في أعمال السرد البصري، سواء في السينما أو التلفزيون تنعكس التحولات الاجتماعية على شخصيات نسائية تمثل أكثر من مجرد بطلات لقصصهن الخاصة؛ إذ يصبحن مجازات لصراعات أكبر تمتد عبر الأجيال، بين ما تفرضه البنى الاجتماعية وما تسعى النساء لاكتسابه.
في هذا السياق، أتناول شخصيتي عزيزة في مسلسل «شارع الأعشى» (2025) للمخرج أحمد كاتيكسيز، وسعاد في فيلم «سعاد» (2020) للمخرجة آيتن أمين، كنموذجين للنساء العالقات بين التقاليد والخيال، بين الرغبة في الحب والرغبة في الاعتراف. وبالرغم من أن أحد العملين هو دراما تلفزيونية ذات سرد ممتد، والآخر فيلم سينمائي، إلا أنهما يعكسان ازدواجية تعيشها النساء العربيات في فترات تحول اجتماعي، حيث يصبح الحب اختبارًا للذات، وحيث يمكن لفشل علاقة عاطفية أن يعني أكثر من مجرد انکسار، بل انهيارًا كاملا للهوية.
وإذا كانت عزيزة بطلة «شارع الاعشى» قد وجدت مخرجًا في وعيها المكتسب، فإن سعاد وصلت إلى طريق مسدود. الفرق بينهما لم يكن في الرغبة؛ بل في السياق الذي منح إحداهما فرصة النجاة، وسلب الأخرى أية إمكانية للعودة.
المرأة بين السينما والتلفزيون: هل يغير السرد المصير؟
تختلف آليات السرد بين التلفزيون الذي يمنح الشخصيات مجالاً زمنيا أطول للتطور، وبين السينما التي تضغط التجربة في تكثيف بصري ونفسي شديد.
في فيلم «سعاد»، تنقل الكاميرا المحمولة شعورًا وثائقيًا، يجعل العالم يبدو متذبذبًا وغير مستقر مثل البطلة نفسها. نحن لا نعيش صراعها الداخلي عبر الحوارات الطويلة، بل من خلال التفاصيل العشوائية النظرات المقتضبة، والتفاعلات غير المكتملة، تماما كما تعيشه هي في بيئتها المتوترة بين الواقع الافتراضي والواقع المادي.
أما في «شارع الأعشى»، فإن امتداد المسلسل على حلقات متعددة يسمح بتقديم رحلة بطيئة نحو الإدراك. عزيزة لا تنهار فجأة، بل تحاول أن تتعلم من خيباتها، وتختبر الحب في صورته الرومانسية قبل أن تكتشف أنه ليس كما تخيلته.
يتيح لنا المسلسل رؤية الصدمة وهي تتشكل ببطء، بعكس الفيلم الذي يُسقطها دفعة واحدة مثل القنبلة.
وفقا لنظرية السرد البصري لديفيد بوردويل، فإن الزمن في التلفزيون يتيح تعقيدًا أكبر في الشخصيات، بينما الزمن في السينما المستقلة يخلق قوة صادمة تجعل التحولات أكثر حدة.
هذا الفرق جوهري في قراءة النهايتين؛ فعزيزة تصل إلى الطلاق، إلا أنه لا يمثل النهاية، بل بدايتها نحو تمرد أكبر. فالخسارة العاطفية لا تُختتم بإنهاء زواج لم ترغب به، بل تستكمل بمحاولة حب جديدة، ثم قرار أكثر راديكالية بالهرب من البلد نفسه. والهروب هنا يتم لأن الواقع يصدها مجددًا، حيث خسرت من تحب، ورغبت بتعزيز فكرة الابتعاد بالهروب الجغرافي والهروب كذلك من السرديات التي تربت عليها. سعاد كذلك في الفيلم تصل إلى لحظة اللاعودة، إذ لا يُتاح لها أن تعيد التفاوض على وجودها كما فعلت عزيزة.

نساء عالقات بين قصص يكتبها الرجال وقصص يعشنها
إذا كانت السبعينيات في السعودية حقبة مليئة بالتحولات الاجتماعية التي دون شك أثرت على النساء كما فعلت لكل المجتمع، فإن مصر المعاصرة تمثل مرحلة أكثر تعقيدًا، حيث تبدو المرأة حرّة من الناحية النظرية، لكنها لا تزال تعيش تحت وطأة معايير ذكورية متجددة، وأكثر خفاء.
تنتمي عزيزة إلى بيئة تضع المرأة في إطار واضح: العائلة، الزواج، وانتظار الأحلام ممكنة. لكن الواقع لا يتغير بالسرعة التي تريدها. العائلة لا تمنعها صراحة من أن تكون مستقلة، لكنه لا تمنحها المساحة لتختار ذلك بسهولة.
سعاد، من ناحية أخرى، تعيش في زمن يمنح النساء إمكانية التواصل مع العالم عبر الإنترنت، لكنه يفرض عليهن رقابة اجتماعية لا تقل حدة عن الماضي. هي ليست محاصرة بأسوار تقليدية، لكنها محاصرة بنظرات الناس، بتصورات الرجال عنها، بتناقضات مجتمع يطالبها بأن تكون «فتاة جيدة»، لكنه لا يمنحها مساحة لتحديد ما يعنيه ذلك.

يوضح عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930-2002) في كتابه الهيمنة الذكورية، كيف أن القمع الاجتماعي لا يمارس بالقوانين، بل يُزرع داخل النساء أنفسهن، بحيث يصبحن مراقبات ذاتيات لسلوكهن. نقرأ ذلك في شخصيتي عزيزة وسعاد؛ فعزيزة محاصرة بقيود واضحة لكنها قابلة للتحدي، بينما سعاد عالقة في قيود غير مرئية، تجعل انهيارها محتومًا دون أن تدركه متى بدأ.
الحب فشلاً نسائيًا
الحب بالنسبة للمرأة ليس مجرد تجربة، بل هو إعلان لوجودها. فإذا لم يلاحظها الرجل، شعرت بأنها لم توجد أصلا.
– «سيمون دي بوفوار» – الجنس الآخر
عزيزة تحب من طرف واحد، لكنها تتعلم أن تنجو. أحبت عيسى دون أن يلاحظها. راسلته بالقصائد وتلميحات الإعجاب لكنها لم تتلق ردًا يغير واقعها، ثم صُدمت بعلاقته مع صديقتها. بعد ذلك تقع في حب طبيب مغترب وتصدم بتخليه، وأخيرًا تنحو للحب المستحيل مع مطلوب للعدالة، حيث الإدراك المضاعف في الثلاث قصص بأن الحب في الواقع ليس كما في السينما، وأن الانتظار قد يكون مضيعة للعمر.
أما سعاد فتحب من طرف واحد، لكنها تنهار عندما لا تقابل بالمثل. تعتقد أن علاقتها الافتراضية مع شاب أعجبت به تأكيدًا لهويتها الجديدة، لكنه لا يراها كما ترى نفسها. هنا، يتلاشى إحساسها بالوجود، لأن الحب لم يمنحها الاعتراف الذي كانت تنتظره.
وبينما تستطيع عزيزة أن تعيد تعريف نفسها خارج قصة الحب، تجد سعاد أن الحب كان كل ما تملك، وحين انهار، سقطت معه.
الشقيقتان.. مرآة الأسئلة
في كلا العملين، «شارع الأعشى» و«سعاد»، تلعب علاقة البطلتين بأختيهما دورًا بالغ الحساسية، بوصف علاقة الأخوة عدسة دقيقة نرى من خلالها اختلافات التجارب النسائية داخل البيت الواحد. وكيف أن النساء، حتى داخل الأسرة الواحدة، قد يتعرضن لواقع واحد، لكنهن يتفاعلن معه بطرق متناقضة. الشقيقة، هنا ليست مجرد شخصية داعمة أو خلفية درامية، بل هي مرآة ساطعة تكشف مدى اتساع المسافة بين الرغبة والانضباط، بين الحلم والخضوع، وبين الصمت والانفجار.
في شارع الأعشى، العلاقة بين عزيزة وشقيقتها الكبرى عواطف مشحونة بالعاطفة، والتواطؤ الأنثوي، والمراقبة الصامتة.
تنظر عزيزة إلى أختها كنافذتها الأولى على الحب: عواطف تحب سعد حبًا حقيقيًا، وإن كان مراهقا، كان ناضجا في مشاعره ومكتملا في ألمه؛ وعزيزة كانت تراقب هذا الحب من خلف الجدران، في البداية إعجابًا، ثم قلقًا، ثم في مرحلة ما، تقمصًا غير مباشر.
عواطف تمثل ذلك الجيل الذي أراد الحب، لكن اصطدم بممانعة الأبوة والتقاليد، فانتهى بها الحال بقبول زواج تقليدي لتداوي كسرها.
أما عزيزة، فهي الابنة التي شاهدت هذا الخذلان مبكرًا، وعرفته لا كألم شخصي، بل كدرس مبكر. ومن هنا جاءت تجربتها العاطفية متأخرة، أكثر احتياطا، وأكثر هروبا.
العلاقة بين الأختين هنا تحكمها الذاكرة والخذلان والترنح الدائم بين الطاعة والتوق، لكنها لا تنتهي بالقطيعة، بل تظل مشدودة بخيط حنان رقيق، وإن ذبل.

أما في فيلم سعاد، نواجه علاقة مختلفة تمامًا، من حيث البنية والديناميكية النفسية. فسعاد الكبرى تعيش حياة مزدوجة بين الواقع المحافظ، وهويتها عبر المنصات الاجتماعية الرقمية التي شكلتها لنفسها. في حين أن رُبي، شقيقتها الصغرى تراقبها باندهاش، لكن أيضًا بحذر، ثم لاحقًا، بقلق مشوب بالخوف.
الفيلم يُبنى سرديًا من لحظة انكسار سعاد، وتحوّل رُبي من مجرد أخت إلى راوية بديلة ومكتشفة لسر لم يعلن: فبعد غياب سعاد المفاجئ، تشرع ربى في رحلة لفهم أختها، لكن الرحلة لا تؤدي إلى مصالحة، بل إلى فهم مأساوي بأن الأخت الكبرى كانت تنهار بصمت دون أن تملك الكلمات المناسبة لطلب المساعدة.
إن العلاقة هنا معكوسة: الصغرى هي من تعيد تركيب الحكاية، بينما الكبرى تتبخر خارج الإطار، تاركة ورقة غير مكتملة من حياتها.

من تروي؟ ومن تختفي؟
يكمن الفرق الجوهري بين علاقة الشقيقتين في «شارع الأعشى» و«سعاد» في موقع السرد والوعي داخل العلاقة. في المسلسل، تملك عزيزة زمام الحكاية، فهي لا تكتفي بمراقبة أختها عواطف، بل تعيد تأويل تجربتها العاطفية بوصفها درسًا غير معلن.
عواطف لا تختفي، بل تبقى حاضرة في ذاكرة أختها، في التفاصيل اليومية، في الحنين، وفي الخسارات المشتركة وكأن العلاقة بينهما تخضع لقانون الاستمرار رغم الخذلان
على العكس من ذلك، في سعاد، لا يُمنح صوت السرد للأخت الكبرى، بل للشقيقة الصغرى رُبي، التي تصبح فجأة مطالبة بفهم ما لم يُقل وجمع ما تبعثر. اختفاء سعاد هو ما يمنح رُبى صوتًا، لكنه صوت يظهر بعد الفقد، لا قبله.
العلاقة بين الشقيقتين هنا لا تبنى على الحنين، بل على فجوة صامتة تتسع حتى تصبح مأساة.

وهكذا، في حين تبقى العلاقة في «شارع الأعشى» حميمة وإن انكسرت، فإنها في «سعاد» تتحول إلى لغز وجرح لم يتسن لأحد فرصة مداواته. وكأن العلاقة بين الأختين في كلا العملين هي استعارة عن التحول السردي في الحكاية النسائية من العيش في الظل إلى محاولة الكلام بعد الغياب.
وكأننا في كل مرة نعيد كتابة الحب والخسارة، والهوية، من خلال مرآة لا تعكسنا وحدنا، بل تعكس من كنا نراقبهن في صمت.
النهايات..
عزيزة تقف عند النهاية بجرح، لكنه ليس قاتلاً.. الهروب ليس انتصارًا، لكنه في نظرها انحياز لفكرة اختيار المصير.
سعاد لا تصل إلى أي مخرج.. لا يمنحها الفيلم أي فرصة للنجاة. انهيارها غير معلن، لكنه محسوس.
عزيزة تحصل على فرصة، حتى لو كانت غير مؤكدة؛ أما سعاد فتسلب منها كل الاحتمالات، لأنها لم تكن تعرف أنها لم تملكها منذ البداية.
هل نحن في عالم عزيزة أم عالم سعاد؟
في النهاية، يقدم «شارع الأعشى» و«سعاد» تأملا في كيف يمكن للحب أن يكون تجربة إعلاء أو تجربة تدمير، وكيف تتحرك النساء بين الأدوار المرسومة لهن وبين ما يرغبن في أن يكن عليه.
عزيزة تمثل المرأة التي تدرك، ولو متأخرة، أن بوسعها أن تكون أكثر من قصة حب فاشلة. بينما سعاد تمثل المرأة التي لم تجد وقتا كافيًا لتدرك ذلك.
إن ما بين عزيزة وسعاد، لا يتعلق الاختلاف فقط بالزمن أو المكان أو الوسيط السردي، بل بمنح المرأة هامشا لتعيد كتابة مصيرها.
اقرأ أيضا: كل ما تريد معرفته عن المشاركة العربية في مهرجان كان الـ 78