فاصلة

مقالات

حاتم علي.. مايكل أنجلو سوريا

Reading Time: 3 minutes

على مرّ الأزمنة، تأتي بعض الشخصيات التي تجسّد عبقرية وطنٍ بأكمله، مثلما تنبض روحه عبر أعمالهم. كان المخرج السوري حاتم علي واحدًا من تلك الشخصيات الاستثنائية. كمخرج سوري، تجاوز حدود الكاميرا ليصبح مرآة لروح سوريا، ملتقطًا تفاصيلها الدقيقة، ووجعها الكامن، وأحلامها المحلّقة، حاتم لم يكن مجرد مخرج؛ كان نحّاتًا للذاكرة، رسّامًا للمعاناة، وشاعرًا للإبداع. بين مشاهد التغريبة الفلسطينية وصرخات الزير سالم، وبين أمجاد الأندلس في صقر قريش وملوك الطوائف، استطاع أن يرسم لوحة ملحمية تعكس ليس فقط قصص شخصياته، بل أيضًا نبض الشعوب التي تنتمي إليها.

يوم وفاة حاتم علي قبل أربعة أعوام كتبت بشكل ارتجالي: إن سألتني أن ألخّص سوريا بثيمة جمالية واحدة لأشرتُ إلى حاتم. هو سوريا مثلما إيطاليا هي مايكل أنجلو. حاتم علي هو المنعكس الشرطي للمكان والحرب والخراب والقتل والتراكم الإبداعي والجمالي والثقافي والأخلاقي والاجتماعي والإنساني.

المخرج السوري  حاتم علي خلال تصوير مسلسل عمر (2011)
المخرج السوري حاتم علي خلال تصوير مسلسل عمر (2011)

هو من يحبه أقصى اليمين ويحبه أقصى اليسار لأنه مثل مدننا الطيبة لم يتبنّ خطابًا موغلًا في الحقد واللؤم والتشفّي و«الزعرنة» كما فعل وجهاء الطرفين، فكرّهونا البلد وكرهونا الحياة، بل ظل منتجًا قويًا واقفًا على تعبه.

إنه مثل سوريا، ذلك الموجوع المبتسم أبدًا، الأعزل الذي يمتلك جيشًا من جمال وإبداع، الخلّاق كأي سوري أصيل دون الجعجعة والمحاباة والتمظهر والتمنبر والوقوف في خيام الحزب وترديد الشعار والصفقة الطلائعية! حزنت كثيرًا عليه وكنت أظنني أغلقت دكان الحزن بعدما نفدت بضائعه.

هذا الانطباع الأولي الراسخ في العلاقة المتينة بين حاتم علي ومايكل أنجلو ليست ارتجالية على الإطلاق. إنها النقش ذاته، دقة الإزميل نفسها، الخامة النحت والتصوير.

المخرج السوري حاتم علي
المخرج السوري حاتم علي

أتعرف، لعل أهمية شعوب البحر المتوسط تكمن في التفاصيل، إنهم شعب يحبون التفاصيل في السينما والمسرح والأوبرا وشارع والحديث، هل تحدثت مع إيطالي أو يوناني أو مصري؟ إنهم ملوك الشروح والهوامش. الاختزال فن رائع والتفصيل فنٌ رائع أيضاً. 

مايكل أنجلو النحات والرسام والشاعر والمثقف الطفرة، هو إيطاليا بكل ما تحمل الكلمة من مجاز وكنايات. أراد رافاييل منافسه الشرس والعظيم أن يحرجه برسم سقف كنيسة سيستينا ليثبتوا أنه نحات فقط لا شيء آخر، فظل أربع أعوام على خشبة نائم على ظهره ليرسم على السقف بدلاً من الأثني عشر حواري المطلوبين، 300 رسمًا على 1100 مترًا مربعًا من بدء الخلق لأتباع المسيح، وحينما تأكد من ذهول ودهشة كل المعنيين وكمّ أفواههم قال: أنا نحات.. لم يعجبني هذا الرسم!

هذا الامتعاض يشبه امتعاض حاتم علي الذي لم يبتسم حتى وهو يرى نجاحاته معلقة أمامه على الشاشات وأعمدة الصحفيين، الزير سالم، التغريبة، صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف، أحلام كبيرة، الخ الخ.. كل هذا لم يعجب حاتم علي أيضًا، كان يمر من عمل إلى آخر على ظهره كما فعل مايكل أنجلو. 

مسلسل الزير سالم (2000)
مسلسل الزير سالم (2000)

مايكل أنجلو كان ينحت منحوتات الكنيسة ويتلصّص على جارة المذبح الجميلة ويقيم علاقة معها، تطلب منه الفاتيكان رسم القيامة لكنه بدلاً من الاستناد إلى الوثائق يستعير شخصيات دانتي العارية في لوحة أثارت جدل الباباوات وقام بينهم خلاف كبير إلا أنهم من دهشتهم بجمال تلك اللوحة لم يطمسوها وقالوا جملةً ما زالت تسري في العالم كنوع من التهكم على السلطة الأبوية عندما قالوا: ليس للفاتيكان صلاحيات في منطقة الجحيم!

كذلك حاتم علي! كان يمثل ويخرج ويصرخ في الكواليس، لكنه يكتب أدبًا ذائبًا في رقته، في مجموعته القصصية «موت مدرّس التاريخ العجوز»، يقول على لسان مسرحيٍّ منتشٍ بعد عرضٍ ناجح: «في هذه الليلة كنت أمشي وحدي، تصفيق الناس في أذني لا يسكرني!، فجأة عرفت ما أبحث عنه، لم أكن أريد النجاح في دوري وحسب، إنني أبحث عن شيء أعظم وأصعب».

المخرج السوري حاتم علي
المخرج السوري حاتم علي

مايكل أنجلو الغاضب، الذي مزّق كل رسوماته وأبقى منها حفنة أصبحت من أغلى لوحات العالم. المنتج وكأنه «يساعده مائة شيطان» على حد تعبير رافاييل. هو حاتم علي الغاضب الذي مرّ من عمل إلى عمل ممزقًا «كروكي» خريطة الطريق الذي يتوقعها الجمهور كل مرة، غير آبه إلا بما يرتاح له أصاب أم أخطأ.. حتى جاءت الكارثة السورية فخبت نوره رويدًا رويدًا وانطفأ في منفاه. 

في عام 1527 قام بسطاء فلورنسا بثورة على عائلة ميديشي القمعيين، وحاصروا المدينة، ورغم تصنيف مايكل أنجلو من النبلاء وعلية القوم، لحق بأهله من البسطاء والفقراء، وساعدهم في تحصين المدينة، وحين فشلت الثورة وسقطت فلورنس، قرر الرحيل عن أعز مكان على قلبه.. ومات بعيدًا!!

اقرأ أيضا: هاني أبو أسعد: الرهان على الموهبة هو السلاح الأقوى

شارك هذا المنشور

أضف تعليق