في تتبع آثار الآخرين لذة سينمائية، ليس لكونهم حيوات تكبر وتشيخ أمام أعيننا، ولكن لأن قصصهم في الأغلب، حتى الأكثر ذاتية منها، تتحلى بتيمات حميمية ومألوفة لدى المشاهد، أكثر حساسية ورقة في مواضعها الأكثر قسوة، فتلك السرديات الاستعادية، تمنحنا فرصة رصد التحولات ومراقبتها كجزء من السرد، خصوصًا في الفيلم الوثائقي أو يمكننا أن نسميه الأرشيفي «حصار المد والجزر – Caught by the Tides» للمخرج الصيني جاي تشانغ هاي (Jia Zhang-ke).
فمع استدراجنا داخل الفيلم تتحول التحورات والتبدلات المكانية لجزءٍ حقيقي من الحبكة، ويذوب الخط السردي للشخصيات داخل سياقات أكثر عمومية، تنقل العقدة من المستوى الشخصي إلى العالمي، لتتحول الإشكاليات ذات الخصوصية إلى سياق كلي يتعرّض لظواهر تتجاوز الفردي.
مفاهيم مثل التطور والتبدل تحت تأثير التشكُل البيئي والتطور التكنولوجي والكوارث الوبائية، فالمخرج لا يحكي قصّة واحدة، رغم أنه يحاول أن يرتب سرديته ويطورها بين فوضوية اللقطات لكي ينتج نمط قصصي يمكن البناء حوله، بيد أنه كولاج الصور واللقطات ذات الهوية البصرية المختلفة والتقنية المتفاوتة وفقا للحقبة الزمنية؛ يخلق نموذجًا حكائيًا ملتبسًا وغير مفهوم في بعض الأحيان، لأنه يجمّع منتجه الإبداعي من قصاصات، قصاصات تحمل طبقات من الاستعارات، لذا من المستحيل خلق منتج يتمتع بالكليّة التي يمكن أن تلاحظها فوريا في الأفلام ذات الأنماط السردية والبنية القصصية المتماسكة.
بيد أن تلك الأقاصيص المبتورة والفراغات الزمنية التي يملأها خيال المتفرج ولقطات التغيرات المكانية التي تُبقينا مطلعين ومدركين على التمددات الزمانية التي توفر لنا نظرة على تطور علاقة البطلة تشاو تشاو Qiao Qiao (تشاو تاو) مع بِن (لي زوبين) حبيبها التي تخوض رحلة البحث عنه، وعلى الناحية الأخرى، وبشكل لا شعوري، تطور علاقة الإنسان المتجسدة في تشاو تشاو مع المكان والزمان، والتغيرات التي تطرأ عليها في كل حقبة زمنية مرصودة في قصاصات المخرج البصرية، ليحاول أن ينتج نموذج حساس وواعي لبيئته، أكثر من خلقه لنمط رومانسي له مداخل وذروات يمكن ملاحظتها والتفاعل معها، فالفيلم كنمط ملتبس يكشف مساحة جديدة في علاقة الإنسان بذاته وبيئته والآخر.
يعول المخرج على البنية الزمنية الممتدة بما تمنحه من ديناميكية للحكاية الرومانسية في قلب السردية، فالفيلم يستعين بلقطات أرشيفية من قبل 2001، والجدير بالذكر أنه إلى جانب اللقطات الأرشيفية، استعان جاي تشانغ هاي بلقطات غير معروضة من أفلامه السابقة مثل «نشوة مجهولة» عام 2001 وأفلام أخرى ليصنع منتجًا منوّعًا ومجمّعًا يتقصى 20 سنة من تاريخ الصين بشكل موازٍ لقصة رومانسية تدور بين اثنين من الطبقة العاملة.
لا نعرف الكثير عن تلك القصة بشكل محدد، إنما نعرف عن الإنسان في إطار أشمل وأعم، كل ما نلاحظه بصريا وعاطفيا أن علاقة الاثنين متوترة، وتبدأ الحكاية بترسيخ نفسها عندما يقرر «بِن» مغادرة البلدة للبحث عن مستقبل أفضل، ويكتفي بمنحها وعداً بأن الأمور ستتحسن وسيرسل لها ليجتمعا مرة أخرى، ولكن أخباره تنقطع، فتنطلق تشاو للبحث عنه عام 2006، وتدور عجلة المقادير ويتلاقيا كغرباء في 2022 تقريبا.
هذا ملخص الحكاية، ولكن هذه من المرات القليلة التي أرى فيها فيلمًا وثائقيًا بصريًا إلى هذه الدرجة، لا يوجد حوار تقريبًا، مجرد كلمات عابرة، وبفضل أن يمنح البنية البصرية الحميمة كل الاهتمام والثقل، والحقيقة أن الفيلم لم يكن ليخرج بهذه الجودة إلا في وجود الشراكة الطويلة بين المخرج وزوجته الممثلة الرئيسية تشاو تاو، والتي تعتبر من أفضل ممثلي جيلها، ذلك الوجه الذي يحمل داخله طبقات من الحزن والزمن، تلك العيون المؤرَّقة دائما بشيء لا يمكن إمساكه كليَا ولكن حساس ورقيق.
الشيء المثير في هذا الفيلم، أنه يحملك إلى عوالم المخرج السابقة، أفلامه وحكاياته التي تدور كلها في نفس الأماكن، الأمر أشبه بأن تصنع فيلمًا واحدًا عن معظم أعمالك السابقة، ولكنه لا يخصك وحدك إنما يخص كل شيء حولك، ولا شك أن مشاهدة أفلام المخرج السابقة والتعرف على الفيلموغرافيا الخاصة به من شأنه أن يعزز من تجربة المشاهد، فالفيلم زماني ومكاني أكثر من كونه فرديًا، لذا من الطبيعي أن يحدث نوعًا من التآلف بين مشاهدي الأفلام السابقة للمخرج وهذا الفيلم الذي يعاني ويصارع لإيجاد شكل معين خاص به في وسط عشوائية وفوضوية يحاول ترتيبها في سياقات تمنحها معنى أكبر من الرومانسية.
فالسياق الفردي أو العلاقة الرومانسية لا يمكن القياس عليها بشكل كامل غير أنها توفر لنا نظرة متفردة عما يمنحه الإطار الخارجي للقالب القصصي، كيف يؤثر ويرتقي بالإشكالية إلى مستوى آخر تماما، ذلك الانفتاح على الشكل الإبداعي والسردي هو ما يبحث عنه المخرج في تجربة استثنائية حتى لو لم تحصل على الجوائز أو الاحتفاء، والحقيقة أن جاي تشانغ هاي يعمل على تيمة جوهرية خاصة بتاريخ بلاده، فيلمه الوثائقي السابق كان يغطي مساحة كبيرة من تاريخ بلاده ولكن بسرد منظم وبشكل أكثر نمطية.
يتناوب الفيلم في عرض لقطاته بين الخام والديجيتال القديم حتى يصل إلى اللقطات عالية الدقة، ذلك التناوب والانتقالات تمرر شعورَا ضروريًا لوضع الفيلم في سياق أكثر شاعرية، شعورٌ فوضوي يشبه بشكلٍ كبير استدعاء صورٍ في ذاكرة عجوز، فاللقطات غير مكتملة أو لها سياق محدد، بل تؤسس لنموذج اعتباطي يشبه ذاكرة مشوشة وغير مرتبة تحاول استدعاء الصور بطريقة سريعة وخاطفة.
هذا الارتباك يمحي الخطوط الفاصلة بين الماضي كما نعرفه والحاضر والمستقبل، ويحشدهم جميعا في مكان وسياق موحد، وهو ما ينعكس على التوترات في العلاقة الرومانسية كتجسيد لحالة التغير الدائمة، أنه فيلم يصارع الزمن بشكله المعهود، يولّد زمنه الخاص ويتطلب نوعًا من الانفتاح على شكل مختلف من السرد، في محاولة لإعادة خلق ما كان موجودا، واستعادة شيء فوضوي في إطار جديد ومساحة مختلفة، إنه محاولة للطفو في بحر من الصور.
اقرأ أيضا: فيلم «احتضار»… عن العائلة والموت