في الصباح الباكر، التقيتُ جولييت بينوش. كنتُ أحمل في جيبي أكثر من عشرين سؤالًا. ولكن ما إن جلستُ قُبالتها، حتى صار الزمن مطواعًا، يشبه رقصة خفيفة لا تعرف إلى أين تمضي. لم أطرح سوى القليل ممّا حضّرته، واللقاء، الذي لم يتعدَّ ثلاثًا وعشرين دقيقة، بدا كأنه شريط طويل من الاعترافات الهاربة. لم نتحادث، بالأحرى انجرفنا من فكرة إلى مشهد، من ابتسامة إلى ذكرى.
كانت بينوش متعبة، ذلك التعب الذي يحمله المرء برقّة بعد رحلة. لكنها بدت راضية ومشرقة، كأن بيروت ألقت في قلبها شيئًا من الحنين والطمأنينة. ضحكت ملء قلبها، لا لتُجامل، بل لأن الحياة لا تزال تدهشها. ثم صمتت فجأة، وعيناها تبللان الاسم: كشيشتوف كيشلوفسكي. همست به كما يُهمَس بحلم. المخرج الذي حفر لها ممرًّا من الظلّ إلى النور، في «أزرق»، ذاك الفيلم الذي أعاد تعريف الألم.

جولييت بينوش، التي مشَت بثقة بين المجرات السينمائية، من غودار إلى كيارستمي، من كروننبرغ إلى هانيكه فتيشينه وكاراكس، كانت على الدوام ندًّا: تَمنَح وتُمنَح. لا تلعب أدوارها، تسكنها حتى تصير هي.
هي اليوم تجاوزت الستين بعام واحد، وها أنها رئيسة مهرجان كانّ (13-24 مايو) بعدما تولّت المهمّة نفسها في برلين قبل ستّ سنوات. لا تزال تسكن الحلم كأنها نينا، تلك الشابة في فيلم «موعد» التي تهرب إلى باريس بحثًا عن وهجها الخاص. الفرق الوحيد أن الوهج صار يسكنها هي.
السينما، بالنسبة لها، أكثر من مهنة. انها وسيلة عبور، عبور داخلي إلى تضاريسها الأكثر تعقيدًا. «هي سفر داخلي. تعلّمني أن أعيش مشاعر لم تكن لي، وأستعير أعمارًا لا تشبهني. كلّ مرحلة عمرية تفتح لي بابًا آخر لأكون شخصًا جديدًا وممثّلة مختلفة. لو بقينا في العشرين طوال حياتنا، لكان ذلك سجنًا. العشرينات كانت الأصعب، كأنني أركض من دون أن أرى الطريق. في الثلاثينات، بدأ التصالح، وبدأتُ أفهم مَن أنا، ومَن لستُ».

اليوم، حين تنظر إلى المرآة، لا تبحث عن التجاعيد بل عن التحدي.
«أنا أكثر حكمةً، نعم، ولكنني غير مطيعة. الحكمة وحدها لا تكفي. أحتاج إلى العصيان. عصيان ضد نفسي أولًا، ضد العادة، ضد الركود. أن أعيد تشكيل ذاتي كلّ يوم، هذا ما يُبقيني شابة».
كلّ فيلم لها كأنه قارة. لا تتشابه رحلاتها ولا تتكرر. سألتها إن كانت قد خطّطت لهذا التنوع، لهذا التمدد في خرائط العالم واللغة والوجوه. «الحياة هي التي قدّمت لي هذا، ولكنّني كنت جاهزة للمجازفة. ذهبتُ إلى إيران فقط لألتقي عباس كيارستمي. لم أكن أدع المصادفة تطرق الباب وحدها، كنت أفتعلها. أؤمن بأن القدر مادة خام، علينا نحن أن نحفر فيها، أن نمنحها شكلاً».
ذكّرتُها بأغنية شارل أزنافور حيث يقول «المصادفة تفتعل اللقاءات»، فابتسمت. «أنا أؤمن بأن الحياة تشبه منحوتة. الخوف يسجننا، ولكن الخيال يأتي ويفتح النافذة».

في كلّ مرة تتحدّث فيها بينوش عن مخرجٍ اشتغلت وإياه، تشعر أنها تستعيد قطعةً من نفسها، كأنها تفتح درجاً صغيراً في قلبها وتستخرج منه ذكرى، ابتسامة، تعباً أو وهجاً لم ينطفئ بعد. سألتها عن «شيرين»، الفيلم الغريب الذي صوّره عباس كيارستمي، والذي لم تظهر فيه إلا وجوه النساء يتفاعلن مع قصّة لا نراها.
«كانت تلك غمزة منه لي»، قالتها بابتسامة تعرف الطريق.
التقيا في باريس. على العشاء، سألها إن كانت على استعداد للذهاب إلى إيران، فردّت بسرعة القلب لا العقل: «نعم، طبعًا».
وصلت إلى طهران مرهقة، خارجة للتو من فيلمٍ آخر. قيل لها إن التصوير في مكان ناءٍ، ساعتان بالسيارة. ولمّا وصلت، كان كلّ شيء غامضًا. نساء يدخلن ويخضعن للماكياج. لم تفهم.
ثم سمعت صوته يناديها: «انزلي إلى الكهف».
البيت كان الكهف. الكاميرا كانت صغيرة. والتصوير كان قد بدأ من دون أن تعرف. كيارستمي كان ينسج عالمه كمن يدبّر مقلبًا في الحياة.

إذا كان الإيراني كيارستمي قد خبّأ الكاميرا، فالبولندي كيشلوفسكي وضعها في قلبها. حين ذكرتُ «أزرق»، صمتت. تنفّست بعمق، كما لو كانت تعود إلى مكان عاشت فيه ولم تعد إليه منذ سنين. «مع كشيشتوف، كلّ شيء كان بسيطًا. يعرف أين يضع الكاميرا، وكنّا نصوّر بسرعة، بلا ضجيج. جوّ من سعادة خرافية».
كانت هناك أخوة بين الطاقم، ضحك لا ينقطع. لكنه كان يطلب منها أن تؤدّي اللقطة مرات عدّة قبل أن يشغّل الكاميرا فعلًا. وحين يبدأ التصوير، يكتفي بلقطة واحدة، ثم يشتكي: «الإحساس الذي أعطيتني إياه قبل التصوير لم أره أمام الكاميرا!»، فتجيبه بينوش: «لا أعرف ما يحصل، لستُ مسؤولة عمّا يخرج مني».
كان ينظر إليها بعينين زرقاوين، عميقتين، كحفرتين في الجليد. يدخّن، يضحك، ويصوّر بجديّة متحررة من القسوة.

سألتها إن كانت الفروقات الثقافية قد ظهرت بينهما.
هزّت رأسها. «أبدًا. عندما نصوّر فيلمًا، نعبر إلى مكان آخر، ما بعد الزمان والمكان. نعيش في منطق السينما. الاختلافات لا تعود تعني شيئًا».
لكن هذه القفزات من شخصية إلى أخرى، ألا تربكها؟ ألا تتركها بلا أرض؟
«لو فُرض عليّ، لكان الأمر مؤذيًا. لكنني اخترتُ هذه المهنة. التمثيل ليس انتقالًا، إنه استكشاف. مثل الفنّ التشكيلي: لوحات مختلفة ولكن الروح واحدة. الحركة، اللون، النَفَس».
سألتها عن الدور الذي يعود إليها أولًا عندما تنظر إلى الوراء.
«أحاول أن أحبّها كلها بالتساوي، كي لا أخلق الغيرة في داخلي!». ثم تذكّرت تصويرها مع الإسبانية إيزابيل كوشيت فيلم «لا أحد يريد الليل». «لعبتُ دور امرأة عاشت العزلة والجوع والبرد. خرجتُ من التصوير وكأنني مستنزفة بالكامل، كنت على الحافة. هذا النوع من الأدوار يسكنني. هذا ما أبحث عنه».

كلّ إجابة منها بدت لي كما لو أنها تكتب قصيدة، تضيء لا تشرح.
سألتها إن كانت هناك شخصيات نبذتها، رفضت أن تراها ثانيةً، أو تركت بها مرارة لا تُمحى.
فكّرت قليلًا قبل أن تجيب:
«الممثّل لا يُدين الشخصية التي يُجسّدها. هذا ضد طبيعته. لا أحتاج أن أحبّ الشخصية، بل أن أفهمها. أن أعرف أين تربّت، ما الذي كسرها، من الذي لم يَحضنها. حين أفهم، لا أستطيع أن أكره. الفهم نقيض الرفض».
سألتها: وممّ تخافين؟
ردّت بهدوء امرأة انتزعت شوكها بأصابعها:
«الخوف نحن مَن نزرعه، ونحن مَن ننزعه. هو خيار، حتى حين يأتينا من عذابٍ ما. يجب أن نعرف ذواتنا كي نحول الخوف إلى شيء آخر. لا أريد أن أخلق لنفسي مخاوف لا أحتاجها».

لا تسعى بينوش إلى حصر نفسها في الضوء. هي تعرف أن المعنى يُولد أحيانًا في صالة صغيرة، أمام مئة شخص، ليس بالضرورة في ساحة تصفق فيها الآلاف.
«أحبّ أن أطرق الأبواب التي لا يطرقها أحد».
كنت تركتُ الحديث عن البدايات إلى نهاية اللقاء. فسألتها: «هل تتذكّرين أول تماس حقيقي لكِ بالسينما؟».
«في البداية، أردتُ المسرح. وددتُ أن أكون جزءًا من عائلة فنية على الخشبة. ثم ذهبتُ إلى باريس، وحدي. بقيتُ شهراً. كنت أشاهد فيلمين كلّ يوم. أمي كانت تشير لي في مجلة «باريسكوب» إلى الأفلام التي يجب أن أراها. فيلليني، تاركوفسكي، كاسافيتيس… كان ذلك تأسيسًا بصريًا. ولكن التكوين الحقيقي بدأ مع ليوس كاراكس».

صحتُ: «كنتِ محظوظة!».
ردّت وكأنها تنقّب في ما لا يُرى:
«لا. بل محصّنة. كأن قوة غير مرئية كانت تحميني. ليست فكرة، بل إحساس جسدي. شيء يتّصل بالعاطفة، لا بالدين».
أردتُ أن أعرف إن كانت تؤمن.
«إيماني هو أن كلّ شيء ممكن، وكلّ شيء قابل للتحوّل. هو استقبال، لا تملّك. الديانة تبني فكرة الملكية وأنا أرفض ذلك».
كان لا بد أن أعرف أين هي من أحلامها.
«لم أصل. هناك دائمًا طريق. هناك دائماً مفاجأة. أحلم بوحدة بين الناس. نحن لا نزال في بداية هذا الحلم».
كان هناك ضوء باهت ينسكب من النافذة عندما سألتُها، كأن المدينة كلها تحبس أنفاسها في انتظار الجواب.
«بكيتِ أمس… ما الذي أثّرك؟».
قالت ببساطة موجعة:
«أن أكون هنا، في بيروت. وحده الحضور كان كافيًا كي يهزّ شيئاً في داخلي. غالبًا ما أبكي. دمعتي سخية». ثم ضحكت، تلك الضحكة التي تشبه موجة كسرت كلّ ما في الطريق من دون أن تؤذي أحدًا.
أينما حلّت، بينوش لا تأتي فارغة اليدين. تقول إنها لا تبقى طويلًا في أي مكان، الوقت لا يسعها، كأن الزمن يتآمر عليها ليذكّرها دائماً بأنها أمّ قبل أن تكون ممثّلة، وبأن هناك أعيناً صغيرة تنتظرها في مكان آخر.

«أخاصم الوقت، أقاومه، كي أكون أمّاً وممثّلة. عندما يرافقني أولادي، أمدّد الرحلة. وعندما لا يأتون، أقول لنفسي: سأعود. يومًا ما، سأعود من دون أن أشعر بالذنب».
سألتُها: «كم بلدًا قلتِ فيه: سأعود، ولم تعودي؟».
ضحكت وقالت: «حياتي لم تنتهِ بعد».
اقرأ أيضا: لاف دياز: في بلادي نصارع لننجو وهناك شاعرية في هذا النضال