يبدو عام 2011 شديد البعد اليوم ونحن لم نبارحه بأكثر من 13 سنة. أقل من عقد ونصف جرت فيه مياهً كثيرة في نهر الحياة في الوطن العربي الممزق بين خلافات وصراعات داخلية وخارجية. شهد عام 2011 الانفصال الرسمي بين شقي السودان، ليستقل إقليم جنوب السودان بعد استفتاء واسع كانت نتيجته أكثر من 99% من المطالبين بالانفصال والاستقلال ليس فقط عن النظام الديكتاتوري لعمر الشبير، ولكن أيضًا عن مجتمع الشمال وممارساته العنصرية ضد الجنوبيين لأكثر من خمسة عقود.
بعد 13 سنة، يعود المخرج السوداني محمد كردفاني إلى ذلك التاريخ القريب ليقدم فيلمه الطويل الأول “وداعًا جوليا”، تلك التراجيديا القاسية والملهمة في آن، عن علاقة صداقة جمعت بين امرأتين شاءت الأقدار أن تمثل كل منهما أحد طرفين متباعدين في عدة ثنائيات، عرقية ودينية، ولغوية، وأن يمثل اجتماعهما صورة بلاغية للسودان ما قبل الانفصال.
تدور أحداث وداعًا جوليا في الخرطوم وعلى مدار السنوات الست السابقة على الانفصال من عام 2005 وحتى عام 2011، حول منى المرأة الشمالية التي تعيش مع زوجها أكرم والتي تتسبب في مقتل رجل جنوبي ثم تضطر تحت وطأة الإحساس بالذنب أن تعين زوجته جوليا مدبرة لمنزلها لمساعدتها هي وابنها وكنوع من أنواع التطهر من الذنب.
بنية درامية محكمة نظمها سيناريو محمد كردفاني. ففي حين أن الحدث الرئيسي الذي تبدأ به الأحداث هو قتل أكرم لسانتيو زوج جوليا، إلا أن الخطأ التراجيدي يأتي في لحظة لاحقة. بعد أن صدمت منى ابنه بسيارتها عن طريق الخطأ، يطاردها سانتيو الأب المكلوم، فتقوم منى بمهاتفت زوجها أكرم في وسط هذا الموقف العصابي وتضطر إلى الكذب بشأن مطاردها، فتخبر زوجها أن ثمة جنوبي يطارد سيارتها. تجسد هذه اللحظة خطيئة منى التراجيدية التي ستسعى فيما تبقى من عمر الفيلم في محاولات بائسة ويائسة للتطهر منها. تحت وطأة السياق السياسي والاجتماعي المشتعل، جلب أكرم بندقيته وأطلق النار على الأب ليرديه قتيلاً على الفور.
لا يشرّح نص كردفاني السينمائي السياق التاريخي فحسب، بل يتعمق أكثر إلى ما هو اجتماعي وإنساني في المقام الأول، ويفرد مساحة كافية للتأصيل لهذه اللحظة الجنونية التي دمرت أسرتين هما على طريف النقيض في كل شيء. أسرة شمالية مسلمة ميسورة الحال تعيش في أحد الأحياء الثرية، وأسرة مسيحية جنوبية فقيرة تضطرها الظروف السياسية وتنامي الصراع إلى النزوح من بيت دافئ إلى بيت من الصفيح أقيم في العراء.
لا يغرق كردفاني أيضًا في الرمزية والصورة البلاغية، وإنما يستمد من الواقعية ما يغذي هذه الصورة دون أي ابتذال. ففي نهاية المطاف ما يصوره “وداعًا جوليا” لم يتأثر ببعد المسافة الزمنية، وإنما شهد صناعه بأنفسهم ملابساته وتفاصيله في الواقع، وربما في قصص أكثر قسوة من تلك التي يحكيها فيلمهم.
نسج الفيلم رمزيته من تفاصيل واقعية ذات انعكاسات اجتماعية ملموسة. فتفاصيل بسيطة مثل الخلافات الزوجية بين منى وأكرم، عندما تصطدم رغبة منى في السعى خلف حلمها بالغناء بقناعات زوجها المحافظة وغيرته وشكه الدائمين فيها. قد تكون هذه التفصيلة انعكاس رمزي للغطاء الديني المحافظ الذي اتخذته ديكتاتورية البشير في قمعها للمجتمع السوداني، ولكن اقتراب الفيلم منها لا يوغل في هذه الرمزية بقدر ما يركز على الجانب الإنساني الذي يمكن للمشاهد من داخل أو خارج السودان أن يتماهى معها. الموهبة، والحلم، والحب، والصداقة، وأولا وأخيرًا، الحرية، كلها قيم إنسانية فطرية يتوق إليها كل إنسان على وجه الأرض، وكذلك أبطال “وداعًا جوليا”. فالفيلم يحيد كل الثنائيات ويجردها إلى ما هو أعم وأشمل، إلى ما هو إنساني.
يقدم “وداعًا جوليا” تجربة سينمائية ناضجة للغاية على مستوى العناصر الفنية والتقنية من تصوير ومونتاج وتصميم إنتاج. برع كردفاني في توظيف كافة أدواته التعبيرية لخدمة قصته السينمائية إلى الحد الذي يمنح هذه التراجيديا التقليدية الكثير من الخصوصية الفنية والسينمائية.
يمزج التصوير السينمائي في “وداعًا جوليا” بين البساطة للتأكيد على الواقعية وذلك في اعتماده على مصادر الضوء الطبيعية أو الواقعية سواء في المشاهد الداخلية أو الخارجية، وبين مسحة شعرية بسيطة بحيث لا تطغى جمالية الصورة على واقعيتها. فكما أسلفنا فإن كردفاني يصر على تغليب الجانب الواقعي على الرمزي، ويستمد من قوة التراجيديا وثقلها على شخصاته عناصره البصرية دون أن يفرضها فرضًا على المشاهد، ويساعده على ذلك الأداء التمثيلي الجيد من أغلب أبطال العمل وعلى رأسهم إيمان يوسف في دور منى.
بينما تدور حربًا أهلية طاحنة في السودان اليوم كانت نتيجتها نزوح مئات الآلاف من السودانيين ومن بينهم صناع الفيلم، إلى الخارج، يحقق “وداعًا جوليا” نجاحًا تلو الآخر، بدءًا بعرضه العالمي الأول في قسم “نظرة ما” بالدورة 76 من مهرجان كان السينمائي ليسطر بذلك تاريخًا جديدا كأول فيلم سوداني يشارك في المهرجان الفرنسي العريق، حيث فاز الفيلم بجائزة الحرية. ومرورًا باختياره لتمثيل السودان في جائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي، بالإضافة إلى العديد من العروض في المهرجانات العالمية من بينها لندن السينمائي، وكارلوفي فاري السينمائي اقتنص خلالها المزيد من الجوائز التي تعكس ليس فقط جودة الصنعة، ولكن أيضًا ذلك المشترك الإنساني القادر على الوصول إلى المشاهد العالمي.
اقرأ أيضًا: روبرت دي نيرو الصامت: لماذا ينزعج النجم العالمي من الحوارات الصحفية؟