فاصلة

مراجعات

«موجة جديدة».. تحية مهذبة لتاريخ سينمائي عظيم

Reading Time: 5 minutes

بينما تنبع أهمية بعض الأفلام من داخلها، باعتبارها أعمالًا فنية متفردة بذاتها، وهي الأفلام التي تصير مع الوقت كلاسيكيات يؤرخ للسينما من خلالها، فإن أفلام أخرى تستقي متعتها من ارتكازها على تلك الكلاسيكيات. بمعنى أن الفيلم نفسه قد لا يحمل فرادة خاصة، لكن ارتباطه بعملٍ آخر عظيم تمنح مشاهدته متعة خاصة. ولعل مهرجان فينيسيا كان الأسبق إدراكًا لأهمية ذلك عندما أطلق قسمًا خاصًا له جائزة تتنافس فيه الأفلام الوثائقية المصنوعة عن فن السينما.

هذا المدخل يعد جوهريًا في فهم سر جاذبية «موجة جديدة Nouvelle Vague»، أحدث أفلام المخرج الأمريكي ريتشارد لينكلاتر، والذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان الثامن والسبعين. صحيح أنه خرج دون الحصول على أي جائزة، لكنه حمل إعجاب المتابعين، وسمعة طيبة ستكفل له الهدف الأكثر منطقية لفيلم له هذه الطبيعة: الحصول على عرض تجاري لائق وإقبال جماهيري كبير.

 

لينكلاتر يمتلك شعبية دولية معتبرة، كوّنها بالأساس من خلال ثلاثيته الرومانسية الشهيرة «قبل الشروق Before Sunrise» و«قبل الغروب Before Sunset» و«قبل منتصف الليل Before Midnight»، ناهيك عن تجربته السينمائية التي استغرقت أعوامًا ونالت الأوسكار «صبا Boyhood» وفيها تابع حياة ممثل طفل من عمر السادسة حتى الثامنة عشر، مع وضعه في مواقف درامية تتطور بمرور الأعوام وتقدم السن.

إلا أن المخرج الأمريكي أخذ مؤخرًا اتجاهًا جديدًا في أفلامه، يعيد من خلالها زيارة لحظات بعينها من تاريخ الفنون، ليقدم شخصيات ذات خصوصية في سياقات درامية ممتعة، تخاطب الجمهور العريض بالأساس. فعلها لينكلاتر في مطلع العام بفيلم «قمر أزرق Blue Moon» الذي عُرض في مسابقة برلين، وجسّد فيه المخرج ليلة من آخر سنوات حياة مؤلف المسرحيات الموسيقية الأمريكي الشهير لورينز هارت، قبل أن يعود في كان بقصة تحمل قيمة أكبر بالنسبة للجمهور الفرنسي، ولكل محبي السينما الأوروبية بشكل عام.

بطل من نوع خاص

بطل الحكاية شاب فرنسي مثقف، ناقد سينمائي حانق على كون كل أصدقاءه قد تركوا النقد وصاروا صناع أفلام معروفين، بينما هو لا يزال لم يصنع فيلمًا طويلًا. صحيح أن البعض يعتبره الأذكى بين تلك المجموعة التي صنعت مجلة «كراسات السينما» التي أعادت تعريف فن السينما ومفهوم النقد، لكن لم يصنع إلا عدة أفلام قصيرة، بينما يصمم ألا يعتبر الأفلام القصيرة أفلامًا حقيقية. يحلم بصناعة فيلم طويل على طريقته، يقدم فيه الحياة على الشاشة كما هي في الواقع، لا كما اعتاد البشر مشاهدتها في الأفلام. شاب اسمه جان لوك جودار.

«موجة جديدة».. تحية مهذبة لتاريخ سينمائي عظيم
Nouvelle Vague (2025)

تنبع المفارقة المركزية في «موجة جديدة» من كون الجميع يعلم من هو جودار، أحد ألمع العقول وأنجح الفنانين في تاريخ الفن السابع. الجميع يعرف أيضًا ما هو الفيلم الذي يصنعه، «حتى آخر نفس Breathless» الذي قلب الموازيين فلم تعد السينما قبله كما كانت بعده. وبينما يعرف كل المشاهدين الفيلم وصانعه وإن جهلوا تفاصيل صناعته، فإن كل المشاركين في رحلة الفيلم افتقروا لتلك المعرفة. كانوا مجموعة من المجبرين على التعامل مع هذا الشاب غريب الأطوار، صاحب الآراء العجائبية والقرارات الشاطحة، إما لأنهم مجبرين على ذلك، أو لأنه ببساطة يعمل بسرعة ولن يكلفهم خسارة مالية كبيرة، أو لأنهم مؤمنين بموهبته. النوع الأخير يتضمن اسمًا واحدًا هو بطل الفيلم، ممثل ناشئ اسمه جان بول بلموندو.

مخرج شاب يتخذ اختيارات لحظية، غير معتادة، تخالف تراث صناع السينما، بل والمنطق نفسه، فيستسلم من حوله لأسباب متباينة ليس من بينها الثقة المفرطة. وبينما يفعلون ذلك وينتظرون لحظة انتهاء تلك المهزلة التي يعيشونها، نعلم نحن المشاهدين أنهم كانوا منخرطين في كتابة التاريخ دون أن يدروا.

«موجة جديدة».. تحية مهذبة لتاريخ سينمائي عظيم
Nouvelle Vague (2025)

التواضع في حضرة الكبار

على النقيض من صناع «حتى آخر نفس» الذين لم يدركوا ما في أيديهم من قيمة، يعرف ريتشارد لينكلاتر جيدًا ما تملكه قصته من جاذبية، ويتفهم أنه يصنع فيلمًا عملته الرائجة هي النوستالجيا، ذلك الحنين إلى عصر الحرية السينمائية، عصر التمرد والثورات الطلابية والرغبة في إعادة كتابة التاريخ. تلك الروح الثائرة الساخرة الصاخبة التي صنعت مجد جودار وبني جيله، والتي صارت أقرب للحلم في عالمنا المعاصر، التي غدت حتى السينما المستقلة فيه تخضع لقواعد ومعامل ومسارات يخوضها الجميع رغم علمهم إنها تقوّض حريتهم ولو بشكل جزئي.

انطلاقًا من هذا الفهم يصنع لينكلاتر فيلمًا ذكيًا، يستخدم طرقًا تقليدية مباشرة لوضع الجمهور في قلب لحظة غير تقليدية. فيبدأ كل مشهد بلقطات ثابتة تقدم الشخصيات التاريخية بأسماء مكتوبة لا تدع مجالًا للتخمين أو إضاعة الوقت، ليستغل كل لحظة في سرد اليوميات الصاخبة لصناعة التحفة السينمائية، وبدلًا من أن ينشغل ذهن المشاهد في تخمين هل هذا الممثل يؤدي شخصية فرانسوا تروفو أم جاك ريفيت أم كلود شابرول أو أي شخصية أخرى، يدخل مباشرة في إسقاط ما يعرفه عن المشاهير على تصرفات الممثلين.

على صعيد الإبداع، لا تبدو طريقة لينكلاتر خلّاقة أو مبتكرة، ربما لو شاهدها جودار نفسه لسخر منها ووصف صانعها بالكسل والاستسهال. لكن بمنطق براغماتي ينجح المخرج الأمريكي بتفوق في تحقيق هدفه السردي: أن يصنع فيلمًا تقليديًا عن صناعة فيلم غير تقليدي، ويتركنا نستمتع بالمفارقة في الحكاية الأصلية بدلًا من مدح أسلوب من يعيد سردها. يتضاءل لينكلاتر طواعية أمام إنجاز جودار الشاهق، وهو بلا جدال أفضل الخيارات الممكنة، وأكثرها اعترافًا بقدر الفنان الحقيقي.

«موجة جديدة».. تحية مهذبة لتاريخ سينمائي عظيم
Nouvelle Vague (2025)

مفارقة النهايات

يمتلئ «موجة جديدة» باللحظات المضحكة، والمبهجة، والمؤثرة، التي يحاول المخرج فيها الاحتفاء بالجرأة والغرابة، وبالطموح الشاهق الذي يسعى صاحبه لتغيير مسار فن بأكمله، حتى لو كان أغلب من حوله لا يشاركونه نفس الحلم، وهو ما يجعل مشاهدته تجربة ممتعة عمومًا، تزيد لذتها لدى محبي الموجة الفرنسية الجديدة، بكل ما حملته من قلب للموازين، وتناقضات، وتجسيد لروح اللحظة السياسية والاجتماعية والثقافية.

ولعل أحد أطرف اللحظات وأكثر تأثيرًا تأتي مع تترات النهاية التي تختصر ما نعرفه سلفًا عن نجاح الفيلم ومصير صنًاعه، لكنها تركز بوضوح على الفارق بين بطلي «حتى آخر نفس». البطل جان بول بلموندو كان ممثلًا ناشئًا، يؤمن بجودار ويقدر له منحه الفرصة الأولى في حياته، بما يجعله يرد على من يحذروه من الفيلم بأنه مصمم على مشاركة صديقه الحلم، حتى لو كان آخر دول سيلعبه في حياته. أما البطلة جين سيبرج فكانت نجمة أمريكية متحققة، تنتمي للسينما الكلاسيكية ولمكتشفها أوتو بريمنجر، تورطت في قبول الدور ولعبته على مضض، وكانت مستعدة في كل لحظة أن تترك الأمر برمته وتعبر الأطلنطي كي تُمثل في «فيلم حقيقي»، لا في لعبة عبثية كالتي يلعبها الشاب الفرنسي المتغطرس.

«موجة جديدة».. تحية مهذبة لتاريخ سينمائي عظيم
Nouvelle Vague (2025)

تذكرنا تترات نهاية «موجة جديدة» بمفارقة المصائر: لم يكن الدور هو الأخير في حياة بلموندو الذي استمر حتى آخر يوم في حياته واحدًا من أهم النجوم في تاريخ السينما الأوروبية، بينما استمرت سيبرج تختار المشاركة في أفلام حقيقية، لكنها عندما انتحرت وعمرها لا يتجاوز 40 سنة، وصفت كل الصحف الواقعة بأنها «رحيل بطلة فيلم حتى آخر نفس»!

اقرأ أيضا: ملف «فاصلة» الشامل لمهرجان كان 78: أكثر من 40 مادة من الحوارات والمراجعات والتحليلات

شارك هذا المنشور

أضف تعليق