عند مشاهدة فيلمٍ مبني على قصة واقعية، كثيرًا ما يشعر المشاهد برغبة في التفحص والعودة إلى أصل الحكاية؛ يتساءل عن دقّة الأحداث، وعن مدى التزام الكاتب بالوقائع والشخصيات والتفاصيل كما وقعت فعلًا. لكن ما يلبث أن يكتشف أن الفيلم ليس توثيقًا حرفيًا، بل انعكاسًا دراميًا يُجسّد القصة كما رآها صانعها، وهذا يتطلب، بالضرورة، إعادة ترتيب الوقائع، أو حذف بعض الشخصيات، أو حتى خلق أحداث لم تقع، في سبيل خلق تجربة مشاهدة متماسكة.
وفي هذا السياق، يفتتح مهرجان أفلام السعودية في دورته الحادية عشرة بفيلم «سوار» للمخرج والمنتج أسامة الخريجي، كأول فيلم روائي طويل يُعرض كفيلم افتتاح في تاريخ المهرجان، وهو أيضًا أول فيلم روائي طويل في مسيرة الخريجي السينمائية. وهو ما اعتبره مدير المهرجان أحمد الملا في حواره على منصة فاصلة، تطورًا نوعيًا، حيث قال: «اعتاد المهرجان في دوراته السابقة أن يفتتح بعرض أفلام قصيرة، ولكن هذا العام جاء فيلم سوار ملبّيًا لجميع المتطلبات ليكون فيلم الافتتاح، خصوصًا أنه يتماشى مع ثيمة المهرجان: سينما الهوية»
لا يُنظر إلى «سوار» بوصفه مجرد فيلم افتتاحي، بل كعمل يحمل دلالة خاصة في سياق التحولات التي تشهدها السينما السعودية، خصوصًا مع تصاعد الإنتاج المحلي الذي يستند إلى قصص واقعية. شهدنا هذا التوجه من قبل في أفلام مثل «جرس إنذار»، التي لفتت الانتباه لقدرتها على خلق صلة عطف بين القصة والمشاهد، حين تكون القصة متداولة في الذاكرة العامة أو تمسّ شيئًا من الواقع المشترك. الفيلم ينتمي إلى هذا النوع من الأعمال التي تستمد مادتها من الواقع، لكنها لا تتقيد به كوثيقة. بل تتعامل معه كحكاية قابلة لإعادة التشكيل. فالفن لا يطلب منّا أن نروي حدث ما فحسب! بل أن نمنحه حياة أخرى على الشاشة.
فصل الشك: مشحون بالأسئلة والانفعالات
ينقسم فيلم «سوار» من ثلاثة فصول: الشك، الإشاعة، والقضية. يبدأ الفصل الأول، الشك، مع العائلة التركية، حيث تبدأ الشكوك تحوم داخل أسوار منزل فاطمة وينار، المتأثرَين بكلام الناس وإشاعتها حول شرعية ابنهما يعقوب. اختيار بدء الفيلم من زاوية العائلة التركية يُعدّ خيارًا جريئًا ومنطقيًا في آنٍ واحد، كونهم هم الذين بادروا بإجراء الفحص البيولوجي لابنهم في القصة الحقيقية. وقد جاء هذا الخيار محمّلًا بجرأة، خصوصًا أن الفصل الأول بأكمله يدور حول العائلة التركية وتفاصيل حياتهم اليومية بشكل مكثف، وهو أمر متوقع كونهم أساس القصة لكنه خلق انطباعًا بأن المشاهد يتابع دراما تركية أكثر من كونه فيلمًا سعوديًا، ومن المتوقع أن هذا الأمر قد خلق تحديًا عند الخريجي وهو ما يُشكّل مفارقة لافتة في تجربة المشاهدة.

قدّم الممثل التركي يوسف ديميروك، مؤدي شخصية يعقوب، أداءً سينمائيًا واقعيًا ومقنعًا، خصوصًا بالنظر إلى صغر سنّه. في عدة مشاهد، يتجلى تأثير الصدمة النفسية على يعقوب، لا سيما في لحظات تُظهر دفاعيته المفرطة، مثل مشهد أخته زينب حين كانت تعطيه الطعام، وسؤاله لها قبل أن يأخذ اللقمة: «هل ستضربينني؟»، وهي لحظة كاشفة لعقدة الخوف المتجذّرة فيه. هذه العقدة، الناتجة عن الشعور بالرفض أو التنمّر، ظهرت أيضًا في سياق آخر مع شخصية علي، الذي واجه هو الآخر مضايقات في المدرسة، وظهر ذلك في مشهد الشجار في ساحة المدرسة.
في لحظة الكشف عن الهوية البيولوجية ليعقوب، بدت صدمة الأب ينار واضحة، إذ أصرّ على إعادة الفحص، وكأنه يرفض تصديق النتيجة، لا لشكِّه فيها، بل لأنه لا يريد أن يُثبت عكس كلام الناس الذين شكّكوا في شرعية ابنه. في المقابل، كانت فاطمة صامتة، لا رغبة منها في التصديق، ولكن بدافع عاطفي؛ إذ تحب يعقوب ولا ترغب في التخلي عنه، بغض النظر عن الحقيقة البيولوجية.

الهوية المحلية تحت مجهر الصوت
يبدأ الفصل الثاني، الإشاعة، في السعودية وتحديدًا في منطقة نجران، استنادًا إلى الوقائع الحقيقية التي شكّلت خلفية القصة. وقد برزت الهوية الثقافية لنجران في هذا الفصل بوضوح، حيث أظهر الفيلم بعض ملامح الموروث المحلي، مثل «الزامل» في مشهد الزواج، و«السعب»، وهو الرقص التقليدي الشعبي الذي يُقام في مناسبات أهالي نجران. كما ظهرت الجنبية، -الخنجر العربي-، بوصفها عنصرًا يحمل دلالة خاصة وقدسية ثقافية في تلك المنطقة. نجح الفيلم في تقديم صورة واقعية لأهل نجران ولهجتهم ومحيطهم الاجتماعي، مما منح العمل عمقًا محليًا ملموسًا.
برزت بعض المشاكل التقنية في الهندسة الصوتية، خصوصًا في مشهد ينار مع الصحفي تركي داخل الورشة الميكانيكية، حيث يُلاحظ أن صوت ينار تم استبداله أو تسجيله لاحقًا، على الأرجح بسبب ضعف نطقه باللغة العربية، ما جعل التسجيل الصوتي يبدو مركبًا وغير مندمج طبيعيًا مع الأداء. الأمر ذاته يتكرّر في مشهد الحديقة بين نورة وفاطمة، حيث بدا أن صوت نورة مسجل مسبقًا وتم تركيبه لاحقًا، ما أضعف الإحساس بالواقعية. هذه الإشكالات لا تقتصر على مشاهد بعينها، بل تمتد إلى عدم استقرار مستويات الصوت في الفيلم عمومًا، إذ ترتفع الأصوات بشكل مبالغ فيه في بعض المشاهد – كما في مشهد فاطمة أثناء مشاهدتها للمقابلة على التلفاز – ثم تعود لمستوى معتدل في مواضع أخرى، مما يؤثر على توازن التجربة السمعية للمشاهد.

من الناحية البصرية، اعتمد الفيلم في عدد من اللحظات المحورية على اللقطات الواسعة، خصوصًا في المشهد الأخير، ما أدى إلى نوعٍ من التباعد العاطفي بين المشاهد والحدث جاء استخدام الكادر الواسع مُربكًا وأفقد المشهد كثيرًا من تأثيره، إذ لم يسمح للمشاهد بالتقرّب من ملامح الشخصيات أو التفاعل مع مشاعرهم بشكل حميمي.
التمثيل البصري الهوية الجينية
من الأمور التي أثّرت على تركيز المشاهد، التباين غير الظاهري في ملامح الشخصيات، خصوصًا بين يعقوب وأخوته. يعقوب بدا بملامح تركية نوعًا ما، في حين أن علي، الذي يُفترض أنه تركي بيولوجيًا لم يعكس ذلك بصريًا بنفس القوة. على العكس، بدا الطفل النجراني الذي تربّى في كنف العائلة السعودية، أقرب شكليًا إلى ملامح أبناء المنطقة. هذا التضاد في الشكل كان من المفترض أن يكون محرّكًا رئيسيًا لشكّ العائلة التركية وإقدامها على فحص الحمض النووي، وهو ما نعرفه من القصة الواقعية، لكنه لم يُبرَز بوضوح في الفيلم، وغياب هذا التمايز الشكلي جعل المشاهد يعتمد فقط على الحوار لفهم الفجوة الجينية، بدل أن تُعزّز بصريًا كما هو متوقّع في عمل سينمائي يستند على قضية الهوية.
والجدير بالذكر أن العائلة التركية في الفيلم لم تكتشف الاختلاف إلا من خلال التحاليل، وليس من خلال الشكل، على عكس الواقع حيث كان الشكل المحرك الرئيسي للشكوك. وهذا الفارق في التقديم انطلى أيضًا على اختيار الممثلين في الفيلم لكل من العائلة التركية والسعودية، حيث لم يتم الاستفادة من التباين الجيني كعامل بصري قوي في سياق القصة.
عزّي لحالك يا عزيّز وأنا أبوك
كان الزمان اللي وطاني توطّاك
افهم وصاتي يا عزيّز وأنا أبوك
دامك صغير وغاية العلم يقراك
لطالما رسخت أحداث معيّنة في ذاكرة السعوديين، خصوصًا تلك التي شغلت الرأي العام وظهرت في التلفاز أو الصحف أو مواقع الإنترنت. من أبرز هذه القضايا، القصة الحقيقية التي ارتبطت بالإعلامي داوود الشريان، والتي أثارت موجة واسعة من النقاش والمطالبات بتدخّل الجهات المسؤولة، بعدما تحوّلت إلى خطاب عام يتجاوز حدود الأسرة إلى المجتمع ككل.

استثمر الفيلم هذا الزخم الإعلامي ببراعة، حيث استعان المخرج بلقطات تلفزيونية تُعيد تمثيل ظهور العائلتين في برنامج داوود الشريان، مؤدّاة بإتقان من قِبل الشخصية في الفيلم «شايع القريعان»، الذي جسّد دور الإعلامي بأسلوب واقعي يُعيد لذاكرة المشاهدين تفاصيل تلك اللحظة.
كما لم تخلُ هذه المرحلة من الفيلم من لمسات كوميدية خفيفة، خصوصًا في المشاهد التي جمعت بين علي وعمّه، والتي بدت عفوية وتلقائية، وكأنها ارتجالات واقعية وليست مكتوبة، وهو ما منح هذا الجزء من الفيلم طابعًا إنسانيًا وخفيف الظل، دون أن يُفرّط في جديّة القضية أو يقلّل من ثقلها المجتمعي. واللافت أيضًا هو أداء الطفل علي آل شكوان، الذي جسّد شخصية «علي» بصدق وبراءة لافتة، تنم عن موهبة طبيعية في التمثيل، رغم أن هذا هو أول ظهور له على الشاشة. حضوره كان عفويًا دون تكلّف، وتمكن من نقل مشاعر الطفل الممزق بين عائلتين بلغة جسد بسيطة ونظرات معبّرة، ما أضفى على الشخصية أبعادًا لم تكن لتتحقق لولا هذا الأداء المؤثّر. أدائه اللافت يبشّر بميلاد ممثل واعد، إذا ما استمر في صقل موهبته وتطويرها.
اقرأ أبضا: مهرجان أفلام السعودية 11.. «سوار» ماذا يعني أن يكون ابنك؟