فاصلة

مراجعات

صندانس 2025: «اللي باقي منك».. الذاكرة والملحمة والمعضلة الأخلاقية في أحدث أفلام شيرين دعيبس

Reading Time: 4 minutes

أذكر قبل أعوام عديدة، تحديدًا في 2009، عندما وقف المخرج الفلسطيني الأشهر إيليا سليمان في القاهرة يجيب عن أسئلة الجمهور بعد عرض فيلمه «الزمن الباقي»، أن اعترض على أحد المتحدثين عندما ذكر اسم الفيلم «الزمن المتبقي»، مشيرًا لأن الفرق بين الكلمتين في اللغة العربية كبير وقد يكون متناقض، فالمتبقي تعني أن الجانب الأكبر من الشيء قد زال ولا يتبقى منه إلا الجزء المذكور، أما الباقي فتشير لبقاء الشيء (الزمن هنا والمقصود ذاكرة سليمان الفلسطينية) رغم كل محاولات طمسه وإزالته.

استعانت المخرجة الفلسطينية الأمريكية شيرين دعيبس على الأغلب بالمفارقة اللفظية ذاتها عند اختيار عنوان فيلمها الجديد «اللي باقي منك»، والذي استضاف مهرجان صندانس السينمائي عرضه العالمي الأول ضمن قسم العروض الأولى، لتكون المشاركة الثالثة لدعيبس في المهرجان الذي برمج أفلامها الطويلة الثلاثة: «أمريكا» 2009، «مي في الصيف» 2013، قبل أن تنتظر 12 سنة كاملة قبل إنجاز الفيلم الطويل الثالث. 

وإذا كانت قد استعانت بالمفارقات اللفظية عندما اطلقت على فيلمها الأول «أمريكا» في إشارة لطريقة نطق المهاجرين العرب للكلمة، ففي الأغلب العنوان الجديد يحمل تحية لفيلم إيليا سليمان الأيقوني الذي يمكننا تأثيره الواضح على «اللي باقي منك»، سواء في الموضوع أو الشكل السردي المختار للحكاية.

اللي باقي منك
الزمن الباقي (2009)

تشابهات واختلافات

يتشابه فيلم شيرين دعيبس مع «الزمن الباقي» في الحس الملحمي، تلك الرغبة في تقديم السردية الفلسطينية من بدايتها، وكيف تغيرت رؤية الفلسطينيين لأنفسهم وللعالم عبر أكثر من 75 عامًا من الإحباطات المتتالية، وبالتالي فالتشابه يمتد إلى استعادة فلسطين 1948 على الشاشة في أحد الفصول، والانطلاق منها إلى مراحل زمنية لاحقة. إذا أضفنا لذلك أن المخرج يمثل دورًا رئيسيًا في الفيلمين، وأن الممثل صالح بكري هو من لعب دور والد إيليا سليمان في فيلمه، ثم لعب دور والد الشاب الذي تنطلق منه الحكاية في «اللي باقي منك»، فسيكون من المنطقي أن نلمس هذا التشابه.

لكن ثمّة اختيارات مختلفة كليًا، منها النبرة التي تميل للجدية وتلامس الميلودراما في بعض أحداثها، بعكس الرؤية التهكمية التي تميز كافة أفلام سليمان. منها أيضًا رغبة شيرين دعيبس في طرح عدة أسئلة واضحة في فصول فيلمها: سؤال البقاء والخروج في فصل 1948، سؤال الاستسلام أم النضال العبثي في فصل 1978، ثم سؤال التعايش وما يطرحه من معضلات أخلاقية في الفصل الذي يبدأ في 1988 ويمتد حتى ما قبل 7 أكتوبر 2023.

هذا الاختيار يمنح «اللي باقي منك» حسًا أنطولوجيًا واضحًا، وكأننا نشاهد ثلاثة أفلام متوسطة الطول، كل منها ساعة إلا ربع تقريبًا (مدة الفيلم الكلية ساعتان و25 دقيقة)، تُشكل معًا رؤية واسعة لمعضلات الفلسطيني عبر التاريخ. يجمعها أن أبطالها أبناء أسرة واحدة، ويفرقها الموضوع المطروح في كل فصل. وكعادة الأنطولوجيا يصبح الفيلم فورًا في مأزق الحفاظ على مستوى جودة وتشويق وعمق واحد بين كل الحكايات، وهو ما تنجح شيرين دعيبس فيه في أول حكايتين، وتتعثر قليلًا في الحكاية الثالثة.

الزمن الباقي (2009)
الزمن الباقي (2009)

فصول الملحمة

الفصل الأول هو حكاية الخروج الإجباري، وفيه تبرع المخرجة في رسم العلاقة الحميمية بين الأب (آدم بكري) وابنائه، ما نراه من حب متبادل بينهم، وثقة مطلقة في قدرة الأب على حل كل المشكلات، تبدو أقرب للفصول الأولى في أفلام الرعب، لأننا ببساطة نعلم ما سيحدث لاحقًا، أي على طريقة هيتشكوك تكمن متعة الفصل وألمه في أننا نعرف مالا تعرفه الشخصيات، وعلى رأسها حقيقة أن هذا الأب العظيم سيضطر في النهاية للخروج منكسرًا عاجزًا عن الدفاع عن بيته وأسرته.

بذرة الشك بين الأب والأبناء تُزرع داخل الصدور مع الخروج، لتتعاظم فتصير موضوع الفصل الثاني، الذي يكبر فيه الأب ويصير جدًا (يجسده محمد بكري بخبرة وخفة ظل) يعيش مع ابنه (صالح بكري)، النسخة الأكثر استسلامًا من بني العائلة. رجل صار يدرك عبثية المقاومة ويحاول أن يعيش بهدوء مع زوجته (شيرين دعيبس) وأبنائه. لكن الحياة الهادئة ليست اختيارًا ممكنًا تحت الاحتلال، ليوضع في موقف مفزع يتسبب في شرخ العلاقة بينه وبين ابنه الحبيب للأبد.

هذا الشرخ هو الحدث المؤسس لتمرد الحفيد، الذي يعيش بالصدفة انتفاضة الحجارة الأولى، وبينما يتمرد على الأسرة ويحاول البحث عن الحب، يجد نفسه فجأة موضعًا لمعضلة أخلاقية عويصة يوضع فيها أبيه وأمه، وهي المعضلة التي تستمد منها شيرين دعيبس عنوان فيلمها: إذا كان ابنك في طريقه للرحيل، فهل يمكن أن يُنقذ «اللي باقي منه» حياة آخرين؟ حتى لو كان هؤلاء الآخرين ينتمون لمن ارتكبوا جريمة القتل؟

تظهر تلك المعضلة في توقيت متأخر جدًا من الفيلم، في الربع ساعة الأخيرة من الساعة الثانية نجد نفسنا فجأة أمام أزمة درامية لم يتم التمهيد لها إطلاقًا، تصلح بسهولة لأن تكون موضوعًا لفيلم طويل مستقل بذاته، لكنها لا تصلح بالضرورة لأن تكون نهاية لتلك الحكاية الملحمية التي تابعناها في أول فصلين. فإذا كانت تلك الأسرة في الحكايتين الأولى والثانية هي ميكروكوزم أو صورة مصغرة لكل الأسر الفلسطينية، فإن منحى الحكاية الثالثة يجعلها بالغة التخصيص بما يُصعّب إمكانية استقبالها على النحو نفسه.

تلك مفارقة تستحق التأمل، فلو روينا حكايات الفصول المختلفة ستكون الثالث الأكثر جاذبية وإثارة للأسئلة بشكل مجرد، لكنها داخل سياق العمل ككل تبدو الأضعف لأنها لا تتسق مع الصورة الكلية. ولعل رغبة المخرجة والكاتبة في أن تجعلها تتماشى مع السردية التاريخية التي يقدمها العمل، هو ما جعلها تأخذ قرارات تتعلق برسم الشخصية الإسرائيلية في الحكاية يبدو دافعها اتساق الملحمة لا خدمة القصة.

 كواليس فيلم «اللي باقي منك» (2025) 
كواليس فيلم «اللي باقي منك» (2025)

قرار غير موفق

تتبقى الإشارة إلى اختيار لم يضف إلى الفيلم أو صانعته، وهي أن تلعب بنفسها دور الأم. شيرين دعيبس ممثلة جيدة، شاهدناها في أدوار مقبولة في فيلمها السابق وأفلام لمخرجين آخرين، لكنها بالتأكيد ليست الاختيار الأنسب للعب دور امرأة فلسطينية لم تخرج يومًا من بلدها ولا تجيد اللغة الإنجليزية، ثم لعب دور نفس الشخصية في مرحلة عمرية متقدمة. فعدم الإتقان الملحوظ لمخارج ألفاظ اللغة العربية، وملامح الوجه اللامعة، وحتى التفاصيل الجسدية للممثلة، كلها لا تقنع في هذا الدور المركب، لا سيما في ظل كونها تُقارن باستمرار بحضور وموهبة صالح بكري الذي يُمثل أغلب المشاهد أمامها.

من المفهوم أن المخرجة تروي حكاية ذات خصوصية بالنسبة لها، وتعبر عن نفسها وماضيها بصدق وانفتاح، لكنها لو اكتفت بكتابتها للنص الجيد إجمالًا، وبقدرتها الإخراجية على تقديم عمل ملحمي ممتع ومؤثر، ومحكم الصنعة رغم تعقيده باختلاف الأماكن والمراحل التاريخية، وعهدت بالدور إلى ممثلة أخرى تتفرغ لتجسيده، لكان ذلك أفضل كثيرًا للصورة الإجمالية للفيلم.

«اللي باقي منك» يبقى عملًا كبيرًا، يستحق المشاهدة والنقاش والاشتباك، يأتي في الوقت المناسب تاريخيًا ليُذكر العالم بالسردية التي يحاول البعض محوها، ويُمثل بداية جيدة للسينما العربية في 2025، رغم بعض المآخذ هنا وهناك.

اقرأ أيضا: 10 أفلام مرتقبة في مهرجان صندانس السينمائي

شارك هذا المنشور

أضف تعليق