إن معرفة العالم من خلال حواسنا هي خُبزنا اليومي، لكن هناك دوماً غلبة معينة لإحداهما على الأخرى عندما يتعلق الأمر باستخلاص أكبر قدر من المعلومات من محيطنا. تشكّل حاسة البصر مصدر المعلومات الأكثر استخداماً لدينا، وبعد ذلك، اعتماداً على الثقافة التي ننغمس فيها، قد يكون السمع الذي يعدّ إحدى الحواس الأكثر تعقيداً. لذلك، النسخة الثانية من مؤتمر النقد السينمائي في الرياض، تركز على ثُقل الصوت في السينما.
في عام 1927، عُرض «مغني الجاز» (The Jazz Singer)، أول فيلمٍ تضمّن حواراً متزامناً مع السرد. اعتُبرت الخطوة يومها أزمةً وجوديةً للسينما، رآها بعضهم خطوةً مبشِّرةً في طريق التطور السينمائي، فيما قابلها آخرون بالعداء. خشي هؤلاء أن يفسد الابتكار التقني الفني الجديد القوة التعبيرية الفائقة التي بلغتها السينما الصامتة، لكنّهم كانوا مخطئين، فكما قالت الشاعرة الكوبية فينا غارسيا ماروز: «الصوت في الفيلم الصامت ليس مفقوداً، بل هو صامت».
في وقتنا الحاضر، يعدّ الصوت جزءاً لا يتجزأ من الصناعة السينمائية، ووسيلةً فنيةً تتمتع بالقدرة على صنع المشاعر. وكما قال مصمّم الصوت العظيم آلان سبليت (1939 – 1994) ذات مرة «الصوت هو شيء من القلب»، نحن الجمهور نفسّر الصوت بمشاعرنا، وليس بعقلنا. الأصوات، الموسيقى، المؤثرات الصوتية تستخدم بشكل إبداعي، بحيث يكون لدى المشاهد القدرة على تفسير كل مشهد والتواصل معه بشكل فردي، فـ «الصوت هو نصف التجربة السينمائية»، كما قال المخرج والمنتج جورج لوكاس.
لقد اعتدنا كمشاهدين على تحفيز حواسنا مع كل دقيقة في الفيلم، ومن الطبيعي جداً أن يتركز كل اهتمامنا على المرئي، وعلى ما تعرضه لنا الشاشة، لكن الجزء السمعي هو ما يساعدنا على تكوين عواطفنا. «الأفلام عبارة عن 50 في المئة مرئية و50 في المئة صوتية، وفي بعض الأحيان، يكون الصوت أهم من العناصر المرئية» كما اعترف ديفيد لينش.
عندما نتحدث عن الصوت، لا نشير فقط إلى الحوار، بل علينا أن نتذكر أيضاً تصميم الصوت، والموسيقى والفولي وتحرير الصوت وحتى الصمت. الصوت مثل الصورة، ذو صفات جمالية، ونفسية، وكذلك الصمت، واستخدامه بطريقة رمزية ومجازية لتمثيل الغياب أو الخطر، أو ببساطة لمجرد متعة اللعب باللغة السينمائية، كما فعل جان لوك غودار (1930 – 2022) في مشهد «دقيقة الصمت» الشهيرة في فيلم «عصبة الغرباء» (1964 – Bande à part). الصوت لا يضفي الواقعية على الصور فحسب، بل يصنع الجو. يقوم بتوسيع حدود الشاشة، يبطئ أو يسرّع السرد ويحلّ مشاكله إذا كانت موجودة، ويمنح المونتاج تماسكاً، ويؤثر على المشاهد بشكل غير واعي.
بدورها، تنشئ الموسيقى رابطاً عاطفياً ونفسياً ومعرفياً مع الشخصيات والمشاهد والحبكة. كان هدف جون ويليامز هو بناء سينما تعمل فيها الموسيقى على تحديد جوهر الفيلم. وقضى إينيو موريكوني (1928 ــــ 2020) حياته في كيفية صياغة موسيقى فيلم بإيجاز، يقوم ببنائها على مستوى عال من الشك من خلال صوت جرس غير متوقع أو اختلال إيقاعي.
لا يمكن تخيّل المشهد الأخير من فيلم «سينما بارديسو» (1988 – Cinema Paradisp) من دون دندنة موسيقى موريكوني. كيف لنا أن نتخيل مقبرة «ساد هيل» بدون أوتار موريكوني الموسيقية التي دعمت المبارزة النهائية بين كلينت إيستوود وإيلاي والاش ولي فان كليف في «الجيد والسيئ والقبيح» (1966 – The Good, The Bad and the Ugly). ثورية موريكوني وغيره من الموسيقيين الكبار، جاءت من عدم رضاهم عن الوظائف التقليدية لموسيقى الأفلام كمصاحب بليغ للدراما أو كزيّ لحني يبطّن أجواء الفيلم وعصره.
تثري الموسيقى والصوت تجربة المشاهد في السينما. تولّد المشاعر، وتوقظ الذكريات، وتوجّه إلى حد كبير قصة الفيلم. الصوت والموسيقى هما فنّ الإمكانيات اللانهائية التي تتضاعف إذا جمعناها مع الكون السينمائي. فهي تسهم في التنمية النفسية للشخصيات ولعالم الفيلم، وتعدل معنى الصورة وتتنبأ بموقف معين، وتغيّر المحتوى العاطفي، ويمكنها استبدال الحوارات غير الضرورية، وإعادة إنشاء العصور والأماكن.
من دون الصوت والموسيقى، سيبدو الفيلم دائماً أطول. «بالطريقة نفسها التي يجعلك الرسم، أو النظر إلى اللوحات، ترى العالم بطريقة مختلفة، فإن الاستماع إلى الأصوات المرتبة بشكل مثير للاهتمام يجعلك تسمع بشكل مختلف»، قالها مصمم الصوت والتر مريتش. لذلك، دعونا نسمع بشكل مختلف الموسيقى، وأنفسنا، ومدننا، وبيوتنا وأفلامنا، ودعونا نفكّر في دور الصوت في اللغة السينمائية.
اقرأ أيضا: «منطقة الاهتمام».. كيف كان الصوت أداة جوناثان جليزر لمحاكمة الماضي والحاضر معًا؟