منذ خلد المسرحي الإغريقي سوفوكليس أسطورة الملك أوديب في القرن الخامس قبل الميلاد، باتت حكاية الملك الملعون من قبل أن يولد مصدر إلهام لعديد من الكتابات وانبنت عليها عديد من النظريات، وجعلها منها عالم النفس الأشهر سيجموند فرويد واحدة من مفاتيح فهم رغبات الإنسان المركبة والدفينة والعلاقات العائلية المركبة، وخصوصاً علاقة الإنسان المعقدة بأبويه.
في الحكاية اليونانية القديمة، يولد أوديب مكروهًا من أبيه الملك لايوس، بعد أن بشرته كاهنة دلفي أنه سيُقتَل على يد ابنه الذكر، فقرر الأب أن يتخلص من ابنه بمجرد الميلاد كي يحول بين نفسه وبين ما قررته له الأقدار. لكن الأقدار دائمًا تجد طريقًا.
يقتل أوديب أباه ويحصل على ملكه الملعون بالزواج من أمه، لتظل المآسي تتوالد من رحم بعضها البعض، إذ يضرب الوباء طيبة، ويسعى أوديب لمعرفة سبب اللعنة كي يرفعها عن مدينته، فيحقق بيده قدره ولعنته.
هاتان العلاقتان الملتبستان بين أوديب وأبويه، كانتا محركتين لكثير من النصوص الأدبية والمعالجات السينمائية، التي استدعتهما مرارًا لتبني عليهما أحداثها؛ إما بشكل مباشر، أو ملتبس وخفي.

1- صاحب الأقدام المتورمة… أوديب بعيني فيلينوف
يبدأ فيلم «حرائق Incendies» الصادر عام 2010 للمخرج ديني فيلينوف، بالتوأمين جان وسيمون وهما ينفذان وصية أمهما نوال بالبحث عن أخ لهما لم يعرفا بوجوده قبلاً، وأب لم يعرفاه طوال سنى حياتيهما.
لكن قبل ذلك المشهد الذي تتحرك منه الأحداث المأخوذة عن مسرحية للكاتب اللبناني الأصل وجدي معوض، افتتح الفيلم بمشهد لطفل يحلق له شيخ رأسه، ويظهر من نظرة الطفل الأسى والحزن والغضب الكامن فيه، وكأنه مكتوب على جبينه ما سوف يقاسيه.
ينتقل بنا الفيلم للتعرف على حكاية الأم الغامضة، الآتية من بلد تمزقه الحرب الأهلية الطائفية في منطقة ما من الشام. نوال كانت عن غير رغبة منها وقودًا في تلك الحرب إذ انتزع منها صغيرها كونه نتاج علاقة بين أب وأم مختلفي الديانة في مجتمع منقسم طائفيًا. نتيجة انخراطها في الحرب الدائرة تتعرض نوال للسجن، وفيه تتعرض للتعذيب والاغتصاب على يد شخص يدعى «الناظر».
بعد خروجها من السجن وانقضاء الحرب تعود نوال للبحث عن طفلها وعندما تيأس وترحل إلى مهجرها الكندي تكتشف بمصادفة قدرية أن مغتصبها هو ابنها، بعد أن تعرفت عليه عندما اجتمع صوت معذبها مع رؤياها لوشم تعرفه في قدم ابنها المفقود في جسد رجل واحد.
هنا نرجع للمعنى من اسم أوديب في الأسطورة، وهو «المتورمة قدماه»، فحين أمر لايوس بإلقاء ابنه أوديب الطفل من منحدر عال للتخلص منه، كانت قدماه قد قيدتا بقيد حديدي، وعلى تلك الحالة وجده أحد المزارعين فأسماه باسمه «أوديبوس» أي صاحب القدم المتورمة.
هنا يعود فيلينوف بنا لأسطورة ومعاناة أوديب، متخذًا من فكرة العجز الإنساني عن مجابهة القدر منطلقًا لحكايته، فتبدو محاولة نوال للهروب ونسيان ما تعرضت له من عذاب ووصم، وتجاوز ذنب حملته لما ظنته تخليًا عن ابنها الضائع، محاولة فاشلة. ليدركها ذلك الذنب ويطاردها، حتى يتجسد لها خلاصها «إيجاد ابنها» في معاناة أكبر، ولَّدتها مأساتها الأولى.
وكما ترث أنتيجوني عبء لعنة أبيها اوديب، تمتد مأساة نوال وابنها/ مغتصبها إلى أولادهما وإلى الابن المغتصب نفسه الذي بات عليه أن يعرف أنه اغتصب أمه. فيبدو الابن نفسه – المستبد- ضحية لفعل نوال الأول (أنها أحبت شخصاً يحرّم مجتمعها عليها محبته)، لأنه عانى فقدانها وهو طفل وتربى بين أيدي تلك الجماعات التي صنعت منه وحشًا. وهنا ندرك سر نظرة الصبي في المشهد الافتتاحي للفيلم، كما يدرك أولادها نصيبهم من المعناة عندما يعرفون أن أباهم هو نفسه أخيهم المفقود.
يختار فيلينوف للحرب أن تكون خلفية قائمة طوال الوقت، بينما تتجسد تلك المأساة فتصبح الحرب هي المسؤول الأول عن تلك المعاناة الأزلية، كما ينتهي الفيلم بصمت أبناء نوال وقرارهما المضي في حياتهما، وهي نهاية مناقضة للأسطورة، ولكنها ببساطة واقعية أكثر، لأنها تظهر وعي شديد بحتمية المعاناة، وأن الإنسان أمام القدر لا يملك إلا التسليم له والمضي في حياته لأنه غير مسؤول عنه.

2- أوديب الياباني… حرب أخرى ومأساة تتجدد
في فيلمه «جنازة موكب الزهور Funeral parade of roses» الصادر عام 1969، يقدم المخرج الياباني توشيو ماتسوموتو رؤية حداثية وصادمة لمأساة أوديب.
ماتسوموتو هو أحد مخرجي الموجة اليابانية الجديدة، والتي كانت نتاجًا لمجتمع يابان ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أحدثت الحرب العالمية الثانية في اليابان ما لم تشهده طوال تاريخها. خرجت اليابان من الحرب مهزومة، وزاد على هزيمتها انكسار استقلالها وانغلاقها على نفسها الذي طالما حمى تقاليدها وبنية مجتمعها، ليصبح المجتمع الياباني بعد الحرب مجتمعًا مختلفًا أعاد بناء نفسه على أسس جديدة. يظهر ذلك في السينما من خلال تمرد أساليب السرد عند مخرجي الموجة الجديدة على من سبقوهم مثل (ميزوجوتشي، وكيروساوا، ماساكي كوبياشي، وأوزو) كما أتت مواضيعهم نفسها جديدة كليًا؛ فمثلًا، طغى انطلاق تلك المواضيع من موتيفات جنسية ووجودية، تلك الموضوعات كانت من المحرمات بالنسبة لمن سبقوهم، وبذلك كسر رواد الموجة تلك القيود وذلك الميل للمحافظة.
اختار ماتسوموتو لموضوعه أن يكون «الجندر»، أي الهوية الجنسية واضطرابها وتعقيداتها وطريقة تعاطي المجتمع معها، وذلك في الستينيات، أي في وقت لم يكن من الشائع فيه طرح تلك الموضوعات حتى في الدول الأقل محافظة.
تبعًا لذلك اختار المخرج الياباني طريقة الحكي المدمج – بين الوثائقي والروائي- كما اختار للسرد أن يكون غير خطيّ، مستخدمًا تقنيات حداثية مثل كسر الجدار الرابع فنرى الشخصيات تتحدث للجمهور مباشرة. نرى في افتتاحية الفيلم أيضّا تأثرًا بصريًا بمخرجين مثل أورسون ويلز وجودار، وهما مخرجان مجددان في عصريهما.
يتابع ماتسوموتو في فيلمه بطل رئيسي وهو إيدي العابر جنسيًا من الذكورة إلى الأنوثة. يطرح بطل/ بطلة الفيلم وشخصيات أخرى تنتمي لمجتمع المثليين بينما يحكون عن معاناتهم فيما يخص أجسادهم وطريقة تعاطي المجتمع مع تلك ميولهم المختلفة عن السائد.
تحضر العقدة الأوديبية عندما تعلم إيدي (بعد عبورها إلى الأنوثة) أن أباها هو أحد شركائها في الجنس، فتقتله، في محاكاة لقتل أوديب لأبيه، وقتل أمه “جوكاستا” نفسها حين علمت أن زوجها هو ابنها الذي ظنته ميتًا، وتفقأ إيدي عينيها، كما فقأ أوديب عينيه معاقبًا نفسه على ما اقترفته يداه.
وهنا يختار ماتسوموتو تناص حكاية بطله مع حكاية أوديب، في إشارة لتلك المعاناة المستمرة لمجتمع ذوي الهويات والميول الجنسية المغايرة للسائد في اليابان، وكونهم ضحايا أزليين لسخرية القدر وعبثيته.

3- وحشية المأساة تقابل وحشية بازوليني
عُرف المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني بماركسيته، كما عُرف أيضًا بتأثره الشديد بفرويد، ويظهر ذلك التأثر بشكل جلي في معالجته لمسرحية أوديب ملكًا لسوفوكليس في فيلمه «عقدة أوديب Oedipus Rex» الصادر عام 1967.
وفي الفيلم يبدأ بازوليني بروما في الزمن الحالي، من أب عسكري يغار من ابنه الرضيع نتيجة تعلق زوجته به. وعليه؛ يقرر الأب التخلص من الابن. في تلك اللقطة ينتقل بنا بازوليني فورًا إلى زمن الأسطورة حيث نتتبع حكاية الطفل أوديب.
إن البداية التي اختارها بازوليني تشير لتأثره المباشر بالعقدة الأوديبية عند فرويد، فالأب يشعر بغيرة تجاه الطفل نتيجة لشعوره بأن الطفل ينافسه على حب الزوجة، ونتيجة لذلك يقرر التخلص منه. تلك رؤية فرويدية خالصة. كما أنها تشير لنزعة بازوليني التمردية، فبازوليني الذي عرف عنه نضاله لا يرى الأب سوى فرد ضمن حاشية الدكتاتور الإيطالي. وبذلك، وعبر المزج بين الأسطورة والحاضر، يسقط بازوليني الحكاية على حاضر يرفضه فيبدأ بتفكيكه.
تبعًا لذلك يكون انتقام أوديب من أبوه الملك انتقامًا مبررًا، فتبعًا لسردية بازوليني يرد الابن على نبذ أبيه له منذ البدء، وذلك ما يفسر كون أوديب بازوليني نسخة وحشية عنيفة تمامًا، ويتضح ذلك العنف في كيفية قتله للملك وأتباعه، كما تظهر تلك الوحشية أيضًا مع وحش الاسفنكس، فإن كان أوديب في الأسطورة يحل لغز الإسفنكس ليصبح ملكًا لطيبه، فهنا يقتل أوديب الوحش قبل أن يلقي الوحش باللغز عليه.
يظهر أيضًا جانب مختلف من أوديب بازوليني قبل أن يتأكد بطله أنه يضاجع أمه، فرغم أنه تلقى تحذيرًا واضحًا؛ يظهر أوديب بينما يمارس الجنس مع أمه بشكل عنيف ومتطرف، ويؤكد بازوليني بذلك انصياع أوديب لرؤى فرويد، بأن الابن منساق تمامًا لفكرة أن يصبح شريك حميمي لأمه، مستغرق في الإثم.
رؤية مغايرة أيضًا في النهاية يطرحها بازوليني مختلفة عن الأسطورة والمسرحية، ففي المسرحية وبعدما فقأ أوديب عينيه، يُساق لمدينة أخرى ترشده إليها ابنته أنتيجوني. ولكن هنا يرشده الفتى أنجيلو، والذي يظهر مرشدًا له منذ البدء في الحكاية، كما لا يساق أوديب إلى مدينة أخرى، إنما إلى الحاضر الذي انتمى إليه في البدء. وهنا تأكيد من بازوليني على فكرة التداخل بين الحاضر والأسطورة، وأن المشترك بينهما هو كون المعاناة الإنسانية واحدة. فنرى أوديب بينما يسوقه أنجيلو يمر بنفس الأماكن التي ارتادها وهو طفل صغير، بينما الآن يجوبها وهو أعمى يرشده أنجيلو، كما يظهر وهو يعزف الناي بمرارة في أنحاء روما، وكأنه يرثي نفسه ويرثي المعاناة الإنسانية كلها لأن التاريخ يدور بمرارة.

4- الفتي القديم… لعنة السعي إلى المعرفة
في عام 2003، قدم المخرج الكوري بارك تشان ووك فيلمه «الفتى القديم OLDBOY» وهو فيلم مقتبس عن مانجا ياباني تحمل الاسم نفسه، صدرت عام 1996.
«الفتى القديم» جزء من ثلاثية أسماها تشان ووك ثلاثية الانتقام، وفيها يحكي ثلاث قصص عن الانتقام.
في الفيلم يرصد تشان ووك بطله «أوه داي سو» الذي اختُطف وأودع السجن لمدة خمسة عشر عامًا، وبعد خروجه يسعى للانتقام ممن اختطفوه، كما يسعى لمعرفة السبب وراء اختطافه.
بعد سعي مرير، يكتشف داي سو أن من خطفه يدعي «وو جين»، وأنه قد كان زميلًا له في مرحلة الشباب، كما يعرف أن السبب كان معاقبته على فضحه للعلاقة العاطفية بين وو جين وأخته، ونتيجة لذلك انتحرت أخت وو جين.
تضمن انتقام أو جين أن يعرف غريمه داي سو أنه قد مارس الجنس مع ابنته التي لم يرها على مدار خمسة عشر عامًا ولم يكن يعرف شكلها. وعليه، يقطع داي سو لسانه تعبيرًا عن الندم، ويطلب من وو جين ألا يخبر ابنته بالأمر.
يتضح التأثر الأوديبي هنا في ثلاثة مواضع، الأول وهو سعي داي سو لمعرفة الحقيقة، وهو يشبه سعي أوديب الدائم وإصراره على معرفة سبب الطاعون في مدينة طيبة لكي يخلصها من الوباء، وبذلك ينتهي سعي داي سو لمصير مماثل، حيث يكتشف إثمه في الماضي ويعلم بأنه قد مارس الجنس مع ابنته.
الموضع الثاني يتجلى في ممارسة داي سو الجنس مع ابنته، وهنا مدخل للعقدة الأوديبية عند فرويد من خلال عقدة إلكترا، التي تتمحور حول تعلق الفتاة بالأب.
الموضع الثالث يكمن في العقاب، فالطريقة التي اختارها داي سو لعقاب نفسه تمثلت في قطعه لسانه لأنه وشى بوو جين في الماضي، وهي نفسها الطريقة التي يختارها أوديب في الأسطورة حينما يقوم بفقئ عينيه كيلا يرى ما اقترفه من ذنب.
الفعلان نابعان من رغبة في التطهر، كما يبدو البعد الرمزي من خلال قطع داي سو للسانه متوغلًا أكثر في المأساة بشقها الوجودي، ففي بداية إنجيل يوحنا تكون تلك الآية «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله». وهكذا يكون فعل داي سو فعلًا تمرديًا كاملًا رغم كونه نابعًا من ندم؛ فهو يقطع الصلة المادية بالإله عن طريق قطع لسانه، كتعبير عن سخطه وندمه على فعل الكلام الذي ساقه إلى تلك المعاناة.
ينتهي الفيلم بمعناقة داي سو لابنته، في رؤية تفاؤلية مقارنة بالأسطورة تنم عن رغبة بالمضي قدمًا في الحياة. تقبلها رغم مآسيها.
اقرأ أيضا: لاف دياز: في بلادي نصارع لننجو وهناك شاعرية في هذا النضال