بصفة عامة، لم تكن جوائز “أوسكار” يومًا مقياسًا يُعتمد عليه بشكل موثوق في تقييم مسار السينما ومن أثّروا في تاريخها. يكفي أن نذكّر أن مخرجين بأهمية ألفريد هتشكوك وستانلي كوبريك وأورسون ويلز لم ينل أيهم جائزة أفضل إخراج، وكثيراً ما توج التمثال الذهبي أفلامًا أمريكيةً طالها النّسيان مثل “أناس عاديون” و”شكسبير عاشقًا“، بينما تم تجاهل أفلامًا مهمة مثل “الخيط الأحمر الرفيع” لتيرانس ماليك، و”ثور هائج” لـ”مارتن سكورسيزي” الذي لم يرشح حتى لجائزة أفضل فيلم في مواجهة “أناس عاديون” في 1980.
لكن الاهتمام الذي لاقته أفلام ناطقة بلغات غير الإنجليزية من طرف أكاديمية الأوسكار في السنوات الأخيرة، على غرار “روما” (2018) للمخرج المكسيكي “ألفونسو كوارون”، و”قودي سيارتي” (2021) للياباني ريويوكي هاماغوتشي، وبالأخص تتويج “طفيلي” (2019) للكوري “بونغ جون- هو” بأربعة تماثيل، من بينها أفضل فيلم وأفضل فيلم دولي في سابقة بالنسبة لعملٍ غير ناطق بالإنجليزية. كل ذلك شجع على الأمل في أن تغدو “أوسكار” أكثر انفتاحًا على السينما العالمية، وأقدر على تقديم انعكاس حقيقة الأفلام المتميزة بمقاييس السينما أولًا، قبل حسابات الجنسية وشهرة الممثلين، ونفوذ الجهات المنتجة، ومدى فعالية حملات التوزيع والترويج.
توزيع غير منصف
أوسكار أفضل فيلم أجنبي، كما كان يُطلق عليها قبل 2020، ظلت منذ بداية منحها عبر تصويت أعضاء الأكاديمية في 1957 بعيدة عن عكس حقيقة السينما العالمية، وإنصاف البلدان التي حققت تراكمًا كميًا ونوعيًا لافتًا في فترات معينة من تاريخ السينما، فجنحت إلى مركزية أوروبية بيّنة، أدت إلى هيمنة دول غرب القارة العجوز، وعلى رأسها إيطاليا (14 فوزًا منها 3 شرفية) وفرنسا (12 فوزا منها 3 شرفية). ووحدها اليابان كسرت القاعدة (5 جوائز منها 3 شرفية).
صحيح أن الأمر قد يبدو بديهيًّا بحكم المكانة المتقدمة التي كانت تلك الدول تحتلها في تاريخ صناعة السينما -كما في حالة إيطاليا- أو لا زالت تحتلها – كما في حالة فرنسا-، وكذلك قيمة الأسماء التي صنعتها مثل فيديريكو فيلّيني (4 جوائز) وفيتوريو دي سيكا (4 جوائز) ورينيه كليمون (جائزتان). ولكن؛ على سبيل المثال، السينما السوفياتية على عظمتها لم تفز سوى بثلاثة تماثيل، ما يضعها في نفس مستوى السينما الهولندية!
وهل يعقل أن دولة محورية صناعةً وفنًا مثل الهند لم تفز ولا مرّة واحدة، مكتفيةً بثلاثة ترشيحات نهائية؟! وأن العصر الذهبي الذي مرت به السينما المصرية والمخرجين الكبار الذين أنجبتهم (صلاح أبو سيف، يوسف شاهين…)، ومكانتها في الوجدان العربي، والتأثير العميق الذي طبعته على سينمات الجنوب، لم يشفع كل هذا لها لتنال ولو ترشيحًا نهائيًّا واحدًا رغم تقدمها ب36 ترشيحًا، ما يضعها في المرتبة الثانية بعد البرتغال في لائحة الدول الأكثر تقدمًا بالترشيح من دون مكافأة!
كيف نستوعب أن الإيراني عباس كيارستمي الذي وُصف من طرف جان لوك غودار بكونه آخر من تمكّن من تطوير لغة السينما “السينما تبدأ مع غريفيث وتنتهي مع كيارستمي“، لم تفز أيٌ من أفلامه بالجائزة، بل ولم تُرشّح أي منها نهائيا؟!
كل هذه مؤشرات دالة على حجم الإجحاف الذي طبع توزيع جوائز أفضل فيلم أجنبي.
تكفي نظرة خاطفة على لائحة الأفلام المتوجة بجائزة أفضل فيلم أجنبي/ دولي، ليخلص المرء إلى أن الكثير منها طواها النسيان، بينما أعمال أخرى طبعت ذاكرة السينفيليين على مرّ العصور، لا نجد لها أثرًا في اللائحة. كما حدث في أوسكار 1991 كمثال، بتتويج “رحلة الأمل” للسويسري زافييه كولير، بينما ترشّح “جو دو” للصيني زانغ ييمو، وغابت أفلام كبيرة مثل “حياة فيرونيك المزدوجة” للبولندي كريزيشتوف كيشلوفسكي و”يوم صيف أكثر لمعانًا” للتايواني إدوارد يونغ.
نظام ترشيح إشكالي
أولًا، الدودة توجد آنفًا داخل التفاحة كما يُقال، لأنّ نظام توكيل مهمة اختيار الأفلام المرشحة إلى الدّول من خلال لجان يُفترض أنها مستقلة، لا يفضي في أحيان كثيرة إلى انتقاء أفضل ما أنتجته السينما في كل دولة. بغض النظر عن انعدام شروط الاستقلالية في بعض اللّجان، والمحاباة المصلحية أو الزبونية التي قد تسود الاختيارات، فإن السياسة تدخل في الاعتبار مؤدّيةً إلى إقصاء سينمائيين بارعين وضعت أسماؤهم في لوائح سوداء، فقط لأن آراءهم أو أفلامهم لا تروق الأنظمة المهيمنة، وهذا ما حدث مرارًا في إيران على وجه التحديد. ولعل أدلّ حالة لتدخّل سياسي صارخ في الترشيحات في 2024، هي وقوع الاختيار على “الفلاحين” للزّوجين ديكا وهيوغ ويلشمان لتمثيل بولندا، بدل “حدود خضراء” لأغنيشكا هولاند، الذي نال جائزة لجنة التحكيم بفينيسيا، ذلك الفيلم الذي تطرق بنفس إنساني لثيمة ذات راهنية قصوى، هي قضية اللاجئين، ارتكازًا على أزمة الحدود بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي. لكن المخرجة تعرضت إلى حملة من الانتقادات والتشهير على وسائل التواصل الاجتماعي، وصلت إلى حد وصمها ب”النازية التي تنتهج لغة الشيوعيين الستالينيين” من طرف وزير العدل البولندي، ما لا يدع أي مجال للشك في البواعث الانتقامية وراء حرمان فيلمها من الترشح.
من جهة ثانية، وعلى افتراض النزاهة والاستقلالية في اللّجان، فإن السؤال يُطرح حول معايير الانتقاء المُنتهجة. هل من المفروض أن يختار أعضاء اللجنة ما هم مقتنعون بأنه أفضل فيلم أنتج في العام من بين الأفلام المستوفية للشروط، وفق معايير سينمائية صرفة؟ أم العمل الأوفر حظًا للوصول إلى الدور هو العمل الموالي لتفضيلات أعضاء الأكاديمية بناء على الأفلام المرشحة والمتوّجة في الأعوام الأخيرة؟
ولعل أبرز مثالين على ذلك اختيار “أيّام مثالية” للألماني فيم فيندرز لتمثيل اليابان بدلاً من “وحش” لهيروكازو كوري إيدا، المتوج بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان. وتفضيل “شغف دودان بوفان” للفرنسي من أصل فيتنامي تران آن هانغ على “تشريح سقطة” لجوستين ترييه، الذي كانت كل التوقعات ترشحه بعد فوزه بالسعفة الذهبية، ما أدى لوقوع ضجة في فرنسا، حيث تساءل المنتج سعيد بنسعيد إن لم تكن اللجنة قد فُصّلت خصيصًا لعقاب ترييه على خطابها المنتقد لتوجهات الحكومة الفرنسية في “تهميش الحركة ضد إصلاح التقاعد” و”سلعنة الثقافة”، ضجّة تجدّدت بعد تتويج فيلمها بجائزة “غولدن غلوب” لأفضل فيلم بلغة أجنبية، ما شكل نوعًا من ردّ الاعتبار لها بعد تحسّر المراقبين حول غياب الفيلم عن لائحة أفضل فيلم دولي.
بعد تتويج “تشريح سقطة” بخمسة جوائز من بينها أفضل فيلم، وأفضل إخراج، وأفضل سيناريو، برسم الدورة 36 لجوائز الفيلم الأوروبي ببرلين؛ طُرح على المخرجة وممثلتها الرئيسية سؤالٌ حول دوافع عدم ترشيح الفيلم لأوسكار أفضل فيلم دولي من طرف فرنسا، فأجابت ساندرا هولير: “هذا ليس قرار فرنسا، بل اختيار 5 أشخاص في مكتب مغلق. قرار حفنة من الناس، أحترمهم، لكنه لا يعبّر عن عدد هائل من الأشخاص شاهدوا الفيلم بفرنسا وخارجها”. ولعل بقاء كلًا من “أيّام مثالية” و”شغف دودان بوفان” في اللائحة القصيرة للأفلام ال15 المرشحة يوضح تعقيد الجواب على السؤال أعلاه حول معايير الانتقاء وصعوبة الحكم على اختيار اللّجان.
جذب الأنظار
عوامل أخرى معقّدة تدخل على الخط، بعضها مرتبط بمحاباة طبيعية تعيد تكريس الواقع. أي أنّنا بصدد حلقة مفرغة يُسلَّط بموجبها الضوء بشكل منهجي على أفلام الدول المهيمنة أو التي سبق لها التتويج، حيث تتلقى بشكل طبيعي اهتمامًا أكبر من المصوّتين، وتحظى بالتالي بحظوظ أوفر للفوز. أي أن عضو الأكاديمية غير المجبر، في المرحلة الأولى من التصويت، على مشاهدة كل الأفلام ال88 المقدمة من طرف الدول المترشحة لجائزة 2024، حين يتملكه الفضول لاكتشاف أفلام أخرى غير تلك الواردة في اللائحة الموكل إليه مشاهدتها من طرف الأكاديمية، سيمنح في الغالب الأسبقية للعمل القادم من فرنسا أو اليابان على آخر تقدمت به البنغلاديش أو لاتفيا.
وينبغي القول أن حصول فيلم ما على جوائز مهمة في مهرجانات الصف الأول (كان، برلين وفينيسيا)، يسهم بشكل كبير في جذب الأنظار إليه، حتى لو كان من دول غير مهيمنة، ولعل هذا ما أتاح لـ”كذب أبيض” للمغربية أسماء المدير الفائز بجائزتي أحسن إخراج في فئة “نظرة ما” والعين الذهبية لأفضل وثائقي بكان، فرصة الترشح في اللائحة القصيرة لأوسكار أفضل فيلم دولي، وبدرجة أقل لـ”بنات ألفة” للتونسية كوثر بن هنية، الفائز بـ”العين الذهبية” لكان مناصفة. لكن فيلم الأخيرة يتوفّر على حظوظ أكبر للذهاب أبعد، بحكم ترشحها في فئة “أوسكار أفضل وثائقي” أيضًا، والتركيبة “الانفجارية” لطرح عملها بحكم تطرقه لثيمة إنسانية بحساسية أنثوية طافحة، إضافة لتفكيك ميكانيزمات التطرّف الديني الذي مسّ المجتمعات العربية بعد الربيع العربي.
في النهاية، هناك حقيقة الجوائز من جهة وحقيقة السينما من جهة أخرى. قد يحدث أن يلتقيا بين الفينة والأخرى بحسب توجهات المهرجانات والأكاديميات واختيارات اللجان. لكن وحده الزمن يعكس حقيقة السينما، حين تترسب الأعمال الجيدة في ذاكرة السينفيليين، بينما يذهب الغثاء مع سيل الدهر، حتى لو سُلّطت عليه أضواء الآنية البرّاقة، وتُوّج بأفخم الجوائز وأكثرها شهرة.
اقرأ أيضا: «تشريح سقوط»: دراما عن الحقيقة والأكاذيب وخداع الذات