فاصلة

حوارات

أندريه زفياغينتسف لـ«فاصلة»: السعي وراء الأوسكار مضيعة للوقت!

Reading Time: 5 minutes

منذ «الاستبعاد»، يشقّ الروسي أندريه زفياغينتسف طريقه بأفلام اشكالية تستعرض روسيا المعاصرة، آمالها وهمومها وانحطاط مجتمعها بعد سقوط الإتحاد السوفياتي، مع إشارات واضحة إلى الواقع السياسي فيها. لكن، بعد فيلمه الأخير «بلا حبّ» الذي شاهدناه في مهرجان كانّ، انقطعت أخبار هذا المخرج الذي يُعتبر الأهم روسيًا في جيله، وتردد أنه يعاني من حالة صحية أرغمته على الغياب، الأمر الذي يؤكّده في هذه المقابلة الحصرية مع «فاصلة». 

جمعتني به حوارات عدة، جعلتني أفهم أنه يعتبر نفسه ابن السينما الكلاسيكية حيث تجتمع كل مكوّنات هذا الفنّ، وحيث الشكل يستوعب الزمن والحركة والمساحة. يفضّل البنية التقليدية للصياغة الدرامية، أي الحكاية التي تبدأ من نقطة محددة وتنتهي في نقطة محددة أخرى. لا يحبذ اللفّ والدوران ولا الاستعادات الزمنية، بل يميل إلى الاستمرارية بلا أيّ عنصر قطع. 

يقول إنه مع «يلينا» (2011) بلغ ذروة هذا الشكل الفنّي الذي يعتبره نموذجيًا له. لا تعجبه صفة «الواقعية» عندما تُلصَق بأفلامه، بل يفضّل عليها تسمية «الواقعية الشعرية». أما اذا سألته عن هوية سينماه وفي أي تراب تجذّرت، فيرد: «يبدو أنني أنجز أفلامًا أوروبية أكثر منها روسية. صحيح أنني أنتمي إلى بلاد حدودها واضحة وملامحها مقطّعة، لكن وطني الحقيقي هو السينما وكلّ هؤلاء السينمائيين الكبار من برغمان إلى كاسافيتيس وبريسون وأنتونيوني وكوروساوا الذين صاغوا ذائقتي البصرية. أشعر أنني ابنهم، مع أن الدم الذي يجري في عروقي دم روسي».

أندريه زفياغينتسف
Elena (2011)

في الآتي، نصّ المقابلة التي أجريناها معه في «فاصلة»:

أين كنت خلال السنوات الثماني الأخيرة؟

بعد فيلمي الأخير «بلا حب» (2017)، باشرتُ العمل على مشروع جديد. بحلول عام 2019، كنّا غارقين تمامًا في التحضير له. استغرقت هذه التحضيرات نحو 8 أو 9 أشهر، وكان من المفترض أن يحمل الفيلم عنوان «جوبيتر». لكن في نهاية مرحلة التحضيرات، وقبل ثلاثة أشهر فقط من بدء التصوير، فوجئنا بانسحاب أحد الداعمين الرئيسيين للمشروع. لم يكن هذا الشخص مستثمرًا عاديًا، بل راعيًا وعد بتغطية ثلاثين في المئة من الموازنة. فجأةً، تخلّى عنه. وهكذا، ضاع جزء من عام 2018 وكلّ عام 2019 في العمل على فيلم لم يرَ النور. ثم جاءت جائحة كورونا لتؤدي إلى مزيد من التأخير. ومع الأسف، بعد تلقّي لقاح كورونا، دخلتُ في غيبوبة لفترة طويلة.

 في آب 2021، كنت أرقد بمستشفى في ألمانيا لأتلقّى العلاج، وأمضيتُ ما يقرب من عام كامل لاستعادة صحتي وحياتي. وعندما استعدتُ عافيتي في خريف 2022، بدأتُ مجدداً العمل على إحياء «جوبيتر». استغرقت المحاولات أكثر من عام لإيجاد شركاء جدد، وتمكّنتُ من إقناع منتجين أميركيين. لكن بعد فترة من الجهد، أدركنا أن تأمين الموازنة اللازمة للفيلم لم يكن ممكناً، ممّا اضطرني إلى تعليق المشروع ووضعه على الرف. والآن، مذ خريف 2024، بدأتُ العمل على مشروع آخر مختلف تمامًا، يحتاج إلى مال أقل بكثير، حوالي النصف. نستعد لتصويره في الخريف المقبل. هذه هي أبرز محطات حياتي المهنية في السنوات القليلة الماضية.

Loveless (2017)
Loveless (2017)

هل من الصعب أن تكون مخرجًا روسيًا في ظلّ الحرب الدائرة بين روسيا البوتينية وأوكرانيا؟

نعم، الأمر في غاية الصعوبة. لا أعتقد أن أحدًا يمكنه تخيّل مدى التعقيد الذي يواجهه المخرج الروسي في الوقت الراهن. هناك تحيز عالمي ضد كلّ ما هو روسي، لا سيما في أوروبا، سواء في صناعة السينما أو حتى في أذهان الناس العاديين. كلمة «روسي» أو «مخرج روسي» أصبحت توحي بشيء سام، وكأنها وباء يجب الابتعاد منه. بالنسبة إلى المخرجين الروس المعروفين والمقيمين في روسيا، قد تكون لديهم فرصة للعمل في بلادهم فقط، أما في الخارج فلا يُنظر إليهم كقامات سينمائية. 

هذا الوضع يجعل من الأسهل على المنتجين الأوروبيين والأميركيين رفض المشاريع الروسية، خاصةً إذا كانت باللغة الروسية. ومع ذلك، هناك بعض الاستثناءات القليلة. على سبيل المثل، تعمل شركة A24 حاليًا على مشروع أميركي مع مخرج روسي، وهو طبعًا باللغة الإنكليزية. هناك أيضًا مشروع آخر يُصوَّر في أوروبا، ربما في فرنسا، ينجزه المخرج الروسي كانتيمير بالاغوف. بالنسبة لي، أعتبر نفسي محظوظًا لأن لديّ سمعة طيبة في عالم السينما، وهذا ما يمنحني فرصة للتواصل مع المنتجين الفرنسيين حول مشاريع روسية. ومع ذلك، يبقى العمل كمخرج روسي خارج روسيا أمرًا شديد الصعوبة.

المخرج أندريه زفياغينتسف
المخرج أندريه زفياغينتسف

فيلمك الأخير «بلا حب» يعتبره كثيرون تحفة سينمائية. هل يصعب على المخرج أن يعود إلى خلف الكاميرا بعد أن يكون قد أنجز عملًا بهذه الأهمية؟ 

نال «بلا حبّ» نجاحًا استثنائيًا، لكنني أواجه مثل هذا التحدّي بعد كلّ فيلم أنجزه. حدث ذلك بعد فيلمي الأول «العودة»، حيث شعرتُ بضغط كبير لبلوغ ذلك المستوى مجددًا. وكان الأمر مشابهًا بعد فيلم «يلينا». في كلّ مرة أبدأ مشروعًا جديدًا، يراودني تساؤل: هل سيكون العمل المقبل قويًا بما يكفي؟ هل سيكون على مستوى توقّعات الجمهور والنقّاد؟ لكنني تعلمتُ أيضاً أن هذه الأفكار ليست مفيدة. يجب أن تترك كلّ هذه المخاوف جانبًا وأن تركّز على المشروع الذي تعمل عليه. مؤخرًا، اكتشفتُ كلمة تعبر عن فلسفتي في العمل: الإتقان. يجب أن يكون عملك متقنًا إلى درجة لا يستطيع أحد العثور على عيوب فيه. القدامى كانوا يقولون: «لقد فعلتُ كلّ ما في وسعي، فليأتِ الآخرون وليحاولوا إنجاز ما هو أفضل». 

Loveless (2017)
Loveless (2017)

هل تعيش في فرنسا حاليًا؟

نعم.

كيف تصف حياتك فيها؟

بصراحة، حياة المهاجر صعبة. إنها تحدٍّ كبير من الناحية المادية والمعنوية. أشعر كأنني سمكة أُلقيت بحرية في حوض مليء بالأسماك الغريبة. أسبح وأراقب حولي، وأكتشف أن كلّ شيء مختلف تمامًا: الإيقاع، طريقة التفكير، أسلوب الحديث، وحتى القيم. بالنسبة إلى شخص نشأ في ثقافة وطنه الأم، أي روسيا، من الصعب جدًا التكيّف مع هذا الواقع الجديد. يمكنك أن تحاول تقليد ما تراه من حولك، لكن ذلك لا يُعتبر حياة حقيقية. إنه مجرد تقليد للحياة، أشبه بحرباء تغير لونها لتتماشى مع البيئة. أن تكون على طبيعتك وتظلّ صادقاً مع نفسك، هذا تحدٍّ يومي كبير. وبصراحة، ما زلتُ لا أشعر بالراحة هنا لأنني أولًا لا أتحدّث اللغة، وثانيًا لأنني لا أفهم تمامًا القيم والأولويات في هذا المجتمع. على سبيل المثل، من الصعب بالنسبة لي إنجاز فيلم فرنسي يعالج قضايا فرنسية لأنني لا أفهم هذه القضايا بشكل عميق.

كونك في لجنة تحكيم مهرجان سينمائي فرنسي يُقام أونلاين، دعني أسألك: هل تأثّرتَ بالسينما الفرنسية؟

بالطبع. أعتبر روبير بريسون من آلهة السينما. أضع في جواره الأخوين داردن وإيريك رومير. هؤلاء أول من حملوني إلى السينما الفرنسية. بدأتُ الاهتمام بشكل خاص بالسينما الفرنسية أثناء فترة علاجي في المستشفى، حيث شاهدتُ العديد من الأفلام الفرنسية. بعضها كان بمثابة مفاجأة كبيرة وتجربة جديدة لي. الآن في هذا المهرجان، شاهدتُ تسعة أفلام فرنسية رائعة. أفلام تعالج قضايا محلية تمس الجمهور الفرنسي بشكل مباشر، وهو ما كان اكتشافًا. من بين هذه الأفلام، أثّر فيّ بشكل خاص «لا خسارة» لدلفين ديلوجيه، الذي يتناول خدمات حماية الأحداث في فرنسا. صدمتني القصّة وأثارت دهشتي. لم أكن أتصوّر أن مثل هذه الأمور يمكن أن تحدث في أوروبا.

المخرج أندريه زفياغينتسف
المخرج أندريه زفياغينتسف

فيلما «ليفياتان» و«بلا حبّ»، رُشِّحا لـ«الأوسكار»، من دون أن يفوزا بها. هل شعرت بأنك أضعت الوقت في اللحاق بالجائزة المرموقة؟

إني أشعر بأسف على كلّ الوقت والجهد اللذين أهدرتهما، والطاقة التي استنزفتها. هذا قد يبدو دلالًا، لكنها الحقيقة. تلك الرحلات التي لا تنتهي إلى نيويورك ولوس أنجليس، ومن لوس أنجليس إلى نيويورك، محطات العبور، كلّ تلك الأسئلة والأجوبة واللقاءات مع الصحافة، هذا كله انتهى بلا شيء. بالم سبرينغز، لوس أنجليس، قاعة سينما وأخرى، يبدو هذا كجبل يصعب تسلّقه. بالطبع، كان ليكون هينًا لو أن النتيجة جاءت مختلفة، أي لو فزتُ بـ«الأوسكار». لكنك حين تفهم فشلك للمرة الثانية، وتعي أنك لم تصب الهدف، رغم أنك عملتَ كلّ ما في وسعك من أجل ذلك.

 في كلّ حال، هذه المسألة انتهت بالنسبة لي، وأخشى القول أنني ربما حسمتُ موقفي ولن أتجرأ على المرور في هذه التجربة مرة أخرى. في نهاية المطاف، هذا كله لا يعدو كونه مضيعة لجزء من عمر الإنسان. فأنا أضعتُ ستة أشهر في شيء لستُ في حاجة إليه. «الأوسكار» لا تُعتبر حلمًا بالنسبة لي ولا هدفًا ولا مهمّة في حياتي أو مسيرتي الإبداعية. 

اقرأ أيضا: ديفيد لينتش… رحيل فنّان شامل سيد تجريب وغموض

شارك هذا المنشور