فاصلة

مراجعات

«مركب فرسان» يرسو إلى وجهة غير آمنة

Reading Time: 4 minutes

في منتصف العقد الأول من الألفية، سيطرت حكاية غرق شيخ دين مع أحد أبنائه في عرض البحر على المجال العام في السعودية، ومع مرور الوقت، وعبر تعزيزها بالسرد القصصي وتناقلها في المنتديات ومواقع الإنترنت، ولاحقا، صدور كتابٍ بهذا الصدد عن أحد المريدين المقربين من الشيخ الناجي، كل ذلك أسهم في بناء مُخيلة جمعية عن مغامرات البحر وحوادث الغرق فيه، وتحولت تلك الحكاية إلى أيقونة يتم تناقلها بين الأجيال بكل ما هي محملة به من مواعظ وعِبر، وهو ما يتسق مع الخطاب السائد في تلك الحقبة.

وفي مسارٍ موازٍ محلياً، يصح أن نطلق عليه في تلك الحقبة بأنه الهامش غير المشمول بالاعتراف، لوقوعه في دائرة التحريم بشكل فج ومباشر، كانت ذاكرة المهتمين بالفن تتناقل قصة الشاب سامي الذي يعد العدة لإقامة حفل زفافه، وبفعل ما يشبه حفل توديع العزوبية، ولكن وفق الضوابط والأعراف، يذهب مع أعز أصحابه في رحلة صيد بعمق شواطئ الخليج العربي، إلا أن سوء الاهتمام بسلامة القارب حوَّل تلك الرحلة إلى كارثة تطال العريس وبعضاً من رفاقه، ومن تبقى منهم ينجو بمساعدة جهود حرس الحدود. هذه هي حكاية السهرة الدرامية (رحلة صيد) التي أنتجها تلفزيون الدمام عام 1993م، وقام بإخراجها الراحل عبدالخالق الغانم.

مركب فرسان
فيلم ( مركب فرسان – 2024)

أمام هذين الذاكرتين المتناقضتين في إطارهما، والمتطابقتان في فحواهما، عرضت شركة ثمانية في عام 2024م عبر مهرجان البحر الأحمر السينمائي فيلماً وثائقياً حمل عنوان (مركب فرسان – 128 كيلو عن بر الأمان) والذي يروي حكاية مؤثرة تضع المشاهد بشكل مباشر أمام فاجعة النهاية في عرض البحر، ولكن هذه المرة عبر قالب جديد ومختلف في شخوصه ودلالاته ومفرداته.

تقوم الحكاية التي صاغها كتابياً نايف نجر وأخرجها موفق علي على مجموعة شبان سعوديون تعارفوا على بعضهم البعض عام 2010م، وكان الرابط بينهم «قروب ديفرنت»، وهي مجموعة تشكلت في شرق المملكة وتضم الهواة المشتغلين على تعديل السيارات، ومن خلال تلك المجموعة تطورت العلاقة بينهم تطوراً ملحوظاً، ما أثمر بناء علاقة شخصية تمخض عنها القيام بعدة رحلات ومغامرات تتناسب مع الفئة العمرية التي ينتمون إليها، وهي العشرينات. الفضول وحده، دفعهم في سبتمبر من عام 2016م إلى الإقدام على اختيار جزيرة فرسان في جنوب المملكة وجهة لهم، وعلى عجل تم ترتيب كافة الإجراءات لتنفيذ الرحلة، ولم يتبق سوى اختيار القائد العليم بدهاليز البحر وأهواله، فوقع الاختيار على أبو الريش (وفي رواية أخرى العم عصام!) لتولي هذه المهمة.

كواليس فيلم «مركب فرسان»
كواليس فيلم «مركب فرسان»

لا شيء يشي بوجود ما يلفت الاهتمام في المشاهد الأولية من الفيلم، حيث تظهر اللقطات الشبان وهم يصطادون السمك ويتبادلون النكات فيما بينهم، إلا أن الإشارة الوحيدة التي تستحق الملاحظة هي أن ربان المركب سبق له أن ضاع في عرض البحر، وتم اختطافه من قبل صيادين واقتياده إلى الحبشة (شمال دولة إثيوبيا حالياً)، وأطلق سراحه مقابل فدية مالية. سرعان ما يذهب الضائع سابقاً بهؤلاء الشبان إلى المجهول، رغم تطميناته المستمرة لهم بتكرار لازمته على كل فعل يقع: «حبك لا يضيع!». استمر الضياع أربعة أيام متواصلة، وسط شح المواد الغذائية والماء الصالح للشرب، وما نتج عنها من نوبات الهلع وتقاذف اللائمة بين شركاء المركب. تنتهي الحكاية دون فاقدٍ ولا مفقود، على رغم من وصولهم أطراف الحدود مع اليمن التي كانت، آنذاك، في خضم صراع أهلي طاحن بين كافة الأطراف المسلحة.

فيلم ( مركب فرسان - 2024)
فيلم ( مركب فرسان – 2024)

كان للفيلم أن ينجو إلى بر الأمان، أسوة بركاب القارب، إلا أن طاقم الفيلم لم يوفق في الشخصيات المختارة لتنفيذ المشاهد المحاكية للموقف الصعب، فرغم قلة مشاهدهم إلا أن سوء التحضير والتكلف كان بادياً عليهم. وبجوار ذلك، تم الاستعانة بمشاهد كارتونية لا دلالة لها، ولو تم الاستغناء عنها فلن يتغير شيئاً في الفيلم، فالأحداث كانت واضحة وليست بحاجة لشارحٍ خارجي، ما يوحي بأن هذه المشاهد هي حيلة للالتفاف على أمر إنتاجي ما. هذا الارتباك بدأ أكثر وضوحاً في الألوان المختارة للمشاهد، فاستخدام اللون الأبيض والأسود تم بشكل عبثي وغير متسق مع الحدث، فهل كان دلالة على سوء اللحظة؟ فإن كانت كذلك فهي دلالة غير موفقة؛ بحكم سوء الرحلة برمتها والتي لم تكن إلا لحظات أخيرة قبل مفارقة الحياة. إن الارتباك البادي على ملامح الفيلم الفنية، ترجح بأن اختيار القالب الدرامي لحكاية القصة المؤثرة بدلاً من التوثيق بإطارات مشوهة كان الخيار الأنجح؛ بخاصة وأن للقائمين على الفيلم سوابق في هذا المجال وكان لبعضها أثر لا بأس به، مع الأخذ بالاعتبار وجود مساحات واسعة يمكن تطويعها درامياً، على رأسها حكاية الطفل الصغير المرافق معهم (بدر) الذي لاحظ أحد الركاب تعبه الشديد فاقترح رمية في البحر بدلاً من الموت على سطح المركب، بالإضافة إلى إمكانية توظيف حادثتيّ خطف قائد المركبة سابقا، والقرب من خط النار في المياه اليمنية.

صورة لمفقودي فرسان وهم يحكون تفاصيل ضياعهم في البحر
صورة لمفقودي فرسان وهم يحكون تفاصيل ضياعهم في البحر

يحسب لهذه المحاولة، المرتبكة فنياً والمتماسكة موضوعياً، السعي إلى مزاحمة الذاكرة المجتمعية بقالب جديد حول موضوع الغرق في سواحل المملكة، وهي مرشحة للانتشار والتداول في حال طرحها عبر منصات التواصل الاجتماعي؛ نظراً لكون الجهة المنتجة (شركة ثمانية) تمتلكه أذرع دعائية قوية، وهي قادرة على الوصول إلى شرائح متعددة وواسعة في الداخل والخارج.

اقرأ أيضا: نهاية العالم.. في البحر الأحمر

شارك هذا المنشور