فاصلة

مقالات

السينما السعودية في مواجهة النقد «القضعاني»

Reading Time: 6 minutes

في «مندوب الليل» تلم الأقدار بـ«فهد القضعاني»، بطل الفيلم، فينعزل عن مجتمعه السريع التبدل والتغيير؛ ليجد نفسه ينزاح إلى هامش مجتمعه، بل ربما ينزاح إلى خارج إطاره كُليًّا. 

«مندوب الليل» الذي يعد من أنضج تجارب السينما السعودية والذي عرض للمرة الأولى في الدورة الفائتة لمهرجان تورنتو ثم شارك في الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، نرى فيه بطلنا ضائعًا في شوارع الرياض وأزقتها، يظن أنه خبرها، إلا أنها بكاملها باتت غريبة عنه؛ لأنه في عزلته اغترب عنها وفاته التكيُّف والاتساق مع إيقاعها. 

بطل «مندوب الليل» هو نموذج لكثيرين في مجتمعاتنا من غير القادرين على الانسجام مع تغيُّر العالم من حولهم على رغم حضورهم في القلب منه. السينما أداة ترصد غير المرصود، ووسيلة إبداعية لإبراز ما يخفى، وهي الفن فن قد يعتني بالرصد، إلا أنه ليس من وظائفه تقديم الحلول؛ فهي تقدم لمجتمعها الكثير، إذ ترصد أبعاد الصورة وتتعمق فيها؛ لتقدم لمُشاهِدها من خلال شخوصها، كـ«فهد القضعاني»، تشخيصًا مبدعًا يتعاطف مع أبطاله ويقدم أصواتهم، وإن كان الصوت مشوشًا أو غامضًا على المتلقي، تمامًا مثلما تجاوبت الرياض الغريبة بظلمتها مع انعزال «القضعاني» عن تحولاتها الحديثة.

ما يُعجبني حقًا في نموذج القضعاني، والذي يمكن إسقاطه بسهولة على مختلف خطوط الحياة، هو تعبيره عن حالة الغياب عن السياق على الرغم من كونه جزء من النسيج العام، والتأثير العميق لمثل تلك الحالة على المتلقي/ المشاهد. هؤلاء الأشخاص حولنا، يوجدون في واقعنا لكنهم عاجزون عن الاتساق مع حركته، مما يجعل في مواجهتهم للواقع اغترابًا عنه، واحتقانًا ضده. ليس لكون ما يرونه شرًا؛ بل لأنهم من فرط انفصالهم عنه باتوا غير قادرين على إدراكه.

القضعاني

النقد «القضعاني»

يصف كثيرون الحالة العامة للسينما السعودية في عام 2023 بأنها خطوة نشّطت العمل النقدي ولفتت انتباه المستهلك صحيًّا، وإن بشكل سلبي، إلى تأثير هذه الأفلام ومدى مركزيتها في الحياة اليومية. هذه الفكرة، بكل ما تحمله من تفاؤل وإيجابية، تمثل رؤية قد لا تعكس حقيقة الحالة النقدية القائمة. من المفهوم طبعًا أن يكون هناك احتفاء بحالة الحوار ولكن من دون الانجراف إلى تبجيل الحالة إلى الحد الذي يغطي على مضمون الحوار نفسه؛ فهذا المضمون قد يحمل ضررًا يتجاوز الفائدة المرجوة من دوران الحوار. وهنا أشير إلى ما قيل نقديًا عن فيلمي «مندوب الليل» و«ناقة» المعروضين مؤخرًا؛ إذ يأتي الحوار الدائر عن السينما مفتقرًا إلى كل ما يُعنى به الفن السينمائي؛ إذ وجدنا التلقي النقدي فكريًّا محضًا. أما التناول الذي يمكن أن ننظر إليه بوصفه متقدمًا في تيار هذا الحوار فقد أتى بدوره متأخرًا عن الوظيفة الإبداعية التي ترتكز السينما عليها، ليعود بنا الحال، على رغم الطفرة السينمائية، إلى أدوات ومنطلقات التعليق والتحليل المتقادمة نفسها، التي طالما استخدمها النقاد والكتاب في السنوات الماضية عند مراجعة أعمال الدراما التلفزيونية، والتي تقرأ الإبداع في إطار التحليل الاجتماعي الذي يجنح إلى دراسة الظواهر التي تتعرض لها الدراما في سياقها العلمي، ويختتم باستنتاج يسعى إلى تقديم حكم منهٍ بالتوصيات، التي تهدف أما إلى الضبط وإما إلى المصادرة. أما الفن فلا يؤخذ في الحسبان. 

ذلك أن هذه الرؤية عندما تتطرق إلى الصفات الفنية والسينمائية لهذه الأعمال فبالطبع ستتناولها بشكل عابر ودون عناية، مكتفيةً بترديد الجمل المعتادة التي تتضمن التأكيد السطحي لضرورة الاتزان بين الأدوات، وأهمية الالتزام بالحكاية كمنطق وحيد للتفاعل، وهذا يلمح إلى عدم هضم أي شكل من أشكال التجريب ولا المشاكسة البصرية، وهذا الاتجاه في ذاته يستبعد مباشرةً وظيفة النقد السينمائي عن سياق الأفلام، ويفتح باب الفجوة الهائلة بين العنصر التقني والتجسيد الدرامي، لتغدو القراءات السينمائية كأنها «فهد القضعاني» نفسه. تدور الكاميرات وتُصنع الأعمال الفنية وتتطور بتسارع مع تطور المجتمع السعودي، على حين يعجز النقاد عن التكيف والاتساق، في إصرار منهم على العزلة والبقاء أسرى خطاب وأدوات تنتمي إلى زمن فائت.

 هكذا يُتعامَل مع السينما بوصفها خطابًا أو مقالًا يُنتظر منه تقديم اتجاهٍ فكريٍّ أو ترفيه يسهل هضمه، من دون تلقي الاتجاه الابداعي الذي يميّز فيلمًا عن فيلم، ومخرِجًا عن آخر. لا يعود ذلك إلى محاولة واعية من «الناقد القضعاني» للإضرار بالمنتج السينمائي، ولكنها عزلته وعدم قدرته على إدراك الاحتمالات التي جاءت بها هذه الوسيلة الجديدة، ولا مكانتها الرمزية داخل دائرة المجتمعات، التي ليس من واجب هذه الأفلام بالطبع أن تمثلها فكريًا.

فلا يخفى أن الملاحظة النقدية الأكثر شيوعًا لفهم هذه الأفلام استندت بشكل واضح إلى التقييم الأخلاقي المشترك فيها، والذي يرجع إلى فرضية مطلقة تفترض ضرورة بناء العالم من خلال الفضيلة، والانطلاق إلى العوالم الشائكة بهدف تجسيد المثال المحتذى به في مواجهة المنعطفات التي يمر بها المجتمع. ويتميز هذا النهج بميله نحو إعطاء قدر من الأهمية للقيم، بطريقة قد لا تخدم بالضرورة مصلحة السينما السعودية، التي على رغم تباين تقديرنا لها إلا أنها حققت في وقتٍ قصير تقدمًا كبيرًا في خلق خصوصية لها تميّزها عن الدراما التلفزيونية.

وعن هذه الأراء ارتفعت أصوات وأقلام بعض ممّن قالوا إنهم نقاد (سينمائيون)، تزأر بأن هذه الأعمال سلكت طريقها بشكل مشترك إلى بؤر الفساد أو الجانب الآخر الذي يعد نقطة في دائرة ضخمة من الصورة العامة، وعندما يستمر التفسير في هذه الملاحظة تتجه الإحالة إلى أن لذلك علاقة تعود إلى الهوس المشترك لدى صنّاعها في هذا الجانب؛ وهو ما يفسر أن أعينهم ترى في الإنتاج السينمائي كل شيء إلا السينما، عند من تُتوقع منهم «السينمائية» في تناول هذه الأعمال، من الذين سعوا إلى التفكيك السطحي للوصول إلى الحكم السهل، الذي يعزز ذاتية الناقد من جهة، ويُلبِس هذا الطرح الشعبوي طابعًا نخبويًّا من جهة أخرى.

هذا الخطاب الساعي إلى اكتساب الأنصار لا إثراء المشهد السينمائي والنقدي هو ترسيخ لثقافة النخبة مقابل العوام، وليس فيه تعميق مسؤولية الناقد السينمائي تجاه الأفلام مقارنةً بالمُشاهد -وهو حجر الأساس في تجربة العرض السينمائي-.

هذه الملاحظة التي يساوم عليها الأغلبية هي نقطة لا تسعى إلى بيان المشهد العام، ولا تفسّر العلل الفنية، ولا توضح التقاطعات السردية لهذه الأفلام بما يسهم في إيجاد عقلية تعي باتجاهاتها، ولاسيّما في تجاهل تلك القراءات كثيرًا من التوجهات السينمائية المشتركة بين تلك الأعمال التي قد يدركها أي سينمائي فاحص، مثل كونها جميعًا من بطولة شخصيات في فئة عمرية واحدة (أي نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات) كما نجد في أفلام: «سطار» و«مندوب الليل» و«ناقة» و«الهامور»، أو في مثال أكثر تفصيلًا، وهو أن كل هذه الأفلام تكونت قاعدتها السردية وبُنيت جميع تصاعداتها على ثورة البطل على إيقاع حياته اليومية، وذلك بقرار لا يتّخذه عقلانيًا، لكن برغبة ذاتية قوية تخاطر الشخصيات فيها بحالة الاستقرار التي تعيشها.

نرى ذلك بوضوح في اختيار شخصية «فهد» في «مندوب الليل» لكرامته، وإن كلفه الأمر انقلاب حياته رأسًا على عقب. وعند اختيار «سارة» في «ناقة» التمرد ومن ثم الانتقام بعنف من كل من حاول إلحاق الضرر بها وإن كلفها ذلك حياتها، وعند «سعد» في «سطار» الذي اختار اتباع شغفه مفضِّلًا إياه على زواجه المقبل وعمله الذي هو مصدر رزقه، وعند طارق في «الخطّابة» الذي اختار الانقياد لرغبته في «سلمى» وإن كان ذلك في أبعد البقاع عنه، إلى شخصية «حامد» في «الهامور ح.ع» الذي غامر كما لو أنه ليس لديه شيء يخسره، وصوّب اتجاه حياته نحو تغييّر كل شيء من أجل الوصول إلى أقصى الرغبات. وثمة أمثلة أخرى تفسّر العلاقة بين المخرجين وسينماهم معًا. وكذلك ثمة أمثلة أخرى قد تفسّر الفوارق بين عمل عن آخر، ونوع عن نوع.

 هذه الحالة النقدية التي نتناولها هنا ليست «قضعانيةً» فحسب، بل قد تعود إلى «ديليتانتية» (Dilettante) كذلك، أي حب الثقافة عمومًا دون الاختصاص في مجال فني محدد. لكن عندما تحين التحديات الكبرى، يظهر ميل هذا «الديليتانتي» الذي اختار النقد السينمائي اليوم بأن يُعبر بكلام يمكن قوله في أي وسيط (التلفاز، الرواية، المسرح) بعيدًا كل البعد عن خصوصية السينما، دون تمكُّنٍ يساهم بجعل المخرج فاهمًا لأدواته، ولا يرتقي بالقارئ لينظر بشكل أعمق إلى الوسيط السينمائي على نحو يميّزه عن الفنون الأخرى.

وتأكيدًا لـ«الديليتانتية»، نرى هؤلاء في مناسبات عدة يتخذون من السينما الإيرانية مثالًا على مخرجي السينما السعودية اتباعه، بناء على أنها تمثل الحالة الجمعية هناك، وأنه يجب على المخرجين السعوديين تجسيد الحالة هنا بالطريقة نفسها. سأتجاهل فكرة أن هذا الاعتقاد منتشر لدينا بالتحديد أكثر من انتشاره في بلده، لكن ما قد يجهله هذا «الديليتانتي» هو أن أكثر الغاضبين في العالم من أعمالهم هم الإيرانيون أنفسهم، الذين يرون هذه الأفلام مُنتجًا صُنع لاستهداف الجمهور الغربي، أو لـ«ديليتانتي» متذوق للثقافة الفارسية في مكانٍ آخر من العالم.

فليس النقاد ولا الجمهور الإيراني، بخاصة في العقد الأخير، يرون في تلك الأفلام تمثيل مشكلاتهم أو أفكارهم ولا سردياتهم. وبدلًا من ذلك بُنيت معظم الأعمال للتوافق مع المزاج الأوربّي، حتى في أدق العناصر، مثل الحوارات التي يستشهد بها «الديليتانتي» لدينا كمثال للعفوية والعمق دفعة واحدة، في حين يعدها الإيرانيون اصطناعًا لتلقائية أحبها الأوربيون في سينما إيرانية سابقة. كيف لا ومعظم هذه الأفلام من إنتاج فرنسي أو ألماني بالكامل، مستهدفين بشكل مباشر الاعتراف في المهرجانات الكبرى، ومن ثم الانتقال إلى الأسواق الأوربية بوصفها السوق الرئيسة لها.

إن مجرد العتب على المُنتَج السينمائي لتركيزه على الدراما الفردانية مقابل التعبير الجمعي الشامل للمجتمع في عام 2023، هو بحد ذاته غياب عن الوقت الذي نعيشه، وهو أكثر تجلٍّ «قضعاني» لعدم القدرة على الاتساق مع الزمان والمكان، وغياب القدرة على مواكبة الوسيط. وكما نرى في «مندوب الليل» تأخر «فهد القضعاني» عن مدينةٍ تتقدم بكل عنف وتتغير بكل سرعة؛ فإن على السينما ألّا تتوقف عند هذا النوع من النقد الأخلاقي أو الفكر «الديليتانتي»، بالطريقة نفسها التي لا تتراجع بها الرياض لتنتشل «القضعاني» من الركام الذي هو عالقٌ فيه. 

اقرأ أيضا: لمحات من السينما السعودية: من سينما الأحواش إلى البحر الأحمر

«مندوب الليل».. وحيدًا في مواجهة المدينة

 

شارك هذا المنشور