فاصلة

مراجعات

آكي كوريسماكي في «أوراق متساقطة»: لولا الحبّ…

Reading Time: 5 minutes

إذا كان هناك شيء يأسر القلب في فيلموغرافيا الفنلندي آكي كوريسماكي، فهو سهولته في تشكيل شيء ملموس… في أن يكون منتقمًا ومنمّقًا ومناضلًا سياسيًّا واجتماعيًّا وصاحب موقف حازم في خطابه، بعيدًا عن الصوابية السياسية المثيرة للسخط.

في أفلامه، تحضر الماركسية، والوعي الطبقي، وبورتريه لمجتمع لا يتجنّب فيه سلوك الدروب غير المريحة. تحضر أيضًا خفّة تجعلنا نشعر، نتأمل، ونبتسم من دون الضجة والتكلف اللذين يتمّ بهما الحديث عن السياسة والمجتمع عادةً في الفنّ السابع. باختصار، هناك رؤية واضحة، فهم لنغمة تحوّل المشاهدة إلى تجربة سهلة ومتساهلة تحافظ على اتساقها وخفة حركتها، وروح دعابتها الحادة، من دون أن تفقد أي شيء ذي أهمية على طول الطريق. 

أسلوب السينمائي الفنلندي محكم للغاية، يمكن التعرف عليه بسهولة، إلى درجة أنّ أفلامه، بدلًا من أن تكون كيانات مستقلة، تدعونا إلى مقاربتها بصفتها حبكات فرعية لفيلم واحد مصنوع من الفكاهة الصامتة والعبثية الممزوجة بالكآبة والمرارة، وفيها يتنفّس كوريسماكي إنسانيته ونبله وتواضعه الحكيم، بينما يلتقط الواقع من دون أطروحات نظرية أو تفسيرات فائضة عن الحاجة. وحده الحبّ وطبعًا الصداقة هما الحلّ الافتراضي للبقاء على قيد الحياة.

fallen leaves " أوراق متساقطة"

بعدما أعلن اعتزاله السينما عام 2017، عقب عرض فيلمه “الجانب الآخر من الأمل”، عاد كوريسماكي وتوسّع بطريقة غير رسمية، بثلاثيته الشهيرة (ثلاثية البروليتاريا) التي تضمّ “ظلال في الجنة” 1986، و”أريال” 1988، و”فتاة مصنع الكبريت” 1990. وفي جديده “أوراق متساقطة”- 2023، تتناثر الأحاديث أحيانًا لتغازل الجمود الذي يوحي بالتقاعس. وأحيانًا أخرى، تؤكد فقط على السخرية والفكاهة.

يقدم كوريسماكي مرة أخرى فيلمًا آسرًا عن المشاعر التي تتغلب على عبثية الزمن والوجود، في عالم تنخفض فيه درجة الإنسانية في مواجهة الشركات والأعمال والسياسة التي تغذي الصراعات العسكرية. فيلم عن روحين معذّبتين: فتاة تحافظ على كرامتها ونواياها الطيبة رغم كل شيء، ورجل لم يجد حتى اللحظة التي التقيا فيها، سوى إدمان الكحول ووظائف غريبة.

fallen leaves " أوراق متساقطة"

 في الفيلم، هناك سعادة في الحزن. سعادة تتحدى المشاهد وتجعله يبتسم ولو كان كل شيء مؤلمًا وكئيبًا. وعلى الرغم من أنّ العنوان يشي بالكآبة والموت، إلا أنه يوفّر بشكل غريب الدفء الغامر. هكذا، يخبرنا “أوراق متساقطة”: قصة حبّ في خضم حياة لا معنى لها في هلسنكي. تضيع روحان بين التعايش الروتيني في المصانع والسوبرماركت، والهروب المحبط إلى صالة السينما وحانات الكاريوكي، وهما تحاولان أن ترافقا بعضهما لجعل أيام العجز الاجتماعي أكثر احتمالًا.

fallen leaves " أوراق متساقطة"

يقدّم الفيلم شخصيات الطبقة العاملة التقليدية لسينما كوريسماكي. من ناحية، لدينا أنسا (ألما بويستي) التي تعمل في سوبرماركت، وفي نهاية يومها تعود إلى غرفتها الصغيرة وسريرها المنفرد، حياتها وحيدة ومملّة. من ناحية أخرى، يوجد هولابّا (جوسّي فاتانين)، الذي يعيش أيضًا في غرفة صغيرة، لكنه ليس وحيدًا، يتشاركها مع زميلين آخرين. هاولابا يشعر بالاكتئاب، ويعالجه بالكحول. ما يلي بعد ذلك، هو القصة الكلاسيكية لصبي يلتقي فتاة، لكن بوتيرة كوريسماكي. يلتقي الاثنان “تقريبًا”، يتحدثان، يتناولان العشاء، يذهبان إلى السينما. وبين كل هذا، يسود الصمت، والكلمات والحياة تتآمر ضدهما. قصر لحظاتهما معًا والظروف التي أعقبتها، تعني أنّ الزوجين الأفلاطونيين محكوم عليهما بالعيش منفصلين. واقع لا يرغبان في قبوله، فيقرران خداع القدر.

أوراق متساقطة

على الورق، ليس سهلًا بناء فيلم كامل بمثل هذا الصراع البسيط: رجل وامرأة في فنلندا المعاصرة، يلتقيان ويقعان في الحب ويبتعدان ويلتقيان مرة أخرى. مع ذلك، في واقع الشاشة، لا يمكن أن يكون هذا شيئًا أكثر طبيعيةً بالنسبة إلى مخرج يتمتع بحكمة كوريسماكي، الذي لا يخشى أن يحبّ شخصياته المهمّشة. مشاهد كوريسماكي حضرية منعزلة، صوِّرت كما لو كانت الكاميرا مغمورةً في لوحة لإدوارد هوبر، تم تصويرها بواسطة تيمو سالمينن كما دائمًا مع سينما الفنلندي. والموسيقى كما هي الحال في معظم أفلامه، تشكّل إحدى القوى الدافعة الأساسية في تحديد تطور الرومانسية بين أنسا وهولابّا. هي مكوّن نشط يندمج مع الجو الذي ينبعث منه الحنين والسجائر، ممزوجًا بأثر الكحول الذي يهرب إليه الابطال البروليتاريون من واقعهم المشؤوم.

fallen leaves

“أوراق متساقطة” ليس فيلمًا يخلق شيئًا ليس موجودًا، ولكنه يعرف كيف يبسط هذا الوجود، ويبنيه من البساطة من دون كلمات كبيرة أو مشاهد منمّقة. فيلم ساحر يرتبط بالحياة، والفكاهة السوداء وبمنظور سياسي عميق وراديكالي واستكشاف الوحدة والوعي الطبقي. ويؤكد، مرة أخرى، على أنّ صناعة مثل هذه السينما المصقولة هي موهبة محفوظة لعدد قليل جدًا من المخرجين. نحن نتحدث عن فيلم يجعل من السينما مكان لقاء وصداقة، والأمل والملجأ عندما تهبّ الريح.

 في “أوراق متساقطة”، تتضاعف الاقتباسات السينمائية، وتنقل قصة بالرصانة الايمائية لممثليها، من “لقاء قصير” 1945 لديفيد لين، و”علاقة حب” 1939 لليو مكاري، والمال 1983 لروبير بروسون، وطبعًا “الموتى لا يموتون” 2019 لجيم جارموش. تتشابك الأيدي البروسونيّة والنكات المضحكة عن صديق كوريسماكي الأميركي جارموش. وفي سياق الرومانسية والمدينة وأضوائها، ليس عبثًا أن يأخذ كلب أنسا اسم تشابلن، وينطق في إحدى أجمل لحظات الفيلم.

fallen leaves

لا ينظر الفنلندي إلى الحرب الروسية الأوكرانية عن قريب، لكنّه لا يدفعها بعيدًا، بل يحوّلها إلى ذلك العنصر الذي يسبّب الأذى بمجرد وجوده على الراديو أو في المحادثات. تظهر كشيء مرعب ومؤلم، يرفع رأسه عاليًا ويشكّلنا كمجتمع. لكن “أوراق ميتة” سياسي تمامًا مثل الحياة، بالمصادفة، بينما نجد أبطالنا عالقين في كل العقبات في تاريخ السينما، سواء كان رقم هاتف تطيّره الرياح أو إدمان الكحول. هؤلاء الأبطال نعرفهم جيدًا، رأيناهم سابقًا، ونلتقيهم من جديد في الفيلم يصيحون بأغنيات فرقة “هوريكاين” أو أغنيات توشيتاكي شينوهارا، بينما يتركنا كوريسماكي في النهاية مع موسيقى أغنية “أوراق الخريف” للهنغاري جوزيف كوزما.

يبدو العالم الذي تعيشه الشخصيات كما لو كان بالأمس. لا تزال الهواتف الأرضية متّصلة بسلك، وأجهزة الراديو كأنها تعود إلى الخمسينيات. ليست الملابس أكثر حداثة، ولا نرى تلفازًا، وعندما يتمّ إجراء مكالمة هاتفية ــــــ من هاتف خلوي ـــــ فإن هذه الأجهزة ليست حديثة، بالكاد جهاز نوكيا من الجيل الثاني. لذلك نشعر بأنّ أحداث الفيلم لا تدور في الواقع الفنلندي، بل في واقع كوريسماكي، حيث يعيش أناس وحيدون يتحمّلون مصيرهم بصبر. وعندما يفتحون أفواههم، ينطقون بجمل مقتضبة. وكما يبدو كأنهم يعيشون في الثمانينيات، يظهرون كأنهم بالفعل خارج الزمن بطريقة أو بأخرى. لذلك، عندما تُذكر الحرب الروسية الأوكرانية مرارًا على الراديو، فإنّ هذه الفواصل تبدو متطرفة بشكل خاص، وهذا بالتحديد ما يخلق الخلود في سينما مخرجنا العظيم.

كل كلمة في “أوراق متساقطة” لها وزنها، ناهيك عن تصميم الإنتاج المرتب للغاية، والحوار الجاف جدًا إلى درجة أنه يكاد يتفتّت. في نهاية الفيلم، تقوم أنسا بحلّ الكلمات المتقاطعة، بحثًا عن مرادف لكلمة “خطر” مؤلفة من ستة أحرف، وتنظر إلى حروفها. تلك هي الحال مع آكي كوريسماكي، لا شيء معقد؛ فالحياة كلّها هنا، لكن عليك أن تنظر وتنتظر فحسب.

اقرأ أيضا: “حيوات سابقة”… حكاية جديدة عن مثلث الحب المستحيل

شارك هذا المنشور