لم تكن دورة مهرجان كان السينمائي، التي انطلقت في 7 أيار (مايو) 1997، دورة استثنائية لكنها فقط الذكرى الخمسين لإطلاق المهرجان وهو رقم يُحتفل به عادة. بل لأنها ذكرتنا أيضا بـ حلم “كان” العربي الكبير، حلم الفوز بجائزة المهرجان الرئيسية أو بأي جائزة ان تعذر ذلك. هذا الحلم داعب العرب طوال خمسين عاماً، أي منذ حمل يوسف وهبي فيلمه “سيف الجلاد” وتوجه الى “كان” ليجد نفسه عضواً في لجنة التحكيم فيها، حيث جرى الاختيار على أساس ان يعتبر كل الموفدين الأجانب الحاضرين المهرجان أعضاء في اللجنة.
داعب الحلم هذه الدورة يوسفاً آخر هو يوسف شاهين الذي أمّن فيلمه “المصير” الحضور الفيلمي العربي الوحيد في “كان” هذه المرة، والذي لم يكف حلم الفوز في هذا المهرجان يداعبه منذ عقود عدة، لدرجة انه خصص لذلك واحداً من أجمل أفلامه وهو “اسكندرية كمان وكمان”.
في هذه الدورة رشح فيلم شاهين المصير عن حياة الفيلسوف العربي بن رشد للمنافسة على السعفة الذهبية للمهرجان. لم يفز الفيلم وان فاز مبدعه حيث كرم في نهاية الدورة بواحدة من أرفع الجوائز في تاريخه: جائزة الخمسينية.
ولعله من طريف القول ان نبدأ حديثنا عن “حلم كان العربي” بأن أول دولة عربية “فازت” بالسعفة الذهبية في مهرجان “كان” السينمائي كانت المغرب وذلك في عام 1952، ويومها لم يكن للمغرب سينما ولا يحزنون. كان قد شارك هذا الدورة بفيلمه “عطيل”ومع ان الفيلم كان انتاجاً فرنسياً – ايطالياً مشتركاً، فإنّ ويلز وبسبب ظروف انتاجية وقانونية خاصة اضطر لأن يقدم فيلمه باسم المغرب، حيث كان صوّر الفيلم هناك ولا سيما في منطقة الصويرة.
تأتي ذروة الحلم في عام 1975 حين نال الفيلم الجزائري “وقائع سنوات الجمر” الذي أخرجه محمد الأخضر حامينا السعفة الذهبية.
أشكال أخرى لمقاربة الحلم
تحقق حلم كان العربي أكثر من مرة لكن بأشكال متفاوتة، أبرزها في العام 1975 حين نال اللبناني الراحل مارون بغدادي جائزة لجنة التحكيم الخاصة، عن فيلم “خارج الحياة”، ثم بعد ذلك حين نال “يد الهية” للفلسطيني ايليا سليمان جائزة من العيار نفسه، تبعته فيها اللبنانية نادين لبكي لفيلمها “كفرناحوم”، علماً أن لبنانياً آخر هو ايلي داغر نال بدوره سعفة ذهبية، ولكن لفيلم قصير هو “صيف 1982”.
بإمكاننا أيضا ان نعتبر اختيار يوسف شاهين نفسه ليكون عضواً في لجنة التحكيم في العام 1983 تحت رئاسة الكاتب الأميركي ويليام ستايرون اقتراباً للعرب من المكانة السامية في المهرجان، كما ستكون الحال بعد ذلك بثمانية أعوام حين سيتم اختيار التونسي فريد بوغدير لعضوية اللجنة نفسها تحت رئاسة رومان بولانسكي.
ريادة يوسف شاهين
شهد مهرجان “كان” الأولى منذ دورته حضوراً عربياً مرموقاً. ومع هذا فإن الحضور الأسمى: في المسابقة الرسمية، وفي الحصول على الجوائز الكبرى، ظل أمنية عزيزة، تتفاعل فقط في أذهان السينمائيين العرب. وهنا مرة أخرى كان الرائد هو يوسف شاهين الذي حين اصطحب فيلمه “ابن النيل” ليشارك به في مسابقة المهرجان، كان يأمل في الفوز بكل جدية.
قبل شاهين كانت هناك مشاركات مصرية، أكثر تواضعاً. ففي الدورة الأولى، في العام 1946، حمل يوسف وهبي فيلمه “سيف الجلاد” من تمثيله مع عقيلة راتب وبشارة واكيم وشارك الى المهرجان. وفي العام 1949 كان دور صلاح أبو سيف مع فيلم “عنتر وعبلة”. شارك أحمد كامل مرسي بفيلم “البيت الكبير” في العام نفسه،ثم لاحقا بفيلمه “ست البيت”.
لم يكف شاهين عن المشاركة في كان وان عجز في الغالب على فرض أفلامه في المسابقة الرسمية، اذ نراه في العام 1952 يصطحب فاتن حمامة وعمر الشريف ليشارك بفيلم “صراع في الوادي” الذي لفت الانظار، على أي حال، وحاز شهادة تقدير، اعتبرها شاهين أشبه بجائزة ترضية موقتة في انتظار “المعجزة” التي ستحدث ذات يوم لا محالة.
وفي العام 1970، وكان شاهين أصبح معروفاً على نطاق واسع، شارك في المهرجان بفيلم “الأرض” وبعد ذلك بخمسة عشر عاماً، شارك بفيلمه “الوداع يا بونابرت” الذي لم يشفع له، لدى الفرنسيين على أي حال، أن يكون بطلاه اثنين من أفضل ممثليهم ميشال بيكولي وباتريس سيترو. وفي العام 1987 ارتقى شاهين درجة حيث شارك فيلمه “اليوم السادس” عن رواية اندريه شديد المكتوبة اصلاً بالفرنسية في تظاهرة نصف شهر المخرجين، وهي التظاهرة ذاتها التي عاد في العام 1988 ليشارك فيها بفيلمه “اسكندرية كمان وكمان” الذي لم يشفع له – ويا للعجب – ان يكون مهرجان كان موضوعه الأساسي!
يوسف شاهين، كما رأينا لم يكن المصري الوحيد الذي شارك بأفلامه، في مهرجان “كان” في شكل أو آخر، وان كان – حتى ذلك العام المفصلي – المصري الوحيد الذي يصل في ارتقائه الكاني، الى ان يعرض فيلم له في “الاختيارات الرسمية”. فعدا عن شاهين ويوسف وهبي وأحمد كامل مرسي، الذين ذكرناهم من قبل، عاد صلاح أبو سيف في العام 1954 ليشارك بفيلمه البديع “الوحش” الذي تفيدنا المصادر المصرية انه نال يومها “جائزة تقدير”. والمصادر ذاتها تقول ان أبو سيف نال في العام 1956 “جائزة النقاد” عن فيلمه الثاني “شباب امرأة”. وكانت تلك، على أي حال، آخر مرة يشارك فيها أبو سيف في دورات كان.عرض أيضالكمال الشيخ فيلم “الليلة الأخيرة” في دورة عام 1964، كما عرض لبركات فيلم “الحرام” في العام 1965.
دور الأجيال التالية في الحلم
هذا بالنسبة الى مخرجي الأجيال القديمة، أما مخرجو الأجيال الأجد، فعلى رغم ان معظمهم سعى للمشاركة في دورات المهرجان ولو في تظاهرات ثانوية، فإن اثنين فقط تمكنا قبل الدورة الخمسينية، من تحقيق ذلك.نجح خان في الوصول الى تظاهرة “نظرة ما…” التي تعتبر ثاني أهم تظاهرة في المهرجان، بفيلمه “عودة مواطن” عام 1987 كما نجح أيضا عاطف الطيب الوصول الى تظاهرة “نصف شهر المخرجين”بفيلم “الحب فوق هضبة الهرم” عن قصة مرموقة لكاتبنا الكبير نجيب محفوظ.
اعتبر أهل السينما المصريين، بين سينمائيين،ممثلين ومخرجين ومنتجين وموزعين ومسؤولين الوجود في كان واجباً سينمائياً لا يجوز التخلف عنه، وأوصلهم هذا لأن يكون لمصر جناح خاص في “سوق الفيلم” والذي عد جناح العرب ككل منذ صار المقر شبه الدائم للكاتب الراحل سعدالدين وهبه، طوال فترة ترؤسه لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي. وللمناسبة لا بد ان نذكر هنا ان وهبة كان من عادته أن يختار مهرجان كان، حيث يكون حضور النقاد والسينمائيين العرب كبيراً، لاطلاق الدورة المقبلة لمهرجانه القاهري، عبر حفلة استقبال صارت علامة مميزة من علامات المهرجان، بالنسبة للمشاركين العرب وغيرهم من الأجانب من محبي السينما العربية.
أحلام واتهامات
ونعود هنا إلى حلم الفوز، فقد ظل حلما وشكوى ولكن حين ظهر “وقائع سنوات الجمر” للجزائري محمد الأخضر حامينا، والذي حقق أكبر فوز عربي حتى اليوم في “كان” حين نال السعفة الذهبية في العام 1975، حدث ما لم يكن متوقعا: ما ان أعلن فوز الفيلم حتى راحت الأقلام العربية تنهشه من كل جانب. ويومها عزي فوزه الى كونه “يمالئ المستعمر الفرنسي” ويكشف عن الصراعات التي كانت قائمة في صفوف الوطنيين انفسهم. وبالفعل كان ذلك الفيلم أول صرخة تسعى لقول شيء من الاختلاف في ما يتعلق بالحرب الجزائرية التي كان لا بد لأي حديث عنها، قبل ذلك ان يكون مقدساً.
وشيء مثل هذا حدث بعد سنوات، حين فاز اللبناني مارون بغدادي بنصف جائزة لجنة التحكيم الخاصة – شراكة مع الفيلم الرائع “أوروبا” للدنمركي لارس فون تراير -. يومها أيضاً، اعتبر فيلم مارون بغدادي الفائز وهو “خارج الحياة” فيلماً فرنسياً، ليس فقط في انتاجه وممثليه، بل كذلك في موضوعه كما في توجهه الفكري العام. يقيناً ان عوامل متشابكة وعديدة ساهمت يومها في اساءة كل من المخرجين العربيين لنفسهما وسينماهما، وجعل انتصار الفيلمين يعزى لعوامل سياسية. ولكن اليوم، بعد كل تلك السنوات يمكننا ان نرى بكل بساطة، ان كلاً من الفيلمين يستحق فوزه، ويجدر به ان يعتبر جزءاً من السينما العربية.
مشاركات عربية ملحوظة
مهما يكن، في الوقت الذي شارك مارون بغدادي بـ”حروب صغيرة” ثم بـ”خارج الحياة” لم يعد الحضور العربي – عبر الأفلام – في “كان” أمراً نادراً، اذ خلال السنوات العشر الأخيرة قبل دورة 1997، لم تخل دورة من دورات “كان”، في تظاهرات ثانوية من مشاركات عربية مرموقة، بحيث ان استعراضاً لخارطة السينما العربية الجديدة ستضعنا أمام خارطة – وان مختصرة – للمشاركة العربية في “كان”.
شارك السينمائيان الفلسطينيان الأشهر ميشال خليفي ورشيد مشهراوي بعدد من أفضل أفلامهما في تظاهرات “كان” الثانوية.كانت مشاركة مشهراوي في “حيفا” ملحوظة حيث فاز يومها بجائزة “الأونيسكو”. كما شارك ميشال خليفي بـ”حكاية الجواهر الثلاث”.
شاركت مفيدة التلاتلي بفيلمها الملفت “صمت القصور” الذي نال تنويهاً خاصاً. ومن تونس أيضاً شارك فريد بوغدير والناصر خمير، وخصوصاً نوري بوزيد – وكانت آخر مشاركة له بفيلم “بيزنس” قبل سنوات.
كان الأخضر حامينا هو المشارك الرئيسي من الجزائر ، ثم أتى مرزاق علواش الذي عرضت له تظاهرة “أسبوعي المخرجين” “باب الواد سيتي” و”سلاماً يا ابن العم” و”التائب”.
ولئن كان بامكاننا خلال دورات “كان” الأولى ان نحصي بيسر الأفلام العربية المشاركة، فإننا خلال السنوات الأخيرة ولا سيما منها سنوات ما قبل الكورونا، بتنا نجد الاحصاء أكثر صعوبة. ومهما يكن، يمكننا ان نتوقف مطولاً، ومرة اخرى، عند الحضور العربي في “كان”. فمهرجان “كان” في كل الأحوال يعني لأهل السينما العرب، ولا سيما منهم أولئك المحرومون في بلدانهم من مشاهدة الأفلام الجديدة والمهمة، مناسبة تمكنهم من مشاهدة الجديد والتناقش حوله بصخب في معظم الأحيان.
اقرأ أيضًا: «قتلة زهرة القمر» تحيّة للسكان الأصليين
اقرأ أيضًا: «القاتل» ديفيد فنشر ينتظرنا في الظلمة