يبدو كما لو أنّ الأعمال الدرامية في قاعات المحكمة، أو تلك المعروفة باسم «أفلام المحكمة»، صارت موضوعاً كبيراً في الفن السابع الفرنسي خلال السنوات الأخيرة. في العام الماضي، شاهدنا «Saint Omer» لأليس ديوب، وقبله «إني أتهم» (2019) لرومان بولانسكي، وهذه السنة «The Goldman Case» للمخرج سيدريك خان، والعمل الرابع والأجمل والأهم للمخرجة الفرنسية جوستين ترييه في مسيرتها حتى الآن «تشريح سقوط» (Anatomy of a Fall)، الذي فاز بسعفة «مهرجان كان» الذهبية 2023.
انطلاقاً من هذا الواقع، من الطبيعي طرح تساؤل يتعلق بحالة المجتمع الفرنسي اليوم، حيث الأفلام التي تسائلا للقانون والعدالة، تحتلّ هذه المكانة البارزة. في حالة ترييه، فـ «تشريح سقوط» أكثر من مجرد فيلم مَحكمة، وإن كان التشريح له علاقة بفكرة الطب الشرعي المتمثلة في تشريح الحقائق حتى تظهر حقيقة معينة في النهاية.يقدّم «تشريح سقوط»، تشريحاً قضائياً أيضاً، ولكن الأهم أنّهينفذ من خلال تشريح الحقائق، إلى تشريح الأخلاق، أخلاق شخصياته من الموقع الذي تحتله والزاوية التي تنظر منها. كل شيء له معنى في الفيلم، وكل كلمة منطوقة هي فخّ، والتحليلات لا توضح شيئاً، بل تثير المزيد من الفوضى،فالحقيقة ليست مهمة وفق أطروحة الفيلم، اللهم إذا كانت موجودة أصلاً! طوال مدة الفيلم، توقعنا ترييه في أفخاخها، تهندم عملها بألفاظ وكلمات تشكّلها بعبقرية إلى أقصى الحدود، فيما تذوبالحقيقة أكثر فأكثر في كل دقيقة.
القضية قيد المحاكمة تبدو بسيطة للوهلة الأولى: تعيش ساندرا (ساندرا هولّر، بأداء عظيم كما عودتنا دائماً) الكاتبة المتخصصة في الأدب الخيالي، مع زوجها الكاتب صامويل (صامويل تيس) وابنهما الصغير دانيال (ميلو ماشادو غراني) الذي فقد جزءاً كبيراً من بصره بسبب حادث. في أحد الأيام، يسقط الزوج من العلّية ويموت. من حيث المبدأ، يمكن أن يكون الأمر انتحاراً، لكن هناك فرضية أخرى هيالقتل. ساندرا، هي المتهمة، والشاهد الأساسي الآخر هو طفلهما دانيال، الذي ينغمس في صراع حقيقي مع كشف وقائع تتعلّق بأحلك جوانب حياة والديه.
على الرغم من أنّ ما يقرب ساعة ونصف الساعة من الفيلم (يصل إلى ساعتين ونصف الساعة)، يجري داخل المحكمة، إلا أن ترييه استخدمت الجهاز القضائي لإجراء تشريح للزوجين، بالمعنى السينمائي البيرغماني. ليس الفيلم نوعاً من البحث عن الحقيقة عبر نبش الوقائع، بل هو سرد لأسرار الزواج، وتأمّل في الألم الذي ينطوي عليه تذكر الاحداث المظلمة، والألم الأخلاقي الذي ينطوي عليه الخضوع لبرودة العدالة. سيخرج كل ما يسمّى بالغسيل القذر في قاعة المحكمة. وعندما يُنشر، سيبدو كل شيء أكثر قذارةً: زواج ساندرا وصامويل ثقيل، علاقتهما مليئة بالمأساة، والشعور بالذنب أو عدمه، ولوم الذات والتنافس المهني، والمصاعب المالية والاختلافات الثقافية، والغش و«الخيانة».
يعمل على شكوك الشخصيات والمشاهدين بروح هيتشكوكية
يعمل الفيلم على شكوك الشخصيات والمشاهدين بروح هيتشكوكية، مقترحاً معضلات أخلاقية ومعنوية مزعجة. «تشريح سقوط» أكثر من مجرد فيلم تشويق في قاعة المحكمة، بل دراما عن الحقيقة والأكاذيب وخداع الذات. المشهد الأول بين ساندرا والطالبة الشابة يدور حول الحقيقة والخيال، والمشاهد أدبية المستمدّة من الواقع، وحول ما إذا كان على ساندرا تجربة شيء ما أولاً قبل أن تتمكن من الكتابة عنه. لذا، فإن الأمر لا يتعلق بأقلّ من بناء الواقع، وليست المحاكمة سوى محاولة من جميع الأطراف المعنية،لتقديم نسخ محتملة من «الحقيقة»، ثم إقناع هيئة المحلفين بها. وهو ما يعني بالطبع أيضاً، في الحالات القصوى، أنّ هذا يحدث بغض النظر عما إذا كانت هذه النسخة هي الحقيقة أم لا. وبما أن «تشريح سقوط» يُخضع السرد لهذا الوضع المدمّر للحقيقة والواقع، تدور كاميرا ترييه في الاتجاه الصحيح قبل أن تقرّر الشخصيات اتخاذ خطوتها التالية. تُكسر موضوعية الكاميرا أولاً من خلال بعض المشاهد الذاتية، لأنّ الفيلم يُسرد دوماً من وجهة نظر الراوي المشبوهة. وفي قاعة المحكمة، تخرج الشخصيات من الصورة، وتبقى موجودة بصوتها ثم تعود أو تتحرك الكاميرا إليها. هذا الغموض وهذه الطريقة في تحرك الشخصيات داخل المساحة والإطار ووجهة نظر الكاميرا والسرد، هي التي تسمح للفيلم بالتنقل عبر لحظات الحياة المعقدة والمراوغة للزوجين، من المظاهر، والواقع، والأعذار والذرائع، وما هو معترف به وما هو غير معترف به، والمخاوف وانعدام الأمان، والمساواة وعدمها. كل ذلكبهدف الحفاظ على التوتر من اللحظة الأولى إلى الأخيرة، لا لتعزيز اليقين، بل لمضاعفة علامات الاستفهام في ذهن المشاهد. تغشنا ترييه، خلال الفيلم تتقلب نظرتنا لساندرا، ولكننا نعلم إنها امرأة رفضت الشعور بالذنب. في المحكمة الجميع يراها مذنبة، لأنها لم تضحي بما فيه الكفاية، وتنازلت عن احلامها وطموحاتها من أجل الأمومة، يُنظر إليها كمسخ، وطبعاً الزوج هو ضحيتها المظلومة. ولكن الحقيقة في مكان آخر، ولكن منا حقيقته.
«تشريح سقوط» فيلم نادر بشكله وهيكله المثالي، يشبه الروايات الخيالية التي تكتبها ساندرا، وكيفية ملاءمة الخيال الواقع، بناءً على آلياته، لإظهار المعاناة التي تنطوي عليها العلاقات العاطفية. لا ينشغل الفيلم بـ «الجريمة» بقدر انشغاله بالبناء المُقنِع للحقيقة.
نرشح لك: مايكل مان يحقّق حلمه: «فيراري» في سباق الألف ميل