الرثاء هو تأبين من لا إرث له ولا أثر. والعظماء ترحل أجسادهم وتبقى أثارهم تحكي مآثرهم. مضى ما يزيد على العقدين منذ آخر مقالة كتبتها بمناسبة رحيل أحد أرباب السينما وأقطابها. كان ذلك بمناسبة رحيل المخرج الأمريكي العظيم روبرت التمان. وقبل يومين غادرنا وبشكل مفاجئ ودون سابق إنذار الأمريكي الآخر ديفيد لينش عن عمر ناهز الثامنة والسبعين. وما يجمع بين الأسطورتين أكثر مما يفرقهما.
قبل رحيل الأول بسنوات معدودة تقابل الاثنان لأول مرة في حفل مسابقة الأوسكار، حيث رُشحا لجائزة أفضل مخرج لعام 2002: التمان عن فيلمه «حديقة جوسفورد» Gosford Park، ولينش عن فيلمه «طريق مولهولاند» Mulholland Drive. تحفتان سينمائيتان جسدتا بزهو وتسامي نضج تجربتين سينمائيتين احتفظت كل منهما بخصوصية متفردة وانبثقت عنهما مدرستان متعاليتان ستبقى محل الدراسة والتأمل والإحالة والاتباع من قبل محبي السينما والمريدين ما بقيت السينما. وكما هو المعتاد لم ينل الجائزة أيا منهما، وعوضًا عن ذلك منحت لمخرج دونهما من حيث المستوى والتأثير وفيلم أقل جدارة من فيلميهما. ابتسم حينها التمان وقام من مقعده وتقدم نحو لينش الذي كان يصغره بعشرين سنة محتضنًا إياه وهمس في أذنيه «هكذا أفضل، يا ديفيد.»
نعم! هكذا أفضل. فالإرث السينمائي الذي نحته لينش بتأني طوال نصف قرن، كإرث من سبقوه من الأباطرة غير المتوجين كألفريد هتشكوك وأورسن ويلز، وستانلي كوبريك، وسيدني لوميت، لا تختزله أكاليل الذهب اللامعة ولا خطب المحافل الرنانة ولا مقالة كهذه المقالة. كما أن صيغ المفاضلة والتفضيل التي نركن لها للإفصاح عن إعجابنا بسينما لينش لا تعكس الثراء المعرفي والفني والبعد الفلسفي لهذا الإرث. فهناك لينش السينما والصورة التي نتماهى معها على الشاشة وتنقلنا في عالم من الغرائبيات والعجائبيات، وهناك لينش الفنان الذي يوجه وينظر، ويحتد ويستكين، ويفصح ويكتم، ويلقى بين فينة وأخرى سرًا من أسرار تعاليمه على مريديه ومحبيه، وهناك لينش الإنسان الذي خاض تجربه روحانية عرفانية منذ فترة مبكرة من شبابه كان لها التأثير الأكبر على عالم الأحلام والخيال التي ابتدعته مخيلته.
توصف سينما لينش بأنها سينما سريالية، ويشار إلى لينش نفسه بأنه فنان سريالي ملتزم. ولكن في ذلك أيضًا تحجيم للأثر الذي تركه لينش على هذا اللون. فلينش لم يكن فنانًا بارعًا وحسب، وإنما صاحب رؤية تجديدية ومؤسس لمدرسة استطاعت أن تنقل السريالية إلى مساحات فلسفية وتعبيرية جديدة. مما لا شك فيه أن لويس بونويل (توفي عام ١٩٨٣) هو الأب الروحي والمرجعية الأولى للسريالية في السينما، ولا ريب أن بونويل ورفاق جيله كجان كوكتو ومايا ديرين وجوزيف كورنيل تبنوا بإخلاص المبادئ السريالية التي أسس لها ونادى بها أندريه برتون مطلع القرن العشرين، والتي تمحورت حول مركزية عالم الأحلام واللاوعي، وقدرة الفنون لا العلوم، في الكشف عن جوهر الواقع اللاعقلانية وعبثية الحياة وغياب المعنى.
وتمكن أولئك الطليعيون ببراعة من الكشف عن الإمكانات التعبيرية الهائلة للفيلم والصور المتحركة ومنح المفهوم السريالي حركة وديناميكية كانت تفتقر لها الفنون الأخرى كالأدب والتشكيل والنحت. إلا أن السريالية، كواحدة من أبرز مظاهر المشروع الحداثي، بدأت تفقد رونقها وتأثيرها وجاذبيتها في مواجه مفاهيم ونظريات ما بعد الحداثة والثقافة المضادة التي اتخذت موقفا سلبيا تجاه الفنون. إلى أن جاء ديفيد لينش وانتشلها وبث فيها روحًا جديدة نقلتها إلى مناطق جديدة بعيدًا عن جدليات الحداثة.
نشأ ديفيد لينش الفنان وبدأت تتشكل رؤيته الفنية في تلك الحقبة المتوترة في الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي، وتأثر كما تأثر أبناء جيله بالمدارس الصوفية الروحية الشرقية الهندية التي استطاعت أن تقدم أنظمة فلسفية وفكرية بدلية حول الوعي والعقل، وتوفير سلوكيات تأملية تتجاوز ثنائيات العقل والنفس والروح والحداثة والتراث والجسد والظاهر والباطن والحقيقة والخيال. ولم يخف لينش تأثره تحديدًا بمدرسة حركة التأمل المتعالي للمعلم العرفاني الهندي مهاريشي يوغي التي كتب عنها كثيرا ولم يتخل عن تعاليمه حتى رحيله. مشروع لينش السينمائي ما هو إلا مشروع مستمر ومترابط للكشف عن مفاهيم فلسفية تجاوزيه جديدة حول الوعي والذات والأنا والغيرية من خلال التطويع والتسخير الممنهج والواعي والمدروس لأدوات سردية تمتاز بها السينما عن سائر الفنون. وهو لأجل ذلك لم يخجل من خوض التجارب والانتقال بين الأجناس والوسائط الفنية والاستعارة والإحالة من هذا وذاك، من الفيلم القصير والوثائقي والتحريك إلى التلفزيون والأغاني المصورة، وذلك لخلق مفهوم أو حالة يستحيل التعبير عنها إلا من خلال السينما.
ويمكن أن نطرح سبيل المثال لا التحديد مثلا توظيفه لتلك العلاقة الغربية والكامنة والخاصة في الفيلم السينمائي بين الشخصية الخيالية في الفيلم وبين شخوص الممثلين والممثلات الحقيقية التي تقوم بتأدية هذه الأدوار لخلق خطٍ موازٍ بين أعماله تتجاوز الحكاية والنص. كما حدث مثلًا في تعاونه مع الممثل الأمريكي كايل ماكلاسلان للعب أدوار متنوعة ومختلفة ظاهريًا في أفلام وأعمال ذات حكايات ونصوص شكلًا ونوعا ولكنها تتقاطع في مستويات معنوية، مثلا المحقق دايل كوبر مثلا في مسلسل «Twin Peaks»، أو جيفري بومونت في فيلم «Blue Velvet»، أو بول آتريديز في فيلم «Dune». أو في الظهور العابر(كاميو)، ولكن المدروس، لشخصيات حقيقة في أفلامه السينمائية وظهورها في أكثر من عمل تفصل بينها سنوات طويلة، كما حدث حينما استعان بالمغنية الأمريكية ريبيكاه ديل ريو لتغني أمام شخصيتي الفيلم الرئيسيتين في فيلم «Mulholland Drive» مرة، وظهرت مرة أخرى لتغني في نهاية الحلقة 13 في الموسم الأخير من «Twin Peaks» وذلك بعد عشر سنوات من ظهورها في الفيلم.
شخصيات لينش السينمائية وموضعتها في عوالمه وحكاياته لا تبدأ من شارة بداية أفلامه وتنتهي بنهاياتها، أو بعلاقاتها المباشرة مع شخصيات الفيلم، إنما هي شخصيات متصلة وتجاوزيه في ذات الوقت. تجاوزيه بتعاليها على النص والحكاية والحبكة والزمن وثنائيات الأنا والآخر، ومتصلة في علاقتها وأنواتها وذواتها المتوازية والمتداخلة مع شخوص الممثلين الحقيقة من جانب، ومع تقاطعات الشخصيات التي يؤدونها من جانب أخر، والإسقاطات السينمائية الصورية التي تحيل الى أعماله الفنية الأخرى من جانب آخر. هذا هو العالم البيني المتعالي والخلاق الذي تميزت به سريالية لينش عن سريالية السينمائيين الأوائل.
في عام 2006، وبعد أربع سنوات من لقاء المخرجين العظيمين روبرت ألتمان وديفيد لينش منحت الأكاديمية الأمريكية روبرت ألتمان جائزة الأوسكار الفخرية عن مجمل أعماله، وذلك قبل أشهر من رحيل المخرج العظيم. أما لينش فقد امتثل لحكمة معلمه ورحل دون تكريم … «فهكذا أفضل يا ديفيد».
اقرأ أيضا: ديفيد لينتش… رحيل فنّان شامل سيد تجريب وغموض