ديباجة مبتذلة..
حينما لا ترى إلا النتيجة، فأنت لا ترى، المتنبي لم ينشأ من قرارة نفسه وعبقريته فحسب. وفيلم «العراب» لم يكن منفصلا عما قبله. وميسي لم ينتقل بالكرة إلى مستوى جديد منزوعا من سياقه. والآيفون لم يُخترع بسبب ابتكار لحظي. ومستشفى الحبيب لم ينشأ أبراجا مكدسة بالأطباء والمرضى. ومسلسل سوبرانوز خرج من نجاحِ وفشلِ مسلسلات أخرى مهدت له الطريق.
كل الأشياء العظيمة، نتائج. ولكنها نتائج لسلسلة طويلة وصعبة من التجارب والفشل والنجاح والخبرات المتراكمة.
لتصل إليها، يجب عليك أن تقدّم مهرها، ومهرها مكلف، ومرهق، ويتجاوز أجيالا في بعض الأحيان، لا يقدر عليه إلا ذوو العزم من المبدعين والتنفيذيين وصناع القرار الحالمين والشاطحين.
ذا واير، ذا سوبرانوز.. وتاريخ التلفزيون الأمريكي
إذا كنت قد شاهدت مسلسل ذا واير (وإذا لم تكن قد شاهدته، فشاهده)، سيتركك – إذا كنت مثل كثيرين – في حالة ذهول. هذه الكمية من التنوع والتطويع والإتقان والعمق والسيطرة، لا تصدر إلا في حالة إبداع واحترافية جديرة بالإعجاب. وستنظُر إلى مبتكره، ديفيد سيمون، وتقول: «لماذا لا يوجد غيره؟» ولكن الحقيقة أنه قد وُجد غيره، وأنه لولاهم لما كان ديفيد سيمون، ولما كان مسلسل ذا واير.
في عام 1990 ابتكر ديك وولف مسلسل «law and order»، وهو مسلسل جماهيري يدار بعقلية تجارية، أراد وولف أن يبتكر مسلسلا يريك من خلاله طريقة عمل «العدالة» الأمريكية: تبدأ من محققي الشرطة، وتصل إلى المدعي العام، وتنتهي في أروقة المحاكم.
مدة الحلقة ستكون قرابة خمسين دقيقة. أراد وولف أن يكون عمله جماهيريا، بنهاية مرضية وغير متحدية للمشاهد، مناسبة للتلفاز الذي أُوجد ليكون ترفيهيا وغير متحدٍّ. ولكنه رغب أيضا في أن يكون عمله مباشرا ومنخفض النبرة، «understated» كما يسميها ألفريد هيتشكوك. لا ميلودراما، لا عقد، لا شخصيات محققين مهووسين بضحاياهم ومجرميهم. يحوي شيئا من الواقعية، ولكنه أيضا لا يتحدى المشاهد، يرضيه بنهاية تثبت العدالة، ليخرج سعيدا ومطمئنًا لا يخشى أن يفلت قاتله من الحساب في حال تعرض يوما ما للقتل.
ديك وولف عمل كاتبا في مسلسل آخر في الثمانينات، اسمه hill street blues، يغطي ما تقوم به الشرطة في مهامها اليومية، «مسلسل محققين» كما يسمونها، جماهيري وسهل وغير معقد أيضا. وعمل معه في هذا المسلسل كاتب آخر هو توم فونتانا.
لنعد قليلا إلى الوراء. في عام 1988 أصدر ديفيد سيمون كتابه homicide. ينتمي سيمون إلى الصحفيين الذين يغطون الأخبار اليومية في الصحافة الأمريكية. تأثر بصحفيين شعبيين مثل جيمي بريسلين وآخرين أكثر نخبوية مثل توم وولف، وأراد أن يكتب عن شوارع بالتيمور وكأنها مزيج من ضخامة تراجيديات الإغريق وشكسبير وحدّة مدرسة «الواقعية القذرة الأمريكية». والنتيجة أحد أعظم كتب الجريمة الأمريكية.
أرسل سيمون الكتاب إلى باري لَـفنسُن، المخرج الأمريكي الذي صنع أفلاما ناجحة، مثل rain man وdiner، بهدف تحويله إلى فيلم. ولكن باري رأى فيه مسلسلا تلفزيونيا. وبعد عملية معقدة، دخل توم فونتانا على الخط، وبدأت عملية إنتاج المسلسل في العام 1993، تحت مظلة شبكة NBC المتخصصة في إنتاج المسلسلات الناجحة مثل فريندز وساينفلد، مما يجعل قبولها لهذا المسلسل الغريب والمختلف دليلا على رغبة مدرائها التنفيذيين في التجريب، خصوصا في ظل نجاح مسلسلات مثل law and order التي تحاول اختبار عمل الشرطة بشكل أكثر واقعية.
كان لهذا المسلسل أثر كبير، تجاوز التلفاز، حتى أن السينمائي الدنماركي لارس فون تراير – أحد الأسماء المهمة في السينما الأوروبية والعالمية – تأثر به أسلوبيا. الكاميرا المحمولة التي تحوم بين الممثلين. الواقعية في الحوارات. أماكن التصوير الطبيعية. العفوية في التنقل. المباشرة. الحدّة والبعد عن الكليشيهات. بدا المسلسل حقيقيا وواقعيا كما كان الكتاب، وإن كان بشكل أقل جودة. ولكن رغم ذلك، عانى المسلسل جماهيريا، وكان مهددا طوال الوقت بالإلغاء.
عمل ديفيد سيمون كاتبا ومستشارا في هذا المسلسل المقتبس من كتابه.
طيب، لنأخذ لفّة إلى الجانب الآخر قبل العودة إلى سيمون. في العام نفسه، 1993، كانت هنالك قناة صغيرة تدعى HBO، قررت تعميد مسلسل للكوميدياني غاري شاندلينغ، اسمه «the larry sanders show».
لقد أدركت هذه الشبكة أنها لا تستطيع منافسة الشبكات الكبرى في الأعمال الجماهيرية الكبيرة، ولذا فمن الأفضل لها أن تعمّد مشاريع نوعية، تستهدف بها شرائح محددة، وتنجح من خلالها. هذا المسلسل كان غريبا، وجريئا، وشاطحا، في مواضيعه وأسلوبه، وما زال أصيلا وممتازا إلى وقتنا هذا. كاميرا محمولة، كوميديا موقف وليست كوميديا نكت. كتابة تتجنب الكليشيهات قدر الإمكان. شخصيات مكتملة بعيوبها وعقدها.
هذا المسلسل هو الذي صنع إتش بي أو كما نراها الآن، رغم أنه عانى أيضا من التذبذب جماهيريا وكان معرضا للإلغاء أكثر من مرة. ولكنه دفعهم إلى التفكير: هنالك شريحة من الجمهور تريد شيئا مختلفا، لا أحد يعرف ما هو هذا المختلف، ولذا لا أحد يحاول استكشافه. سنحاول استكشافه، وسنعطيهم إياه، ونكسب بذلك هذه القطعة المهمّشة من الكيكة.
ولذا قبلوا في عام 1997 مسلسلا آخر أكثر شطوحا وغرابة، هو OZ. مبتكره هو توم فونتانا، الرجل الأهم في مسلسل «homicide» الذي ما زال يتعرض لتهديد الإلغاء كل موسم. ثم اندفعوا خطوة إلى الأمام وعمّدوا مسلسل «sex and the city» الذي رأوا فيه إمكانية نجاح جماهيري وتجاري، وقد كان. ثم عمّدوا مسلسلا آخر لكاتب مسلسل ساينفلد، لاري ديفيد، هو curb your enthusiasm، الذي يعدّ النسخة الأكمل لمسلسل لاري ساندرز الذي صنع كرة الثلج هذه. وبين هذه المشاريع، عمدوا مشاريع كثيرة باءت بالفشل. ولكنها تُنسى، لأن النجاح يغطي دائما على الفشل.
في ذلك الوقت، ديفيد تشيس كان اسما معروفا في صناعة الإنتاج التلفزيوني الأمريكي. عمل على مسلسلات عديدة، بعضها تجاري بحت، والبعض الآخر ذو صبغة فنية أكثر (مثل northern exposure). تشيس ظل يحلم طوال حياته أن يكون مخرجا سينمائيا، على غرار مثيله الإيطالي الأصل مارتن سكورسيزي، ولكن ذلك لم يتحقق. في عام 1998 كان يبلغ من العمر 53 عاما، ولذا من المقنع أن يقتنع بمصيره، وأن يرى في هذا المسلسل فرصة يستطيع من خلالها قول ما أراد قوله طوال تلك السنوات.
إتش بي أو تعلمت من تجاربها السابقة أن تمكين المبدع من إبداعه هو الطريقة المثلى لتحقيق الأفضل، في ظل رقابة محدودة ومنتقاة تتأكد من الخطوط العريضة: هل هو الشخص الصح، هل لديه فكرة جيدة، هل نستطيع الثقة به إلخ. ولذا وثقت – رغم كل الشكوك والتهديدات – في هذا الرجل الذي أراد أن يصنع قصة عن المافيا بطريقة لم تصنع بها من قبل: إخراج سينمائي، كتابة أصيلة، عنف، مفاجآت، تعقيد وسيكولوجيا. عمل لا يساوم، لا يجمّل الحقيقة، يَظهر فيه زعيم المافيا رجلا بدينا لا يشبه مارلون براندو أو ألباتشينو أو روبرت دي نيرو. سافل، وقح، تحبه وتكرهه في الوقت ذاته. عمل معقد. ولذا: the sopranos، الذي غيّر كل شيء.
لفّة إلى الوراء، لنعود إلى ديفيد سيمون. كان قد استمر في عمله الصحفي، وأصدر كتابا آخر يشبه كتابه السابق، اسمه the corner، بالشراكة مع صديقه إد برنز الذي عمل 20 سنة محققا في شرطة بالتيمور قبل أن يتقاعد ويتجه إلى الكتابة.
هذه المرة، حينما أراد سيمون تحويل الكتاب الذي يغوص في شوارع بالتيمور مرة أخرى إلى مسلسل قصير عام 2000، اتجه مباشرة إلى إتش بي أو، الشبكة التي صارت حاضنة لكل ما هو جريء ومختلف وجديد.
ومع نجاح المسلسل القصير، تبين لإتش بي أو أن هذا الكاتب الصحفي لديه ما يمكن اعتباره قيمة مهمة يجب اقتناصها. استعان سيمون بكثير من الكتاب والممثلين الذين عملوا في law and order وhomicide وthe corner. بل أنه أعطى رجال شرطة حقيقيين أدوارا تمثيلية، وجلب أشخاصا مهمشين من شوارع بالتيمور ليؤدوا أدوارا تشبه شخصياتهم الحقيقية. ولذا: the wire، المسلسل الذي رسّخ إتش بي أو كأهم شبكة تلفاز أمريكية على الإطلاق.
المال والإبداع
اعتدت في الزمانات الجلوس مع مسؤول ذو حظوة وصوت مسموع، يعمل بعيدا عن الإبداع أدبا وفنا ولكنه يحبه ويتعاطاه يوميا. سألني مرة لماذا لا نستطيع إنتاج أفلام بجودة the wolf of wall street؟، بدا سؤاله سطحيا وأحمقا لا يتماشى مع ذكائه واتقاد ذهنه.
سألته سؤالا لا يقل ابتذالا عن سؤاله: ما القاسم المشترك بين ستيف جوبز ومارتن سكورسيزي؟ أعطاني عدة إجابات لم تكن مقنعة حسب رأيي. أما إجابتي فكانت: كلاهما حالم.
التاريخ مليء بقصص رواد المال والأعمال والإداريين الحالمين. أكثرهم نجاحا هو أكبرهم وأجرؤهم أحلاما. الأفكار التي يطرحونها، الغايات التي يستهدفونها، اللغة التي يستخدمونها، توحي أحيانا وكأنهم شعراء، يرون في الحياة ما لا يرى الآخرون، ويفشلون في تجسيد ما يرونه أكثر من نجاحهم، ولكن نجاحهم هو الذي يُذكر بينما يُنسى الفشل، كما هو الحال دائما.
أحدهم يُسأل عن جدوى تنفيذ سوق كبير في الرياض، هل يريده المستهلك أصلا؟ فيرد: سنخلق المستهلك. وكأنه بودلير وهو يكتب «أزهار الشر» ويبدو غريبا للبعض: من سيقرأ هذا الكلام الشاطح؟ ولكن تفكيره كان حالما: سيقرأه شخص لم يكن يدري أنه يريد قراءته.
هذه هي العبقرية: أن تفاجئ الناس. أن تهزّهم. أن تغيّر شيئا فيهم. أن تكسر البحر المتجمد داخلهم كما يقول كافكا.
ولكن لا شيء يصدر من فراغ، كل اختلاق له سياقه، إذا أردنا اختصار النقاش الفلسفي حول مصدر المعرفة وتراكمها والفرق بين المبدع الأصيل والمبدع المقلِّد. أكبر اسمين يبدوان وكأنهما تكوّنا من فراغ في عالم الإبداع، هما امرؤ القيس وشكسبير. ولذا هما مصدر خام، وكأنه لم يكن هنالك شيء قبله ثم صار كل شيء بعده. ولكن هل تكوّنا من فراغ فعلا؟ أم أن التاريخ ابتدأ منهما وليس لدينا ما يكفي تاريخيا لنفهم من أين أتيا؟ أميل إلى الرأي الثاني.
لا شيء ينشأ من فراغ، كل شيء يأتي محملا بـ «الإرث»، كما أسماه جوزيه مورينهو، مدرب كرة القدم الشهير، وكرة القدم شبيهةٌ بصناعة الإبداع رغم غرابة وجدلية هذا التشبيه، فهي فن ومال وإدارة. المدرب الذي تولى تدريب فريق مانشستر يونايتد العريق حاول أن يبرر للصحافيين والنقاد سبب الفشل بأنه ورث تركة معقدة تحتاج عدة سنوات للتعديل وإعادة البناء، وسيكون ذلك حتما على جثث مواسم من الفشل الذي لا مفر منه حتى يتحقق النجاح. فبناء ثقافة جديدة هو أعقد مهمة يقوم بها شخص أو مجموعة ما، لأنها نحتٌ في المجهول واستكشاف في المخاطر، وقد يكون نجاحها الوحيد أنها مهّدت الطريق لآخرين سيحققون النجاح.
التنفيذيون الكبار ورواد الأعمال الراسخين يفهمون هذا التفكير جيدا، يفهمون هذه الجرأة ومخاطرها التي تجعلهم يستثمرون في عشرين مشروعا لن ينجح منها إلا اثنان يغطيان على فشل البقية، ولكن بعضهم لسبب ما يضيعون عن إدراكها حينما نتكلم عن الإبداع، وكأن الإبداع عملية مصنعية تستطيع استحضارها عبر المعدات والدراسة والتقليد. وكأنه شيء لا يُرى إلا عبر نتائجه. ولكن: حينما لا ترى إلا النتيجة، فأنت لا ترى.
اقرأ أيضا: «الغراب»… «الأكشن» يهزم الحبكة ويهبط بالفيلم إلى قاع الدراما