الفيلم القصير هو «الخروف الأسود» للمهرجانات، حضوره هامشي، كأنه لزوم ما لا يلزم، يشارك فيها من باب رفع العتب. وحين تقرر تظاهرة سينمائية كالجونة أن تفتتح دورتها السابعة (24 أكتوبر – 1 نوفمبر) بفيلم قصير، وذلك في خطوة نادرة، تواجَه بالمنع والإقصاء، فتضيع فرصة أن تكون رائدة في هذا المجال.
هذا ما حدث مع «آخر المعجزات» لعبد الوهاب شوقي. عشية افتتاح مهرجان الجونة الأخير، وصلتنا رسالة إلكترونية من الإدارة، تعلن إلغاء عرض الفيلم المنتظر واستبداله بآخر هو «الرجل الذي لم يستطع أن يبقى صامتاً» للمخرج الكرواتي نيبويشا سلييبسيفيتش الذي كان فاز بـ«سعفة» الفيلم القصير في مهرجان كانّ هذا العام. هذا مع العلم أن فيلم شوقي لا يتضمّن أي مشهد مخل بالآداب العامة. ولا يسيء إلى سمعة مصر ولا يهدد قيم الأسرة المصرية.
كُثر استغربوا أن المهرجان لم يشرح أسباب إلغاء العرض ودوافعه، إنما اكتفى بعبارتين حياديتين: «بعد تعذّر العرض» و«تعديل البرنامج». لكن الناس الذين كانوا ينتظرون الفيلم لم يستطيعوا أن يبقوا صامتين، فربطوا الإلغاء بالمنع. منع تقف خلفه الرقابة التي تهيمن عليها السلطات الدينية وفي مقدمتها الأزهر.
فالفيلم ينطوي على أجواء صوفية، ومن المعلوم أن كلّ شيء يخرج عن الفهم الرسمي للدين في مصر مستعبد ومنبوذ وغير مرحب به. كثر تمنّوا لو أن المهرجان سجّل اعتراضاً على هذا المنع، ولم يعرض بالتالي أي فيلم تعويضاً عن فيلم شوقي، لكن أي مبادرة من هذا النوع كانت تعني دعوة إلى مواجهة، وإدارة «الجونة» لم تعتبرها أولوية، ربما لأنها بغنى عن تصعيد، فهي لطالما كانت لقمة سهلة للمتربصين بها. ثم إن مواجهة كهذه تحتاج إلى مناخ من الحرية، لا جو يسوده الخوف؛ خوف المهرجان من الرقيب وخوف الرقيب الصغير من الرقيب الأكبر. النتيجة: جرى الافتتاح في حضور حفنة من المشاهدين لم يتجاوز عددهم عشرة، فيما انصرف معظم الحضور إلى مأدبة العشاء.
«آخر المعجزات» أول فيلم يخرجه عبد الوهاب شوقي (35 عاماً) الذي اشتهر في فترة سابقة بالعمل في الخطوط الخلفية لصناعة الأفلام (المأزومة حالياً) في بلده مصر. ذاع صيته كمساعد للمخرج السوداني أمجد أبو علاء على فيلم «ستموت في العشرين». هناك شهادات تؤكّد أنه عمل بتفان وإخلاص نادرين، رابطاً الليل بالنهار، ومستثمراً فيه كلّ ما أوتي من طاقة، وهذا كله في ظروف الثورة السودانية عام 2019.
لهذا الثلاثيني، تجربة إنسانية فريدة وعمق ثقافي أيضاً: فهو يأتي من بني سويف، ولد ونشأ في عائلة لا علاقة لأفرادها بالفنون، ورغم أن والده رجل محافظ دينياً إلى أبعد حدّ، أخبرني مرةً بأنه كان يعشق أحمد ذكي، الممثّل المصري الأحب على قلب شوقي. هكذا أدرك الابن جبروت الفنّ حتى على البسطاء.
اشتغل شوقي على نفسه وطوّرها، سالكاً درباً لم يسلكه كثيرٌ من الذين نشأوا في بيئات كبيئته، بل ذهب هؤلاء «المساكين» في اتجاه معاكس لاتجاهه. انتقل شوقي إلى القاهرة قبل عشر سنوات، وانخرط في همّ الفنّ والثقافة. لم يخط خطوة إلا بدافع الحبّ والشغف. إنه فنّان بالفطرة، تنويري ينبذ العنف والدوغما والشعارات السياسية الفارغة والتطرف الديني والإيمان الذي يستثمر في المظاهر والنفاق. كلاسيكي ومتمرد، عالمي ومصري، يجمع المجد من الطرفين. داخله طفل لا يزال يحافظ على تلك القدرة على الدهشة التي فقدها كثر.
فيلمه الذي تبلغ مدته 20 دقيقة، يشبهه إلى حدّ ما. من يعرفه جيداً قد يرى شيئاً منه في يحيى، الشخصية التي تدور عليها الأحداث. لم يفاجئني الفيلم كوني ما انتظرتُ منه أقل من عمل كهذا، حيث الأهم هو ما لا نراه بالعين المجردة، بل ما نلمسه بحواسنا، لتنشأ بيننا وبين الملموس علاقة وجدانية.
في المقابل، ما فاجأني، هو هذه القدرة على القفز إلى شيء بهذا النضج منذ التجربة الأولى، وهو نضج يحتاج مخرجون آخرون سنوات لبلوغه، مما يؤكد أن السينما المستمدة من التجربة الشخصية تفعل فعلتها أحياناً. هذا هو باختصار عبد الوهاب شوقي الذي كنت أود أن أكتب عنه منذ زمن طويل، وها أن الأوان قد آن كي تكون هذه الكتابة مبررة وتواكب حدثاً.
ورغم أن شوقي عبّر في منشور عن إحباطه بسبب إلغاء عرض الفيلم وتكلّم عن «إجهاض الحلم الكبير إبان ولادته»، فإنني أعارضهُ بشدة في هذه النقطة: لا مكان للإحباط عند لحظة ولادة سينمائي.
«آخر المعجزات» اقتبسه شوقي من قصّة قصيرة «المعجزة» لنجيب محفوظ التي صدرت في إطار مجموعة قصصية «خمّارة القط الأسود» (1969) تتألف من 19 قصّة تتناول مواضيع مختلفة. تأخذ القصص من خمّارة يتسكّع فيها قط أسود مسرحاً للأحداث.
الفيلم اقتباس حر إلى حدّ ما، أعاد شوقي من خلاله قراءة القصّة بما ينسجم مع تطلعاته. تبدأ الأحداث في الخمّارة، فنتعرف إلى يحيى (خالد كمال) الذي ستحدث له «معجزة». يحيى هذا، عاش حياته مكبّلاً عاجزاً، مرفوضاً من كلّ الذين يحيطون به. في أحد المشاهد، يقول: «جيت من بلدنا عشان ابقى شاعر عظيم، انتهى بي الحال مرمي في أوضة، أكتب أسامي الميتين وأهاليهم ونسايبهم». ثم يرده اتصال من زميله في «الأهرام» يبلغه بأنه أخطأ في كتابة اسم أحد المتوفين. يعقبه اتصال آخر من شخص مجهول يُدعى الشيخ مأمون يخبره بأنه الكائن المختار.
عالم جديد سينفتح أمامه بعد ذلك الاتصال، عالم الدراويش والصوفية والتأمل، إلى أن تنقلب الآية مجدداً في شيء أشبه بحلم معيش. ما سيراه يحيى سيكون بمثابة ولادة جديدة له. «تحت تراب السنين طلع في كنز!». بهذه الكلمات، يصف تلك الولادة التي هي في الكثير من الأحيان أقرب إلى ثقب أسود يبتلعه فيعيد صوغ علاقته بذاته وبالعالم الذي من حوله.
يحيى بائس المظهر، يجلس إلى بار بألوان خضراء دافئة يتصاعد منه صوت أم كلثوم وعبد الوهاب. يبدو وحيداً، لا جسدياً فحسب بل روحياً وعاطفياً كذلك، يرمقنا بنظرات مخيفة، ويظهر عليه الارتباك والخوف. إنه تائه في عتمة الليل والمصير المجهول. هل كان ينتظر شيئاً قبل الاتصال الغامض من الشيخ الغامض الذي سيقحمه في طقوس الصوفية حيث النَفس تترقّى وتتطهّر؟ يكفي أن نسمعه وهو يصف صوت الشيخ بالقول «كان هادئاً ورخيماً»، كي ندرك حجم الانقلاب الذي يحدث في حياته. لكن حذار الوقوع في الوهم. فهذا كله يستند إلى فراغ: إنها المعجزة والنبوءة غير المدعومتين بأي شيء سوى الإيمان الأعمى.
أنجز شوقي فيلماً متماسكاً، بليغاً، تنسحب الجودة فيه على مستوى المراحل كافة، الكتابية والإخراجية والتمثيلية والمونتاجية، مما يجعلنا ننتظر القادم من المشاريع على أحر من الجمر، ومن المؤكد أنها ستأتي بوفرة. هذا فيلم لفنّان مثقّف، له مرجعياته وفلسفته، لا يقع في فخّ التحذلق والتنميط، ويقوم في جزء لا بأس به على تناقضات، إذ يجمع الرقّة بالقسوة، القاهرة الإسلامية بعالمها السفلي، الارتقاء بالنزول إلى الجحيم، وأخيراً الواقع بعالم حالم له رموزه وشروطه.
من خلال سينيفيليته والأسماء الكبيرة التي تعلّم منها، استمّد شوقي درساً مهماً: التعبير عن الرؤية بالصورة. وذلك بسلسلة لقطات معظمها ثابت. فأي شيء يمكن ان يُقدَّم الى المُشاهد بلغة الصورة، لا يقدّمه الفيلم إلا بلغة الصورة ولا شيء سوى الصورة، مع التذكير بأننا أساساً أمام أصل أدبي نُقل إلى الشاشة. وهذا وحده إنجاز مهم وتحدٍ في زمن سطوة الثرثرة والأفلام التي تبدو كحلقات تلفزيونية.
أما جبانات القاهرة التاريخية فيحولها شوقي إلى شخصية في ذاتها، معيداً إليها الاعتبار بكاميراه. العمار الإسلامي المرتبط بها، يتصدّر المشهد ليصبح نجم الفيلم، نازعاً هذا التراث الحضاري من مخالب التشويه الذي طاله، ليحتفي بالصوت الحقيقي الذي يخرج من باطنه.
اقرأ أيضا: مهرجان الجونة السينمائي.. سينما تحت الأضواء