فاصلة

أصوات نقدية سعودية

«هوبال».. مراجعة إبداعية لقطعة من التاريخ الاجتماعي

Reading Time: 7 minutes

وضعتنا المشاهد الأولى من فيلم هوبال في عمق الأزمة والصراع الدائر بين أفراد أسرة ليام بن بادي، صراع بدا للوهلة الأولى شبيهًا بالمعتاد في مناوشات الأسرة الواحدة؛ بين الزوج وزوجه أو الأخ وأخيه، فوق أي أرض أو تحت أي سماء، وما إن تمضي دقائق الفيلم حتى نصطدم بأزمة أخرى، هي الأزمة الكبرى، (الأب) ليام بن بادي، العجوز المتحجر الذي لا يرى شيئا في العالم سوى رأيه، ولا يسمع صوتًا سوى صوت فكره المتشدد الظلامي، الذي يؤمن بقرب نهاية العالم، وقيام الساعة التي ظهر من علاماتها الكثير، وأوضحُها الفساد الذي تفشى في (الديرة)! فخرج بأهله جميعا إلى الصحراء، وحرّم عليهم (الديرة) وكل ما يتعلق بها من مقومات التمدن أو ملامح التحديث: «الديرة حرام عليّ وعلى هَليْ، واللي يدخلها أنا بريّ منه ليوم الدين». ولا مجال للنقاش أو الاعتراض، فالجميع «على شحم»!

بتوالي وقائع الفيلم وأحداثه تبدأ ملامح هذا العالم بالتكشّف، هذا العالم الذي اخترعه ليام بن بادي عنوةً، وأراد له أن يقوم على معتقداته الرجعية التي تحرّم العلاج على حفيدته ريفة، وقبل ذلك كانت قد أودت بحياة ابنه ماجد بن ليام، الذي اغتيل بأمر سلطة ليام الأبوية، ودخلت العائلة في خسارات ومآس فادحة، لم يكن ليام ليكترث لها، كل ما يهمه هو تحريم الديرة ومجافاتها ورفضها وقمع كل ما/ ومن يتعلق بها أو يقترب منها.

فيلم ( هوبال - 2024)
فيلم ( هوبال – 2024)

حسنًا! ما هي (الديرة)؟ الديرة هي المدينة، هي الدولة، هي الحاضرة، هي العلم والنور والدين والتسامح والوسطية، الديرة بوضوح شديد هي الوطن! الوطن الذي ثارت ضده طائفة من أبنائه بخطابها المتشدد فكريا منذ الثمانينيات الميلادية حتى تفجر الوضع مع حرب الخليج الثانية مطلع التسعينيات واستمر بعدها لسنوات. وليام في هذا الفيلم يمثّل النخبة من تلك الطوائف المتطرفة، مستصحبًا توليفة مغلوطة مدمّرة من التقاليد القبَلية والخرافية والسّمت الأجوف، حتى إنه تبرأ من ابنه سطام رجل الأمن الذي يعمل في إحدى قطاعات الدولة العسكرية! ومن عاش تفاصيل تلك المرحلة أو قرأ عنها يعرف جيدًا فداحة الوضع حينها.

هذه الحالة الأبوية البطريركية التي خلقها ليام بن بادي في عالم الصحراء بين عائلته، دمغت الجميع بدمغتها، وإنْ على المستوى الظاهر فقط، فهم في الأساس بشر طبيعيون، يحبون الحياة بكل ما فيها، ولكنهم يتلبّسون لبوس والدهم مقتنعين أو كارهين أو منافقين، وكان المنافق الأكبر في شخصيات الفيلم شنار بن ليام، وقد جاء اختيار اسم (شنار: العيب والعار) مقصودًا ودالًّا بدقة على بواطن الشخصية وممارساتها، ففي شخصية شنار من المعايب والدناءة ما يذكّرنا بأولئك المنافقين المرتزقة الذين يركبون موجة التدين ويتظاهرون بالاستقامة ليحققوا مطامعهم الخاصة، وكان شنار بذيئًا في حديثه، إقصائيا تجاه زوجته، متخليا عن ابنته المريضة بالحصبة دون رحمة.

فيلم ( هوبال - 2024)
فيلم ( هوبال – 2024)

وبرغم انتهاء عصر الأساطير والخرافات، إلا أن الميثولوجيا الحديثة تستعين بكل المعطيات الممكنة والمتاحة، وتوظفها لإضفاء الشرعية والخيريّة على مساعيها في سبيل السيطرة الثقافية والاجتماعية، فشخصية ليام تحفّها قداسة من النوع الأسطوري، الجميع يخاف من دعائه، حيث ستموت لا محالة إن دعا عليك، وهذا ما حدث لابنه ماجد، الذي خالف أمر أبيه وذهب إلى (الديرة) لعلاج زوجته فدعا عليه أبوه فهلَك، وهو ما لم يؤمن به ابنه عساف، الطفل، وحدث أن ناقش هذا الأمر عدة مرات في الفيلم، ويرى أنه لو كان لجدّه ليام هذا الأثر السحري المزعوم فلماذا لم تُشفَ ريفة من الحصبة وقد دعا لها الجد كثيرًا؟ ولماذا لم يمُت عمه سطام الذي تمرد على ليام وقوانين تحريم الديرة؟

يأتي حضور عساف الطفل الذكي الذي يحمل سمات بيئته الصحراوية ومهارات العيش فيها، إلى جانب نصيبه من التعلم والنضج الذي يسبق عمره، ليتولى مهمة المساءلة لهذه السردية الأسطورية التي يسعى معظم من حوله إلى تعميمها وترسيخها في نفوس وعي الصغار قبل الكبار، ممثلًا لصوت الجيل المختلف والمخالف لمن سبقه، عبر خطاب يجمع تلقائية الطفولة وسلامة المنطق؛ إذ يوجه أسئلة تبدو بسيطة لكنها بديهية وعادلة، ويسعى عبرها إلى تفكيك الخرافة المحيطة بهم جميعا، والانتصار للإنسان وحقوقه التي كفلها الدين الصحيح والفطرة السليمة، وينجح في مساعيه لعلاج ابنة عمه ريفة في (الديرة) مخالفًا كل التعاليم الأبوية، ليجد نفسه بعد ذلك مصابًا بالحصبة من مخالطته لابنة عمه، وحيدًا محجورًا في خيمة، والأقسى من ذلك: مهدّدًا بالموت إنْ دعا عليه جده ليام حين يعود من خلوته الأسطورية معتزلًا  كل البشر!

فيلم ( هوبال - 2024)
فيلم ( هوبال – 2024)

وبما أن المرأة تحتل المرتبة الأعلى في سلم الكائنات المقهورة في الكيانات الاجتماعية المتخلفة، فكان لزامًا أن تطأ البطريركية الليّامية على جبين حسناوات الصحراء الأصيلات، وتشرعِن احتقار المرأة وقهرها وسلبها، ولعل شخصية سرّا بنت عياد زوجة شنار، كانت التجسيد الأبرز لهذا الإقصاء القاسي، فلم يستجب خالها ليام، ولا زوجها شنار لاستغاثاتها من أجل علاج ابنتها ريفة التي يكاد الوجع يزهق روحها، وبرغم إساءات شنار إليها إلا أنها تقاومه بشراسة، في سبيل علاج ابنتها، تارةً بالسبّ والشتم، وتارةً بالكحل والدلال، لقد كشفت شخصية سرا عن صلابة الأنثى، وحمايتها لأسرتها مهما كانت خيّم القمع وفدحت الخسائر. 

فيلم ( هوبال - 2024)
فيلم ( هوبال – 2024)

في جانب الإخوة الذكور، تبدو شخصيتا سطام وبتال على طرفي نقيض؛ سطام خرج عن طوع أبيه وتوظف مع الحكومة بالديرة وقاطعه الجميع، ولكنه أوضح لأبيه في بداية الفيلم أن عياله غير راضين بالمقام معه في الصحراء، وأنهم سيغادرونها حين يموت، همّ بتال أن يضربه حينها. أما بتال فهو يسعى لإرضاء والده بخدمته وحفظ المزيد من القرآن الكريم، وأيضا يحب التمباك، ويتعاطاه خفية. جرحه الكبير من مرزوق الذي ربط زواجه من ابنته بأن يقيم في (الديرة)، ومع ذلك فقد تخلى بتال عن حبه طاعةً لوالده ليام الذي يحرّم الديرة. مع تقدّم وقائع الفيلم تطرأ تحولات في شخصية بتال، وذلك بفعل ما اكتشفه من نفاق وخسّة أخيه شنار الذي تزوج سرًّا بابنة مرزوق في الديرة، وكذلك من نقاشات عساف حول أساطير جده والعائلة بأكملها، إذ تزايد ضجره من حياة الصحراء والعائلة وممارساتها، في رحلة نحو الوعي راغبًا في الديرة وحياتها! ففي الأجزاء الأخيرة من الفيلم، أثناء اختفاء العود ليام، يأتي سطام إلى الصحراء، فيبادره بتال معاتبًا: وش جابك هنا وتارك الديرة؟ هنا ما فيه إلا الكذب والعيشة القشرا! ويبدو بتال أكثر لينًا وتسامحًا مع أفكار عساف ونقاشاته لمسائل تزعزع قداسة الجد وغيبياته وخرافاته.

فيلم ( هوبال - 2024)
فيلم ( هوبال – 2024)

ومن جهة ثانية يمضي سطام في رحلة تحوّل معاكسة تجسّد تغلغل المدّ الظلامي الّلياميّ وتأثيره في سائر فئات المجتمع بما فيهم جنود (الديرة)، حيث يقرر الابتعاد عن الديرة والاقتراب من أبيه ليام في الصحراء، ويذهب إليه ليطلب العفو منه، والسماح له بالمكث بينهم في الصحراء، وذلك لأنه  آمن بصحة كلام أبيه عن قرب القيامة وفساد الديرة؛ وذلك لأن المشايخ في الديرة كلهم يقولون الكلام ذاته! هذه التحولات وتلك الصراعات الداخلية والخارجية للشخصيات الناّمية في الفيلم، أسهمت في حياتها وقربها منا نحن المتلقّين؛ لأنها تشبهنا كثيرًا، وتجسّد نزعاتنا وغرائزنا ومخاوفنا، ضعفنا وترددنا، حيرتنا أمام تيارات وخطابات تكتنفنا وتتخطف هويتنا النقية وتشوهها وتجرفنا بمستويات متفاوتة.

بأقصى قدر من الثقة يمكنني القول إن الحوار في فيلم هوبال شكّل عنصرًا سرديًّا موازيًا للسرد البصري في وظيفيّته وجماليته ومتفوقًا عليه أحيانا؛ ذلك أن المخرج عبد العزيز الشلاحي قدم مشهدية بصرية فائقة الإتقان والجمال تضاف إلى رصيده من التميز بوصفه أحد أنجح المخرجين السعوديين، لكنني لم أستطع أن أتجاوز الإشادة بمحورية الحوارات في نقل ثقافة المكان، والكشف عن الشخصيات وتقديمها، ودفع عجلة السرد والتوتر الدرامي، وبخاصة أن نسبة من الشخصيات الرئيسة والمساندة هم من الأطفال أو المراهقين.

المخرج عبد العزيز الشلاحي خلال تصوير فيلم ( هوبال - 2024)
المخرج عبد العزيز الشلاحي خلال تصوير فيلم ( هوبال – 2024)

بدا حرص مفرج المجفل جليًّا أن يحقق الحوار في هوبال الشرط السردي المنوط به، واعتنى كذلك بجمالية الحوار والتصاقه بالشخصية والمكان والحالة الدرامية وتعبيره عن كل ذلك بدقة، سواء في اللهجة والمضمون، أو في معجم الشتائم التي جرت على ألسنة الشخصيات، وبخاصة شخصية شنار وزوجته سرّا، ولا يكاد المتلقي يستنكر ذلك، لأن هذه اللغة الحوارية تماثل الواقع وتعكس مستوى العلاقة بينهما وطبيعتها، كما تعكس البيئة التي يتصارعان فيها؛ التوتر النفسي والفصام الداخلي والكبت الذي يعيشه شنار، وكذلك القهر والهزيمة ولوعة الأنوثة المهدورة لشخصيةٍ صلبة مثل سرّا بنت عياد.

إلى جانب هذه التجاذبات المتوترة البذيئة بين سرّا وزوجها، تحضر اللغة الاستعارية الموحية في حواراتهما، في مغامرة دقيقة يعرفها كتّاب السرد جيدًا؛ حين يقتربون من الشعر أو يستعيرون أجنحته، تقول سرّا لشنار حين عيّرها بماجد:

«كان لسانك يتحالى الكلام المُر، ترى سمعك مهو بمتحملٍ بعض الكلام لا مَـرّ، ماجد مات وانت للحين تجر مواويلك على لحونه، توسّع خطاك ولا انت بلاحقٍ شبره»

فيلم ( هوبال - 2024)
فيلم ( هوبال – 2024)

وكذلك كلمة ماجد المسرودة على لسان بتال، حين سأله عن الديرة:

«ما يفيد وصف البصير للضرير»!

وغيرها من الجمل الحوارية الأنيقة التي كاد بعضها ينزلق بعيدًا عما أراده الكاتب من اتّساع وبلاغة.

أما عسّاف وحواراته فأخذت على عاتقها وظائف العون السرديّ القائم بفعل السرد السينمائي، ذلك الذي يتبنّى خطابًا حجاجيًّا، غاياته تفكيك النسق اللّيامي المضمر والعلنيّ وتقويضه؛ إذ تجرّأ في عدة مواقف على مواجهة جده ليام بأسئلة حول السماء والغيب والقيامة، وخاض مع ريفة وعمه بتّال نقاشات عديدة حول قضايا كبرى بأسلوب ومفردات عادية، حملت أبعادا تنويرية تناوش الظلاميات السائدة.

كواليس فيلم ( هوبال - 2024)
كواليس فيلم ( هوبال – 2024)

بلغ التكثيف الدلالي في حواريات عساف ذروته حين ناقش مع عمه بتال اختفاء الجد ليام في الدحل، الدحل الأسطوري الذي يتكون  بسقوط الشهب التي تضرب مسترِقي نبأ السماوات وتخسف بهم الأرض! وكأن ليام أحد أولئك، يسأل عساف: «تهَقا جدي بيرجع لنا؟ يطلع من دحل ثاني؟ يمكن يطلع جدي في الديرة؟»  – يبادر بتال: «الديرة ما فيها دحول، ويمكن فيها.. وأنا ما أدري!» 

عسّاف، صوت التنوير، يتساءل ببصيرته الصغيرة عن إمكانية عودة الظلاميّة، عن إعادة إنتاجها لذاتها وتشكّلها بأكثر من صورة، وظهورها في أكثر من مكان، حتى لو في الديرة! هذا السؤال القلِق هو سؤال الحداثة والوعي الجديد، حيث (الديرة) فيها دحول أيضا، دحول الخرافة وفلول التشدد لن تغيب وستعاود الظهور حتمًا، ولم يطل الأمر على إجابة سؤال عساف؛ حيث تسلمت الأم (زوجة ليام) زمام التسلّط، وأمرت الجميع بنصب الخيام حول الدحل في انتظار عودة الخرافة (ليام بن بادي).

ومن هنا لعله يتبدّى لنا الخيط الإبداعيّ الرفيع اللامرئي، الذي يربط الاسم (هوبال) بخطاب الفيلم ومحمولاته وإسقاطاته، حيث تم انتزاع الاسم من سياقه التاريخي والبيئي في علاقة الراعي التواصلية مع إبله، واستعارته في سياق ثقافي اجتماعي، باعتباره أداةً للسيطرة والقيادة في يد العارفين فحسب، وحدَهم الذين يستطيعون توجيه القطيع كيف شاؤوا، ومهما حاول غيرهم فعل ذلك فلن يتمكّن، ما لم يتوفّر على قداسةٍ أو خرافيةٍ أو رهبنة! الهوبال الّلياميّ الخاص الذي صعد إلى السماء، ونزل إلى طبقات الأرض، واطّلع على الما وراء، واستبطن الوعي وخامر العقول وسيطر على القطعان بمختلف أجناسها.

فيلم ( هوبال - 2024)
فيلم ( هوبال – 2024)

وختامًا؛ أرى أن فيلم (هوبال) فيلم متقن وجريء وشجاع، يحمل الكثير مما يستدعي القراءة والتحليل، فهو فيلم مشغولٌ بحرفية عالية، نجح في ثنائية الجماهيرية والفنية، في معادلة تميز النصّ والجماليات البصرية، فيلم جاء ليحجز له مكانًا متقدما جدا في قائمة الإنتاج السعودي السينمائي. 

سأتوقف هنا لأن المقال قد طال كثيرًا، ولكنني أشير سريعًا إلى مشكلات واضحة في إيقاع الفيلم، وتقديم الشخصيات، وفرص كثيرة سنحت لإنهاء الفيلم نهاية أفضل مما جاءت عليه، وخلل في المؤثرات. وغير ذلك مما يمكن أن نتحاور حوله في القادم.

اقرأ أيضا: «هوبال»… ثراء البادية وفقر التبني السينمائي

شارك هذا المنشور