يختار المخرج الجزائري شكيب طالب بن دياب في فيلمه «196 متر»، الذي رشّحته الجزائر لتمثيلها في مسابقة أوسكار أحسن فيلم أجنبي، والمعروض لأول مرّة عربيًا في الدورة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي الدولي، الغوص في عوالم أفلام المغامرة بدون مقدّمات رغم صعوبة هذا النوع السينمائي، وفي ظل الفقر الفيلمي في هذه الثيمات على المستوى العربي.
في مشهد ليلي، تقترب سيارة سوداء من طفلة يتيمة ويتم استدراجها وخطفها، وشقيقها يحاول اللحاق بمختطفها ولكن دون جدوى.
المخرج يدخل في أجواء الفيلم ويستعرض الأحداث بشكل مباشر دون تمهيد، وينجح في لفت الانتباه، ويحيلنا إلى قصة الفيلم عبر أسلوب تشويقي بوليسي مليء بالمغامرة.
في المشهد الثاني، يظهر لنا «سامي» نبيل عسلي، الذي تم تعيينه مؤخرًا مفتشًا لمركز شرطة في الجزائر العاصمة، وبسبب طبيعته المنعزلة، يكافح من أجل التعريف بنفسه وقبوله من طرف زملائه، ومع اختطاف الطفلة الصغيرة وسط الشارع يكشف هذا كل الخلل الذي يعاني منه فريقه الذي يعيش خيبة أمل كبيرة.
التحولات التي تحصل في القضية تدفع «سامي» لحبس نفسه في موقف شرطي متعنّت يؤدي إلى نتائج عكسية، والاضطراب الذي يعيشه يجعله ينزعج من «دنيا» مريم مجقان، الطبيبة النفسية الشابة المكلفة بالمساعدة في التحقيق، والتي تبرّئ المشتبه به الأول وتحصل من خلال طريقتها السلسة في التحقيق، على معلومات قيّمة تساعد في تقدّم التحقيق، لكن الوقت يمر سريعًا، و«دنيا» تعلم جيدًا أن الساعات الأولى من الاختطاف، حاسمة في مصير المُختَطف.
يلامس المخرج الانفلات المجتمعي الموجود في شوارع العاصمة الجزائرية، مع تفشي الصراع بين عصابات المخدّرات والسرقة والاختطاف التي تسعى لفرض منطقها في الشارع وتتحدى رجال الأمن.
يحاول الفيلم ملامسة المرحلة التي تلت فترة «العشرية السوداء» في الجزائر بكل تجاذباتها وتناقضاتها وتأثيراتها، خاصة على جيل الشباب بمختلف أطيافه، وعبر هذه القصة نكتشف الآثار النفسية بما فيها تلك التي عايشها رجال الأمن، وبقي الكثير منهم أسرى لها.
يقرّر بن دياب بأسلوبه السينمائي، المُضَي في غمار هذا النوع، في نقل قصة حقيقية طغت مثيلاتها في الجزائر خلال مرحلة معينة، أين انتشرت ظاهرة اختطاف الأطفال بشكل مريب. أسلوب مباشر يقترح معاينة الآثار العميقة للأزمة الأمنية في المجتمع الجزائري وعلى وجه الخصوص في الأحياء الشعبية التي ينتشر فيها دوافع الانتقام والبحث عن الجاني بعيدا عن مبدأ التحقيق الأمني وانتظار العدالة. العدالة التي يبحث عنها «سامي» ويسعى لتحقيقها من خلال إلقاء القبض على المجرم لينال جزاءه.
الطبيبة النفسية «دنيا» تدخل على الخط، وتقارب الجريمة من بعد نفسي وتاريخي، وتربط ما يجري بسلسلة جرائم قتل واختطاف الأطفال أواخر تسعينات القرن الماضي في الجزائر، وتصرّ على متابعة عملها رغم التمييز الذكوري الذي تتعرض له من طرف «سامي» الذي يحاول الإنقاص من قيمة العمل الذي تقوم بها.
وسط التجاذبات التي تعرفها القضية، ينجح المخرج في وضعنا داخل الجو العام للفيلم المليء بعناصر التشويق والإثارة والارتباك الذي يميز هذه النوعية من الأفلام، رغم التحديات الكبيرة التي تواجه صناع هذه النوعية من الأفلام، والمتأتّية على وجه الخصوص من ندرة هذا النوع السينمائي عربيا، ناهيك عن اشتراطات نجاح هذه الأفلام المرتبطة بمفردات وعناصر فنية معقدة، مبنية في الأساس على قوة الكتابة والتنويع في زوايا التصوير والحركة السريعة والحفاظ على خط معين في الريتم، وهي مستلزمات نجح فيها المخرج إلى حدّ كبير.
تحدّ آخر وقف أمامه المخرج، وهو «الكاستينغ»، بحيث كان أمام مهمة البحث عن ممثلين يمتازون بكفاءة جسدية وتعبيرية كتلك التي نجدها في مثل هذا النوع الأفلام الغربية والأمريكية على وجه خاص.
ينتقل المخرج بين المشاهد المعروضة بذكاء ويربط بينها وبين بقية الأحداث بسلاسة، متّكئا على الموسيقى التصويرية والتنويع في حركة الكاميرا كوسيلة تشويق وجذب لشدّ المتلقي لمعرفة النهاية الدرامية للأحداث، مع مراعاة الاحتفاظ بالقاعدة الرئيسة للفيلم عبر تقديم المشهد الأول تعريفاً بالقصة والأبطال، ثم أسباب الصراع، وأخيرًا نهاية تشويقية درامية للفيلم.
يجمع الفيلم بين العمل السينمائي البوليسي المفعم والمشحون بالتوترات، وبين التحولات السياسية الحاصلة في الجزائر، والتي يمكن اعتبارها مراجعة نقدية ومسحا تاريخيا لمرحلة مفصلية من حياة الجزائريين، فهنا ينتقل المخرج من الجزء إلى الكل بسلاسة ومنطق كبيرين، دون الوقوع في فخ الخطابية المباشراتية الفجّة.
يولّد فيلم «196 متر» شعورًا خارجًا عمّا هو بصريّ، خاصة عند الجزائريين، حيث يحيلنا للسؤال عن الإحساس الذي يجب أن يكون عند المشاهد بعد نهاية الفيلم.
يحسب للعمل كذلك قوة الممثلين، حيث نجح المخرج في اختيار أسماء مهمة في المشهد السينمائي الجزائري وعلى وجه الخصوص البطلين نبيل عسلي ومريم مجقان، اللذان نجحا بأداء جيّد من رفع رتم العمل في مختلف تحولات القصة عبر الانفعالات أو الجمل الحوارية، وهو كلام ينطبق كذلك على باقي الممثلين في صورة هشام مصباح وعلي ناموس وسليمان بن واري وشهرزاد كراشني.
اقرأ أيصا: «برتقالة من يافا»… ما يفسده الاحتلال تصلحه برتقالة