطايا التي تعيش شخصيات الفيلم تحت وطأتها.

غادة لا تختلف عن كل من حولها، أو للدقة ماضيها لا يختلف، لكن حاضرها يتميز بقرارها بالتوبة والتطهر. قرار يصطدم بصخرة الواقعين الخارجي والداخلي. في الخارج، كل من حولها لا يصدقها، يعتقد في كونها مرحلة ستمر بها ثم تعود إلى قواعدها، بحُكم الطبع الذي يغلب التطبع. لذلك، عندما تتعرض للأزمة التي تحرك الدراما، لا يكاد أحد يرى سبيلًا سوى عودتها الاضطرارية، ولو بهدف تحقيق “خبطة أخيرة كبيرة” على طريقة اللصوص التائبين.

لكن أثر الواقع الخارجي لا تُذكر إذا ما قورنت بما يدور داخل نفس غادة، فعدو غادة الرئيسي هو نفسها، ليس فقط لأنها تحارب في كل لحظة كي لا تضعف وتستجيب للضغوط، ولكن بالأساس لأن داخلها سؤال كبير عمّا إذا كانت تستحق الغفران. غادة عاجزة عن مسامحة نفسها – ناهيك عن التسامح مع من قادوها لمصيرها-، وبالتالي لا يمكنها الارتياح لأن من الممكن قبول توبتها، حتى لو كان قابل التوب هو الرب ذاته.

منى زكي

من يُحاسب من؟

يفتح هذا الفهم الباب لتساؤل كبير، أو لنقل لمأخذ كبير على الفيلم، الذي يُمكن القول بإنه – على جرأته الظاهرية- يحمل داخله قدرًا من المحافظة، أو الرغبة في تفادي صدامات نال منها بالفعل ما يكفي (صنّاع الفيلم اضطروا لتغيير عنوانه وبعض الخطوط الدرامية فيه لتحفظات رقابية متعددة). 

“رحلة 404” يتبنى رؤية غادة لنفسها وللعالم، فيتابعها من أول لقطة لآخر لقطة، يحاصرها ويضيق عليها الخناق، ويمنحها أحيانًا لحظات للراحة والتقاط الأنفاس، يدفعها دفعًا للشك في أهليتها للرحمة الإلهية، لكنه يحرمها حقها الإنساني في التساؤل حول تلك الرحمة وحدودها. 

امرأة أخطأت وسلمت جسدها للرجال، لكن ذلك كان نتيجة لتكالب كل ما يمكن تصوّره من إساءات، تأتي ممن يفترض أن يكونوا أقرب الناس إليها. لا يحاول الفيلم المقارنة بين كفتي الخطيئة، أو يمنحها حق الدفاع عن نفسها، عن كونها بالتأكيد تستحق التوبة، ليس فقط لأن الكل يستحق رحمة الإله، لكن لأن غادة تحديدًا تبدو أقرب للبراءة منها للإدانة، غير أن الفيلم يحرمها من تلك المرافعة.

رحلة 404

وجدنا ضالتنا فعلينا تفكيكها

قد يبدو ما سبق تحميلًا للفيلم بأكثر مما يحتمل، أو محاولة لفرض فكرة على صناعه، أو استخفاف بما تعرضوا له من رحلة مخاض عسيرة حتى بلغوا نسخة قابلة للعرض، لكنه حق مشروع لسببين، أولهما إنه يأتي من صلب الحكاية وأبطالها، من محاولة للوقوف مكان شخصية كغادة تفعل ما تفعل وتلقى ما تلقى، وثانيهما – وهو الأهم- كونها فرصة نادرة للتعامل مع فيلم مصري معاصر بهذا القدر من العمق والجدية.

رحلة 404

“رحلة 404” يفرض علينا أن نتعمق في محتواه، نحلل رؤيته، نضعها على ميزان التقييم ونحدد قدر اقتناعنا بها، لأنه ببساطة فيلم لا يتعامل مع حياة البشر باستهانة، لا ينظر لشخصياته باعتبارهم عناصر في نسيج غرضه صياغة حكاية متماسكة فحسب، وإنما يفهم الحقيقية البديهية التي تغيب عن غالبية أفلامنا: أن كل منّا هو بطل قصة حياته، حتى لو كان دوره في الدراما أن يكون مرحلة في رحلة غادة.

هذا الفهم الحاذق للإنسان، والتقدير لضعفه الأزلي تجاه ما حوله، هي الأرضية التي تتحرك عليها كافة الشخصيات، والتي تمنح أفراد فريق التمثيل القدرة على أن يظهروا جميعًا في ذروة أدائية، تتصدرهم منى زكي بطبيعة الحال. من المسلم به كونها أحد أهم الممثلين الناطقين بالعربية في عصرنا الحالي، لكن الإضافة هنا هو الاستفادة من خبرات السنين وتجاربها في رسم شخصية مادتها الخام هي الخبرات والتجارب. قس على ذلك جميع من يعيشون محملين بأثقال خطايا الماضي: محمد فرّاج ومحمد ممدوح وحسن العدل وشيرين رضا وخالد الصاوي.

لكن النضج نفسه، والإعجاب ذاته، هما ما يجعلانا نقول إن “رحلة 404” فيلم مكتمل إلا قليلًا، كان بحاجة لبعض التساؤلات الإضافية، لبعض التأكيد على أن غادة كما تحتاج لأن تسامح نفسها وتسامح من أساؤوا إليها، تحتاج أيضًا أن تسامح القدر على ما فعله بها.

شارك هذا المنشور