فاصلة

مقالات

سحر «الكلوز – اپ» في سينما عبد المجيد عبد الله

Reading Time: 4 minutes

ولدت أول لقطة «كلوز – اب» من رحم الحاجة الفنية؛ وكانت بإمضاء المخرج الأمريكي ديفيد غريفيث عام 1911. ذهبت الكاميرا في فيلمه القصير، «The Lonedale Operator»، بلقطة قريبة إلى يد البطلة، لتضيف معلومة بصرية وتكشف للمتفرج أن ما ظن أنه مسدس ليس إلا مفتاح على هيئة مسدس! لم تكن لقطة قريبة في حقيقة الأمر، بل لقطة Insert لهدف عملي في القصة، لتوريط المتفرج أكثر في الحكاية. 

لكن الولادة الفعلية للكلوز-اب جاءت في فيلم غريفيث الثاني «Friends» والتي اعتبرها الكاتب والمخرج والناقد بول شريدر بأنها لقطة قريبة «حقيقية» لأنها استُخدِمت «لأسباب عاطفية». فاللقطة «قريبة الحقيقية»، من وجهة نظر شريدر، هي التي «تحبس إحساسًا عاطفيًا غير منطوق لا يمكن إيصاله بلقطة متوسطة أو واسعة». مع هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الصور المتحركة، أدرك صانعو الأفلام أنه باستطاعتهم القبض على ٤٣ عضلة في وجه الإنسان قادرة على تقديم معنى عاطفي لا يمكن تحقيقه بالكلام! ومنذئذ بدأت الكاميرات تقترب من الوجوه، وأصبحت الشخصيات السينمائية أكثر تركيبًا وتعقيدًا. 

الفيلم القصير (Friends - 1912)
الفيلم القصير (Friends – 1912)

كان هاجس الفن على الدوام الاقتراب من كشف خبايا الروح البشرية، وعندما تمددت الفنون الأدائية في ذائقة الناس، زادت الرغبة لديهم في مزيد من الانكشاف الإنساني. لجأ المسرح «للمُناجاة» لتعميق هذه الحالة. يتوجه الممثل إلى الجمهور ويناجيه كاشفًا عن أفكاره العميقة ودواخل شخصيته التي لا يريد إظهارها لباقي الشخصيات فوق الخشبة. 

في كتابه «نظرية السينما» الصادر عام 1948، يرى الناقد بيلا بالاش أن الأفلام لا تحتوي على مناجاة شخصية، ولكنها تحتوي على لقطات قريبة! يبحث الممثل أمام العدسة عن نصف نظرة، وربع ابتسامة، أو صرخة داخلية مكتومة يزم فيها شفتيه فقط، أو انحناءة رأس فيبلغ المعنى منتهاه! لولا التقنية لظلت السينما رهينة المسرح، ولكنها ابنة الضوء والكاميرا والعدسات أيضًا. مع نهاية حقبة الأفلام الصامتة، لم تعد اللقطة قريبة تمثل تحديا تقنيا، بل تحد فني، كما يرى شريدر. 

المناجاة التي تطورت إلى لقطة قريبة في دولاب الفنون، ظهرت في طور جديد بعد اكتشاف الفونوغراف على يد توماس إيدسون. كان هاجس إديسون الحقيقي بالصور المتحركة الذي قاده إلى اختراع جهاز الكينتوسكوب الذي معه تحركت أول صورة ثابتة، كان هاجسه هو الانتصار لاختراعه الأول الفونوغراف بهدف توفير مرافقة بصرية للصوت. 

كتاب (نظرية السينما - 1948) للناقد بيلا بالاش
كتاب (نظرية السينما – 1948) للناقد بيلا بالاش

لم تكن الصور مهمة في حد ذاتها لإديسون، ولكنها كانت فقط لجعل التجربة الصوتية أكثر اكتمالًا وإشباعًا. ومع الفونوغراف نشأت فكرة تسجيل الموسيقى، ومعها اخترع إميل برلينر الأسطوانة التي تحبس الصوت. لكن لنترك التسلسل الزمني قليلًا، ونتذكر أن أهم ما فرضته الأسطوانة على مسيرة التسجيل الموسيقي هو أنها حددت المدة الزمنية للتسجيل بواقع ٣ إلى ٤ دقائق فقط. هذا القيد الزمني حدد القانون الذي امتثلت له الموسيقى المسجلة على أقراص حتى شاعت وانتشرت مع انتشار الأسطوانات وصولًا إلى شريط الكاسيت لتصبح بعد ذلك مطلبًا شعبيًا أو أغنية «بوب» لا تُغنى في المسرح فقط، بل تُصنع في الاستديو تحت عين التقنية. 

تطبعت الأغنية بعادات السينما مع دخولها الاستديو. يُسجل المغني مرة تلو أخرى، ويُحسن ويُطور من أداءه في كل مرة. يحذف ويعيد التركيب ويحرر ويضيف ويلون بصوته، ثم يوزع ويمكسج حتى تظهر أغنية من ٣ دقائق. كان فرانك سيناترا يسجل الأغنية من عشرين إلى ثلاثين مرة وأحيانًا أجزاءً من الأغنية من أجل الوصول إلى الكمال. باستطاعة صُناع الأغنية اليوم أن يمدوا زمن الأغنية بلا سقف، لكن المزاج الموسيقي لن يسمح بذلك. 

ثم جاءت لحظة تشبه المناجاة. يهمس المغني ملتصقًا بالميكرفون، تمامًا كما يقف الممثل أمام عدسة تكاد تلامس وجهه. هنا ولدت «لقطة قريبة» للصوت! «كلوز-اب» صوتي له فنياته وأساليبه، كما هو الحال مع سيناترا البارع في استخدام الميكرفون، والذي يعرف «متى يقترب منه ومتى يتراجع قليلًا، وكيف يُعامل مخارج الحروف، ويتعامل مع كل نفسٍ».  

فرانك سيناترا
فرانك سيناترا

في كتابه «الموسيقى والرسم»، يرى الكاتب والشاعر فوزي كريم، أن كل مغني يتمتع «بقابلية على التلوين في حنجرته، تميزه عن المغني الآخر. وهذه القابلية ليست بعيدة، من حيث التعامل التقني، عن قابلية الرسام الذي يضع بين يديه مجموعة من الألوان الأساسية ليولد من الخلط بينهما، ومن مجاورتها لبعض، ومن التفاوت في تخفيفها وتغليظها، ما يولده المغني من تنويعات موسيقية». هذا التلوين الذي يشير إليه كريم هو ما يجعل المغني سينمائيًا أمام الميكرفون. 

عبد المجيد عبدالله
عبد المجيد عبدالله

توهب الاستمرارية للفنان على قدر فهمه للانتقال من مزاج إلى مزاج. أدرك عبد المجيد عبد الله مبكرًا قيمة الوثبات الموسيقية والتجديد، فتربع على عرش «البوب الخليجي» لدرجة أن يكون المطرب الأول لأكثر من جيل في الأسرة الواحدة! يأتيك صوت عبد المجيد وإحساسه من حيث لا تتوقع، السر هو إدراكه وإتقانه لتكنيك لقطة «الكلوز-اب» الصوتية، التي لا يمكن تحقيقها خارج الاستديو.

لا يستطيع الغناء المسرحي أن يعطيك الإحساس المقرب الذي يقدمه الاستديو. تحتاج إلى تقنيات وأدوات داخل الاستديو لتتحول الأغنية إلى سينما. في مواكبته للتقنية وتوظيفها داخل الاستديو، يعرف عبد المجيد عبد الله أن الأغنية صناعة قبل أن تكون موهبة، ويعرف «كل سلك في الجهاز» بحسب تعبيره، لدرجة أنه يعيد تسجيل حفلاته الحية من جديد ليضبطها مع معايير الاستماع الحديث، معترفًا في حواره في برنامج «كل القصة» بقوله: «الأذن لا تتقبل الكوالتي القديم، كواليتي اللايف (الغناء الحي) هو كواليتي قديم لا يتماشى مع الذوق السائد. أبناؤنا اليوم يسمعوا غربي، وأغلب حفلاتهم بلاي باك». 

في سينما عبد المجيد عبد الله ملل من القديم، يشبه ملل فيدريكو فيلّيني الذي قال: «لا أحد يحب أن يسمع ثناءً مكررًا على أفلامٍ صنعها من عهد بعيد». 

عبد المجيد عبدالله
عبد المجيد عبدالله

اقرأ أيضا: شيفاني بانديا لـ«فاصلة»: جذب الجمهور لمهرجان البحر الأحمر أهم أهدافنا

شارك هذا المنشور