في بعض المهرجانات السينمائية، نسمع تصريحًا من أحد العاملين بالصناعة يدور حول عدم حُبّه لأفلام المهرجانات. يصيبني الأمر بالذهول كل مرة، إذ أن قائل التصريح يقوله في قاعات المهرجانات ذاتها، وهو بالفعل جزء منها!
يأتي هذا التصور من اعتقاد مسبق أن أفلام المهرجانات هي أفلام ذات طابع وإيقاع محدد ولا يضع الإمتاع ضمن شروزط بناء الفيلم ولا يأخذ في الاعتبار تجربة المشاهدة، لكن الواقع أن معظم المهرجانات في العالم، مهما كانت درجة فنيتها، تتنوع برامجها بين أعمال سينمائية ذات طابع جماهيري وأخرى شديدة الفنية، وبينهما مساحات الرمادية تتسع لأطياف من الأفلام التي قد تكون جماهيرية وفنية في الآن ذاته.
يتعامل هذا التصور المسبق مع المهرجانات السينمائية وكأنها وصمة للفيلم تجعله غير مرغوب في مشاهدته حتى قبل طرحه، وأن الأفلام التي تُعرض في المهرجانات هي أفلام يصنعها المخرجون ليشاهدوها هم وحفنة من المختصين في دور عرض مغلقة!
ربما يأتي هذا التخيل من خصوصية المهرجانات في زمن سابق، حيث كان يستلزم الوصول إلى مهرجان كان أو فينيسيا أو مشاهدة أفلامهما مشقة كبيرة؛ لكن في عالمنا الحالي، ربما تشاهد فيلمًا على منصة نتفليكس بعد عرضه بأيام في مهرجان سينمائي عريق مثل “كان” أو “فينيسيا”.
للتعامل مع هذا المصطلح الغامض الفضفاض الذي ربما يقصد نوعًا من الأفلام التي تتطلب فهمًا واسعًا للسينما لمشاهدتها – وكل تلك الأنواع مطلوبة في العالم فالجمهور متعدد الأذواق أيضًا- علينا أن نرفضه، ونحاول أن ننظر إلى المهرجان كما هو: مساحة لعرض مختلف أنواع الأفلام والاحتفاء بها، وأن نُعرف الأفلام بشكل أكثر دقة.
دعنا نأخذ مثالين من مهرجان البحر الأحمر السينمائي المقامة دورته الثالثة وقت كتابة هذا المقال، إذ يشارك فيلمين أحدهما مصري سويسري والآخر سعودي، ويمتلكان كل عناصر الفيلم الجماهيري: “وحشتيني” للمخرج المصري السويسري تامر روجلي، و”إلى ابني” للممثل والمخرج التونسي ظافر العابدين في تجربته الإخراجية الثانية.
يتحرك الفيلمان من فكرتين أساسيتين: العائلة والعودة إلى الوطن. ففي “وحشتيني” تعود سو (نادين لبكي) إلى مصر لرؤية أمها المحتضرة (فاني أردانت) وفي “إلى ابني” يعود فيصل (ظافر العابدين) وابنه الصغير إلى السعودية بعد حادث أليم في المملكة المتحدة. كلا الفيلمين يصوران تلك العودة ووقعها على الأبطال، سواء على الأبطال الرئيسين واغترابهما عن الوطن ومنطق العيش فيه، وكذلك على الأبطال الفرعيين وهواجسهم من تلك العودة.
إنها لحظة صعبة يشعر الجميع فيها بالارتباك، لكن ما يتفق فيه الفيلمان هو أن خلاص أبطالهما واكتشاف الذات يأتي من خلال تلك العودة إلى الجذور، والتصالح مع العائلة مهما كانت الصعوبات.
المكان في الفيلمين عامل درامي بامتياز. في “وحشتيني” تصوير للقاهرة بشكل حالم ونوستالجي، إذ يتم استخدام زحامها في خلق موقف كوميدي بين سائق التاكسي وسو، وتمتلك المحلات ديكورات ستينية تبيع فساتين جميلة تأتي من نفس الزمن، إضافة إلى البيوت ذات الأسقف العالية والسيارة الكلاسيكية ذات السقف المفتوح وإطلالات الأهرامات التي تظهر في رحلة البطلة وأمها
في فيلم “إلى ابني”، يصور ظافر مدينة أبها بجنوب السعودية، وهي مدينة لم تصور كثيرًا في الإعلام، وتختلف طبيعتها عن باقي مناطق البلد الشاسع ببيوتها الجبلية الجميلة، واخضرارها وطبيعتها الخلابة. في الحالتين تتناقض مواقع التصوير مع تلك التي كان يعيش فيها الأبطال في بداية الفيلم، ويظهر تقابل شديد بين برودة الخارج ودفء الداخل، ليؤكد المكان الأفكار الدرامية لكلٍ من الفيلمين.
ملاحظة أخرى تستحق الانتباه، هي أن الممثلين في الفيلمين يلعبون أدوارًا خارج قوميتهم. في “وحشتيني” تلعب نادين لبكي دور الابنة المصرية التي تعيش بالخارج. أما في “إلى ابني” فيلعب ظافرالعابدين دور رجل سعودي يعيش بالخارج ويتحدث فيه باللهجة السعودية رغم اختلاف هذا عن لهجته الأصلية أو حتى عن اللهجة المصرية التي اعتاد التمثيل بها.
هذا التمثيل ليس الأول من نوعه في الأفلام العربية، لكنه ليس بالشائع، خاصة وإن كانت اللهجات بعيدة عن بعضها. يخدم هذا الأمر الأفلام في أكثر من جانب، إذ أنه يضع الممثل نفسه في اختبار أدوار بلهجات جديدة، ويسوق لتلك الأفلام في بلدان الممثلين، إذ سيهتم التونسيون بالتأكيد بفيلم من بطولة ظافر العابدين وبالمثل لنادين لبكي في لبنان وفي العالم العربي بأكمله.
وأخيرًا يأتي هذا النوع من التعاون منطقيًا بين أبناء مختلف دول العالم العربي، إذ أننا نتحدث اللغة ذاتها ويمكن استغلال هذا الأمر في فتح فرص أكبر للتعاون السينمائي المشترك بيننا، إذ يحدث ذلك في جميع أنحاء العالم، فنرى ساندرا هولاند الألمانية الأصل تلعب دور فتاة إنجليزية تعيش في فرنسا في فيلم جوستين ترييه الأحدث “تشريح سقوط”، والذي فاز بالسعفة الذهبية.
“وحشتيني” و”إلى ابني”، فيلمان جماهيريان بطبيعتهما، سواء من حيث الموضوع الدرامي المتناول للعائلة أو العودة إلى الوطن، أو من حيث حجم الإنتاج وشكله، أو بناء الحبكة الكلاسيكي، أو من نقطة أن كلا الفيلمين من بطولة نجوم، وهما في الوقت ذاته أفلام “مهرجانات”، أحدهما شارك بالفعل في مهرجانين سينمائيين أوروبيين قبل عرضه في البحر الأحمر، والآخر يُعرض عالميًا لأول مرة، الأمر الذي يؤكد أن مصطلح أفلام المهرجانات قد عفا عليه الزمن، وأنه ببساطة لا يُعبر عن أي شيء بخصوص الفيلم إلا أنه قد اختير للمشاركة في مهرجان!
اقرأ أيضا: الطبيعة أيضًا تكذب في “الشر ليس له وجود”