فاصلة

أصوات نقدية سعودية

مهرجان أفلام السعودية 11: «سوار» ماذا يعني أن يكون ابنك؟

Reading Time: 5 minutes

ما زلت أذكر الحادثة!.. لقد كانت «قضية رأي عام» حينها؛ في مطلع الألفية الجديدة تكتشف عائلة سعودية من نجران أن ابنهم تبدل أثناء الولادة في المستشفى بابن آخر لعائلة تركية، كان الأمر مفزعًا حينها، لا يمكن استيعابه، كيف لكل هذه المشاعر واللحظات الفريدة والأوقات الجميلة وحتى المعاناة التي قضيتها مع هذا الابن أن تتلاشى أمام فكرة أنه ليس ابنك في الحقيقة؟! الأمر لا يظهر كمُجرد حادثة غريبة تثير الحنق والكثير جدًا من التعاطف بقدر ما هو مُساءلة وجودية أيضًا لحقيقة العلاقة التي تتجاوز الروابط البيولوجية.

 أن يكون فيلم الافتتاح هو العرض الأول لإعادة رواية هذه الحادثة لهو اختيار جيد ومثير يعبر عن رسالة مهرجان أفلام السعودية، هذا المهرجان الأصيل وحذاقة منظميه كما هي عادة المهرجانات وسِمتها في اختيار فيلم الافتتاح لكونه عرضًا أوليًا أو فيلمًا يحمل قدرة خاصة على إثارة الجدل أو غرابة التجربة. 

على أنني هنا لن أفوت فرصة العتب الكبير على الكثير ممن غادروا حفل الافتتاح قبل مشاهدة الفيلم مكتفين بالبروتوكولات الشكلية ومسيرات السجادة الحمراء وفلاشات الكاميرا واللقاءات الإعلامية الساذجة، لم يكن هذا سلوكًا سينمائيًا مراعيًا يا أصحاب، فقبل العرض كان المخرج أسامة الخريجي وبخطوة جميلة قد دعا جميع العاملين في الفيلم -والذين لا أشك أنهم مروا بأوقات صعبة وعصيبة لإنجاز هذا العمل – للوقوف على خشبة المسرح، كانت مشاهدة الفيلم أكثر من كافية لإظهار التقدير اللازم. حسنًا لندع العتب جانبًا ولنتوجه إلى الفيلم بشكل مباشر. 

 
«سوار» الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج والمنتج أسامة الخريجي وهو يشير عبر الاسم -أو كما أفهم- إلى السوار الذي يوضع على المولود ويحمل بياناته كاملة بعد ولادته ولكنه بطريقة سيمولوجية أيضًا سيشير إلى مفهوم العائلة كسوار لأفرادها.

 انتهج المخرج – المشارك أيضًا في الكتابة – الشكل الروائي في سرد الرواية، وذلك من خلال تقسيم الفيلم لثلاثة فصول، حيث سيتعلق الفصل الأول والذي أسماه «شك» بالعائلة التركية، نرى العائلة ووضعها المادي والاجتماعي وكل الصعوبات المهنية المعتادة التي تواجه رب العائلة وحالات التنمر والإقصاء التي يمر بها الابن بسبب شكله وملامحه التي تعبر بطبيعة الحال عن إنسان الجزيرة العربية وليس العرق التركي، إنه الولد الذي تم تبديله.

فيلم سوار (2025)
فيلم سوار (2025)

لكن الأمر المهم الذي سنراه هنا هو الحالة الشعورية التي تعيشها العائلة وتحديدًا الأب والذي لم يكن راضيًا في البداية عن إجراء اختبار الحمض النووي «DNA»، ولم يكن مستعدًا على الإطلاق لقبول فكرة أن ابنه «يعقوب» ليس ابنه فعليًا حالة من التوتر المؤسفة استطاع المخرج تجميعها في زخم متواصل يصل في ذروته عند مشهد جميل أبدع الممثلون الأتراك في تأديته حينما يتوقف على جانب الطريق وينزل مفكرًا بحزن وألم يدفعه للبكاء؛ لم يكن الأمر مجرد شك، بل هو حالة من الاضطراب والتوتر والقلق والرغبة في الهروب عن مواجهة الواقع.

ينتقل الفيلم في ثلثه الثاني إلى السعودية، وتحديدًا نجران بكل تقاليدها، والطبيعة العفوية الطريفة والمرحة للإنسان النجراني، وتحت عنوان «إشاعة» والذي فيما أعتقد يشير إلى إشاعة تبديل الأولاد دون أن تدرك العائلة أنها هي من سيختارها القدر لتصدق على هذه الإشاعة، لربما كان العنوان سيبدو أكثر صدقًا وتعبيرًا لو كان «أصالة» أو «انتماء» لأن هذا الفصل خلافًا للفصل المتعلق بالعائلة التركية سيعبر هنا عن حالة مختلفة تمامًا وهي حالة الأصالة في التقاليد الاجتماعية فيما يتعلق باللبس -«الجمبية» مثلا- أو حفلات الزواج أو طبيعة العلاقات الصبيانية والتراتيب العائلية الهرمية، كما يتعلق بقوة الانتماء الأسري والاجتماعي.

فيلم سوار (2025)
فيلم سوار (2025)

 فهذا الابن «علي» وبأداء جميل وطريف يحمل نتيجة التربية عمقًا لا محدودًا في الانتماء العائلي، ويتجلى هذا أكثر في المشهد الأكثر تأثيرًا حينما يعود أبوه إلى السيارة ويتساءل الابن «علي» ما إذا كان قد دخل أبوه في عراك مع شخص ما؟ وأنه وبكل شجاعةٍ معلنةٍ لن يصمت أمام من يتعدى على والده أو يهينه، بل سيسحق كل من يتجرأ على ذلك. 

لقد كان ذروة هذا الفصل وقمة الحشد العاطفي الذي جمعه المخرج والأكثر تعبيرًا عن الارتباك النفسي والذهني لدى المشاهد الذي يدرك حقيقة أن هذا الابن بلهجته وتعابيره الطريفة وتمسكه المفرط بتقاليد المجتمع النجراني هو ابن العائلة التركية.

ثم سنأتي في الفصل الأخير من الفيلم، بعنوان «قضية»، وهو أضعف الفصول، لكنه كما يبدو وحسب رؤية الكاتب ومخرج العمل قد احتاج إلى توضيح حيثيات القضية ذاتها، وهو الأمر الذي لم يكن ملائمًا أمام الحالة العاطفية والتأملية التي عشناها خلال الفصلين السابقين، فكلما سعى الفيلم لتقديم تفسيرات معينة سيبدو أضعف فنيًا، حيث أعتقد أن الفيلم في الأصل لم يكن ليطرح حلولًا، ولكنه سيكتفي بأن نعيش ونشعر بالحالة ذاتها دون أي إملاءات مُعينة، لكن رؤية العمل كما أفهمها هي رصد ما حدث وتجلية لأي غموض ممكن، وعرض تداعيات هذه المصيبة التي حلت بعائلتين مختلفتين تمامًا.

فيلم سوار (2025)
فيلم سوار (2025)

فعلى المستوى الفلسفي سنجد أنفسنا أمام تساؤل مضني: هل الأبوة علاقة بيولوجية؟ هل الهوية نتيجة الطبيعة الجينية أم هي ما يمكن أن نصبح عليه بسبب التنشئة والبيئة؟! ثم ماذا عن الموقف الحقيقي في الاختيار؟ والتي ستقودنا في نفس الوقت لمأزق الحرية؛ فبحسب فلسفة سارتر الوجودية وشيء من فلسفة هايدغر ربما نمر بما يسمى «التحول الوجودي» حيث لا نكتشف حقيقتنا ونعرف ما نحن عليه من حيث ما وجدنا أنفسنا فيه، وإنما من خلال ما نختاره بوعي، ومسؤولية، حينما تلطمنا الحياة بكارثة أو مأساة ما. هذا الأمر سيدركه كل أب يضع نفسه مكان أبطال القصة وسيلح عليه السؤال دائمًا: «ماذا يعني أن يكون هذا ابني وأنا أبوه؟! وهذا تحديدًا برأيي ما كان يجب على الفيلم أن يُعمقه رغم اللمحات غير القليلة التي رأيناها تنحى هذا المنحى.

فيلم سوار (2025)
فيلم سوار (2025)

أخيرًا سأحيي المخرج وكتاب العمل على الفيلم كما أشيد بعدد من اللقطات الجميلة وزوايا التصوير، التي قام بها مدير التصوير والمخرج أيضًا بلال البدر، رغم تحفظي على شيء من التكاسل في تحريك الكاميرا، وتنويع اللقطات، لضخ قدر أكبر من المعنى، لكنني سأقبل كل شيء أمام اللقطة الطويلة البارعة في ختام الفيلم.

بالنسبة للأداءات ومع نجاح جميع الممثلين الأتراك، فستحسب للمخرج ميزة إدارة الممثلين بهذه الطريقة الجيدة، والذين أشاهدهم لأول مرة باستثناء الممثلة السعودية سارة بهلكي، والتي نجحت رغم اختلاف اللهجة والبيئة والدور الجديد كليًا في تقديم شخصية الأم السعودية النجرانية بشكل جيد ومؤثر -أو على الأقل حسب رؤية شخص لم يتشرف حتى الآن بزيارة نجران ومعرفة طبيعة أهلها-، إضافة إلى الممثلين الذين أشاهدهم للمرة الأولى، مثل: فهيد محمد آل دمنان بدور الأب «حمد»،  وحسن محمد آل شكوان بدور العم «حسن»، بأداء سلس ومتوائم مع أغلب المشاهد، دون انفعالات مزعجة، وبالطبع الابن «علي» والذي قدمه ببراعة مبهجة الطفل علي محمد آل شكوان، واستحوذ على كل المشاهد المضحكة، وهو الأمر الذي جعل من مواقفه الدرامية التراجيدية أكثر تأثيرًا.

فيلم «سوار» تجربة أولى جيدة لصناع العمل وإضافة تستحق الحديث واختيار ذكي من المهرجان.

اقرأ أبضا: أحمد الملا يجيب في حوار خاص: هل لا يزال مهرجان أفلام السعودية الوجهة الأولى لصناع الأفلام؟

شارك هذا المنشور

أضف تعليق