فاصلة

أصوات نقدية سعودية

«سماء بلا أرض».. شتات الأطلسي الأسود!

Reading Time: 3 minutes

قبل أيام، شاهدت فيلم «سماء بلا أرض» (Promised Sky) للمخرجة التونسية الفرنسية أريج السحيري، في افتتاح أفلام قسم «نظرة ما» (Un Certain Regard) في مهرجان كان السينمائي الدولي بدورته الـ78، هذا القسم الذي يُعنى بالتجارب النوعية، والطرح الفني والموضوعاتي المغاير، حيث يكاد يشكل هذا القسم المعمل الفني لمهرجان كان.

يثير الفيلم قضية الشتات الإفريقي عبر حياة ثلاث نساء من ساحل العاج، مقيمات في تونس، ولكل شخصية منهن معاناتها الفردية الخاصة بها؛ حرمان من الوالدين، أو بُعد عن الأولاد، أو فَقد لأفراد الأسرة، يجمعهن الفقر والشقاء، ويوحّدهن الأمل وبناء مستقبل أفضل، وعبور المحيط الأطلسي إلى الضفة الأخرى، هذه الضفة  الموصدة في وجه المهاجرين الأفارقة عبر معاهدات واتفاقيات دولية، تتهاوى على أعتابها كل تلك الأحلام بعبور الماء أو القفز من الأرض إلى السماء!

«كل تصوير للمعاناة هو فعل سياسي، حتى لو بدا مجرد تصوير» ___ سوزان سونتاغ.

سماء بلا أرض (2025)
سماء بلا أرض (2025)

 وفي هذا الإطار يتنزّل فيلم أريج السحيري «سماء بلا أرض»، حيث عمدت إلى توثيق سرديّ إبداعيّ لأحداث واقعية، التقطت منها حياة النساء الثلاث؛ ماري القسيسة التي أقامت كنيسة في تونس المسلمة، واحتوت في بيتها مهاجرتين أخريين هما ناني وجولي، أما ناني فهي أمّ  علقت في تونس ولم تعد تستطع الوصول إلى أبنائها، بينما تشكل جولي حالة مختلفة شيئا ما؛ إذ جاءت إلى تونس للدراسة وليس للهجرة. يعيش أولئك النسوة في منزل ماري، بالإضافة إلى الفتاة الصغيرة التي تبنّتها ماري، وهي «كنزا» الناجية من حادث غرق في الأطلسي فقدت فيه عائلتها، الطفلة كنزا تبدو كالمتبلدة أو غير المدركة تمامًا لفداحة ما حدث لها؛ إذ تسرد بعض تفاصيل الغرق بنبرة هادئة للغاية، برغم مأساويتها الحارقة!

تحاول تلك النسوة التكاتف والتعايش مع بعضهن ومع المجتمع من حولهن، عبر مزيد من التخفي، والبعد عن مواطن المواجهة مع الأجهزة الأمنية، يسعين إلى تغطية تكاليف الحياة ودفع كراء المنزل، ويتعرضن خلال ذلك كله إلى الحياة بحلوها ومرّها، في إيمان ملهم بأن الغد مجهول وأن الحياة يجب أن تعاش، عبر المرح والتفاعل الإيجابي في مختلف العلاقات، لكن الواقع أقسى من أن يغدق عليهن الرحمة أو الدعم، إذ تتكشف القصة عن نشوء خلافات بينهن، حين لجأت ناني تحت وطأة الحاجة إلى بيع الخمور واتخاذ منزل ماري ملجأ للتخزين، تطردها ماري بأسى كبير حين تكتشف ذلك، لتتشرد ناني في الشوارع باحثة عن مأوى. 

سماء بلا أرض (2025)
سماء بلا أرض (2025)

تضجر جولي من إحساسها بإدارة ماري لحياتها، وتدخل معها في نقاش عن استقلاليتها ونضجها، وعن تدخل ماري في شؤون حياتها، وتقرر الخروج من منزل جولي، ولا تكاد تبتعد خطواتها قليلًا حتى تتلقفها الشرطة وتلقي بها في السجن لتنهار الفتاة التي ظنت نفسها ناضجة ومستقلة، مطمئنة إلى أنها مقيمة بشكل قانوني للدراسة وليست مهاجرة مثل الأخريات! ولا يقف معها سوى ماري التي أخرجتها من التوقيف وعادت بها إلى منزلها.

ظلت ساحل العاج (كوت ديفوار) في فترة السبعينيات والثمانينيات بلدًا جاذبًا للهجرات والمهاجرين بسبب استقراره السياسي والاقتصادي، ولكنها تحولت إلى بلد مصدّر للمهاجرين في مطلع الألفية الجديدة مع تدهورها الاقتصادي والسياسي، ومعلوم أن معظم المهاجرين الأفارقة يتجهون إلى بلدان إفريقية وليس إلى أوروبا أو أمريكا، وفي هذا السياق يعالج فيلم  «سماء بلا أرض» قضية الهجرة الإفريقية/ الإفريقية، متبنّيًا نظرة نسوية واضحة، ورؤية سردية تنطلق من وجهة نظر معاكسة، تقدّم سردية المهاجرات حول بلد الهجرة، وتنطلق من القاع الذي يعيشون فيه اختلافَهم وعدم شرعيتهم ورُخص حياتهم، في مواجهة أجهزة الأمن التي تضيّق عليهم دون رحمة، وفاءً لأنظمتها الداخلية أو لمعاهداتها الدولية مع أوروبا، لمنع أولئك المهاجرين من التسلّل إلى دول أوروبا عبر الأطلسي.

سماء بلا أرض (2025)
سماء بلا أرض (2025)

تلعب كنزا دورًا محوريًا في الفيلم، إذ تمثل شريحة الأطفال، الشريحة الأضعف في كل هذا المعترك الذي لا يد لهم فيه، وكأن الفيلم يتساءل عن المسؤول عن الأطفال المهاجرين؟ هل هم بلد المهاجَر أم بلدهم الأصلي؟ فعندما اكتشف صاحب المنزل الذي تسكنه ماري وجودَ كنزا معها دون أي أوراق رسمية خشيت عليها، وبدأت تصارع إيمانها وعطائها الأصيل ورغبتها في رعاية الطفلة من جهة، وخوفها على الطفلة وعلى نفسها من جهة أخرى، وهي التي ترى فيها تعويضًا عن ابنتها التي فقدتها. تقرر بعد ذلك أن تسلمها إلى جهة رعاية وتودّعها للأبد.

ليس جديدًا أن يحكي فيلم عن الهجرة وقضاياها، لكن المهاجرين ليسوا نمطًا واحدا أو قصة واحدة! بل لكل منهم قصته وحياته المستقلة، وهذا ما أبداه فيلم  «سماء بلا أرض» بأسلوب جيد، ارتقى به أداء الممثلين الطبيعي إلى درجة تفوّق فيها الممثلون على قصصهم، من خلال أداءاتهم التلقائية المبدعة، برغم أن بعضهم يمثل للمرة الأولى! 

اقرأ أيضا: «سماء بلا أرض»… السينما الملتزمة المعاصرة تزور العالم العربي

شارك هذا المنشور

أضف تعليق