فاصلة

مراجعات

“باب الشمس”: ما بين الرحيل والعودة يقع الفرد الفلسطيني

Reading Time: 4 minutes

خلق الملاحم السينمائية يتطلب حرفية عاليّة من ناحية انتقاء التقنية السرديّة المُناسبة للحكي، خصوصاً إذا اتسمت المروية البصرية بالانفراجات والامتدادات بحيث تغطي مساحة زمنيّة هائلة وتحشد داخلها سلسلة من الوقائع التاريخيّة المُهمة، فالدراما التاريخيّة تؤسس بشكل جوهري على عُنصري الزمان والمكان؛ كدعامات تاريخيّة، وكُل ما بينهما يُمكن تسميته ب”مساحة اللعب”؛ قوامها الأساسي هو الخيال، بحيث يشغلها المُخرج بأدواته ولُغته البصرية ورؤيته الإبداعيّة، وهذا لا يعني تنحية التاريخي ــ رغم أن بعض المخرجين يفضلون ذلك ــ بيد أن الصُنّاع يُشكّلون حيوات جديدة وينحتون مسارات ترتكز على التاريخي في شكله الأولي ولكنها تسمو فوقه، كشخصيّات ما فوق تاريخيّة، أي أنها مرتبطة بحقبة تاريخية معينة ولكنها شخصيّة سينمائية في الأساس، دائمة التجدد، ويمكن إعادة اكتشافها، بالإضافة إلى كونها تحمل قيمة ذاتية بمعزل عن التاريخي، قيمة فرديّة إنسانيّة وكونيّة، كما في شخصيّات ملحمة “باب الشمس” في جُزئيها “الرحيل” و”العودة” من إخراج يُسري نصر الله، المقتبسة من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب ألياس خوري الذي شارك نصرالله ومحمد سويد في كتابة سيناريو ضخم استغرق تصويره حوالي عام كامل ما بين سوريا ومخيمات لبنان، ليُعيد مهرجان لوكارنوترميمه بعد أن عُرِض في المهرجان ذاته عام 2004، إلى جانب عرضه على هامش مهرجان الجونة السينمائي، وتقفز إلى الأذهان مرة أخرى أهميّة الفيلم على المستويين السينمائي والتاريخي.

رغم وحشية السرديّة التاريخيّة على أرض الواقع، لم يتخلى نصرالله عن السياق الحالم، بداية من موازاته السرديّة لواحدة من أعظم مرويّات المخيال الشرقي “ألف ليلة وليلة”؛ فالمرويّة الشفهية كعُنصر محفّز داخل إطار الحكاية الأساسيّة هي ما يُحرك الأحداث بشكل تداخلي، شهرزاد تغمر شهريار بالحكايات لتمنع عن نفسها الموت، وخليل يروي قصة حياة يونس في محاولة لإنقاذ يونس نفسه، كنوع من مراوغة الموت؛ لتتبدى القصص كآليات دفاع أولى، ويتجسّد الحكي كمحاولة للتداوي، الجدير بالذكر أن الحكاية تروى من ذاكرة بديلة، لم تعش الأحداث كلها ولكنها تلقتها شفهياً، فكرة الذاكرة البديلة ذاتها واحدة من الأفكار الأساسيّة للفيلم، فالقضيّة لا تُختزل في الوثائق أوأوراق الاتفاقات، ولكن جُزء كبير منها ينتقل شفهياً، أن تحكي يعني أن تبقى موجوداً، أن يكون لك صوت.

يتحرك نصر الله من العُنف كطبقة أوليّة على السطح، عُنف سائد تؤجّجه شمس (حلا عمران) ثُم يتحول إلى الفلاش باك على لسان الراوي العليم خليل (باسل خياط) في تناوب بين الماضي والحاضر؛ ليحكي أقاصيص جوهرية وينتقل إلى طبقات أكثر عمقاً في أزمنة سابقة شكّلت معاناة اللحظة الآنية، يرصُد المخرج أبطاله بلغة بصريّة شاعريّة تمكنه من ملامسة التاريخ بحساسية مفرطة، لينتج اتصال تاريخي حالم بالقضيّة، أكثر سلاسة لدرجة أن في أشد لحظاتها عنفاً تستسلم لخفقان عاطفي رومانسي.

يرُد نصرالله الأشياء إلى أشكالها الأوليّة، يبنى سرديّته على قصتي حُب في زمنين مُختلفين، الدكتور خليل والفدائية شمس في الزمن الحالي، ويونس (عروة النيربية) ونهيلة (ريم تركي) في الفلاش باك، والحقيقة أن الحُب هو ما تقوم عليه السرديّة بشكل شبه كامل، إلى جانب القضيّة كفرشة أساسيّة وأوليّة، وهو ما يجعل الفيلمأنثوي بدرجةٍ ماــ رغم كونه يؤسس لبيئة رجاليّة في المقام الأول ــ  فالدماء والعرق والبارود أشياء يحتكرها الرجال، بيد أن شخصيّات باب الشمس الأنثويّة تكسر التابوهات بشكل استثنائي، فالحرب كما تصنع رجالاً استثنائية، تخلق نساء خارقات، لا يتعاطى الفيلم معهم كضحايا، فشخصيّة شمس الفدائيّة، وشخصيّة نهيلة الاستثنائيّة تُقدمان للفيلم أكثر مما يقدمه الرجال، لأن الأنثوي ــ في باب الشمس ــ هو ما يُحرر الذكوري المُكبّل داخل أوهامه؛ نهيلة التي كذبت حينما اعترفت لمحقق الشُرطة بممارسة العهر حتى تنقذ زوجها، ومسحت المنديل بدماء من ركبتها المجروحة لتحفظ ماء وجه يونس في ليلته الأولى كزوج، نهيلة التي ربّت الأطفال واعتنت بالأب الأعمى ورفضت مغادرة فلسطين؛ لتُثبت أن الفدائي ليس فقط من يحمل البارودة، وأن فلسطين المقاومة قد سقطت بالفعل، فحياة المقاومين قائمة على بنية فرديّة واحدة، حقيقة ذات وجه جاف، غير أن نهيلة ترى الأشياء بعين أنثوية. 

يتعاطى نصر الله مع مغارة باب الشمس كمكان ميتافيزيقي، بقعة ما ورائية، خارج الزمان والمكان، حيث تتنحى الأحلام المؤجلة بالتحرر  والدوافع الغريزية بالهروب والاختباء، في حين تتأجج رغبة الحُب في كل أشكاله، في باب الشمس عاش كلاهما حياة موازيّة، ليست طوباوية ولكنها أقرب للحياة العاديّة، ليعود نصر الله مرّة أخرى إلى الفرد الفلسطيني، ويصوّر مُبتغاه النهائي، فأحلامه لا تتجاوز العادي واليومي، أن يعيش مع شخص يحبه داخل مكان آمن، أن يعترف العالم به كفرد له حق في العيش، أن يعود إلى أرضه مرّة أخرى، لذلك فمغارة باب الشمس ورغم جوها الميتافيزيقي، ولكنها في الحقيقة إسقاط على بساطة الفرد الفلسطيني، إلى جانب كونها الأرض الوحيدة التي لم تمسها قدم إسرائيلية، أي أنها أرض خفيّة، مبتورة التاريخ، لم ترى الإسرائيلي في الأساس أي أنها تتعامل معه على أنه غير موجود في الأساس، فتمحو التاريخي من جذوره، ما يجعلها بقعة شاعرية في أصلها الجوهري، لأن الإسرائيلي ضد كُل ما هو عاطفي وشاعري، الإسرائيلي وحشي.

يؤسس نصر الله لكُل جُزء لُغة بصرية خاصة، فيبني قُرى كاملة في الجُزء الأول، فيما يبدأ الثاني بطابع تسجيلي، كاميرا محمولة أقرب إلى الريبورتاج الصحفي، تصوّر المنازل المنهوبة، والحقيقة أن نصر الله خلق سرديّة ناضجة ومحكماً بصرياً وسردياً، خصوصاً أن الفيلم رغم طابعه الملحمي الضخم إلا أنه أدبي وشاعري من الدرجة الأولى، وهذا يعود لجودة الرواية الأصليّة لإلياس خوري، والجدير بالذكر أن ترميم فيلم ملحمي مثل “باب الشمس” شيئاً ضرورياً، خصوصاً في ظل الأزمة الفلسطينية الحالية، فالسينما يُمكن أن تكون أداة للتأريخ في بعض الأوقات كما نوّه المُخرِج روبيرتو روسيليني من قبل، لتتجاوز القاعات وتتحوّل إلى أداة لتمرير الحكايات كذاكرة أبدية.

اقرأ أيضا: يسري نصر الله: الحرب لم توقف الفلسطينيين عن صنع الأفلام

شارك هذا المنشور