خلال ثمانينات القرن الماضي، كانت السينما المصرية مساحة عمل مدهشة للكاتب الموهوب، تسمح له بالعمل باستمرار وتجريب أشكال وموضوعات ومصادر مختلفة لأفلامه. ولا مثال أوضح لذلك من حالة النشاط الفني التي عاشها وحيد حامد، الذي كان يكتب بلا توقف، ينتهي من فيلم ليكتب ما يليه، ليرى أغلب كتاباته تخرج للنور، آتية بنتائج مختلفة، فمنها من يخرج تحفة فنية تبقى في الذاكرة، ومنها ما يظلمه الإنتاج أو الإخراج فلا يظهر كما تخيّله المؤلف، ومنها ما يعترف المؤلف نفسه بأنه اتخذ قراراتٍ خاطئة خلال كتابتها، كالأفلام التي نتناولها بالحوار في هذه الحلقة من المذكرات السينمائية، والتي عُرضت كلها خلال عام ميلادي واحد.
لكن المدهش في وحيد حامد كان قدرته الفريدة في التعامل مع أخطائه. فبعكس ما توحي به ثقته المتناهية في الذات وإدراكه لقيمته ولقدر الإسهام الذي قدمه للسينما والثقافة العربية، لم يكن يجد غضاضة في الاعتراف بأنه كتب هذا الفيلم تحت ضغط الحاجة المادية، أو استجاب لطلب منتج أو صدق تصورات مخرج فظلم عمله، أو حتى إنه كان من الممكن أن يكتب نفس الأحداث بصورة أفضل. المهم أنه يدلي بتلك الاعترافات دون ندم، بنبرة رجل يعلم أنه أنجز الكثير، وأن الهفوات كانت خطوات في مسيرة تطوره الفني والثقافي، حتى يُشعرك أن الزمن لو عاد به وامتلك القدرة على التغيير، لأقدم على نفس الأخطاء لأنها ما أوصلته لما هو عليه من نجاح وثقة في الذات، وقدرة على التعامل مع أصعب المواقف.
نصل بهذه الحلقة لنهاية الأحاديث المفصلة عن أفلام الثلث الأول من مسيرته السينمائية، وتتبقى حلقة أخيرة تتضمن موضوعات عديدة تتعلق بالسينما والمشوار والكاتب والمجتمع، وجدتها تستحق النشر في حلقة أخيرة، في محاولة ألا تبدو النهاية مبتورة كما هي في الحقيقة.
الثعلب والعنب (1984)
«الثعلب والعنب» فيلم تم نسخ العديد من الأفلام والمسلسلات منه، وبالتحديد من فكرة العامل الفاشل الذي يتنقل من وظيفة لأخري، ولو كان قد تم تنفيذه بصورة جيدة كان سيكون فيلمًا يستحق المشاهدة، لكن المخرج الجيد يأخذ ما كتبه السيناريست فيضيف إليه ويظهره في صورة أفضل، بينما المخرج السيء يفعل العكس، وأحيانا أيضا المخرج الكسول.
فالفيلم أخرجه محمد عبد العزيز، وهو مخرج جيد، ولكنه للأسف تعامل مع هذا الفيلم بكسلٍ شديد، وأهمل في تفاصيل أتت بنتائج عكسية تمامًا عمّا كان مقصودًا بها. ففي الفيلم شخصية الوزير التي لعبها فؤاد المهندس، والذي يفترض أنه يتطير ويؤمن بالتفاؤل والتشاؤم، فيحط غراب على الشجرة المجاورة لنافذته فيتشاءم منه، يحاول صرفه بشتى الطرق فلا يقدر، فيأمر بمنتهى التكبر بإزالة الشجرة لأنه «مفيش شجرة.. مفيش غراب».
فوجئت بالمخرج يختار شجرة هائلة الحجم للتصوير، ثم يأتي مشهد الإزالة فيجعل رجال الوزير يمسكون بمنشار متناه الصغر يشبه منشار الأركيت، ولم يقم بتصوير غراب حقيقي أو حتى إعداده بطريقة الخدع، بل أحضر غرابا مصنوعا من الجبس، الأمور التي حوّلت المشهد من تعبير عن تكبر السلطة لدرجة إزالة شجرة من أجل خرافات، إلى مشهد هزلي يجعل المشاهد يسخر ممن صنعوا الفيلم بأكمله.
نفس الشيء حدث مع شخصية نجوى التي لعبتها آثار الحكيم، والتي يفترض أنها امرأة جميلة متحررة، تثير غيظ مديرها المتشدد فيهاجمها ويطلب منها أن تتقي الله. لكن الممثلة رفضت ارتداء ملابس تكشف ذراعيها، بل ارتدت أكمام طويلة ومغلقة طوال الأحداث، وقامت بلم شعرها بصورة لا ينقصها سوى وضع الحجاب فوقه، فأصبح هجوم الزميل عليها غير مفهوم بالمرة، فكيف يقول لها أن تتقي الله وهي بهذه الصورة؟ هذا أمر لا يفسره المشاهد مجددًا إلا بالسخرية من صناع العمل. وهو أيضًا من الأفلام التي أسقطتها من حساباتي.
في الفيلم أيضا نموذج فانتازي غير معتاد في أعمالك، مشهد المحامي الذي يترافع بقوة فتسقط حوائط المحكمة مثلًا نموذج لخيال واسع أفشله مستوى التنفيذ.
هي فانتازيا بالفعل، كنت أتمنى أن تنال حقها من التنفيذ الجيد.
هل أنت صاحب عنوان الفيلم «الثعلب والعنب»؟ ولماذا اخترته بينما لا يوجد في الفيلم ما يشير إليه؟
أنا صاحب العنوان، ولا يجب أن يكون هناك إشارة من داخل الفيلم، هي حكاية شعبية شهيرة عن الثعلب الذي يرغب في الوصول إلى العنب فوق الشجرة فلا يستطيع رغم كل المحاولات، المشابهة بين الموقف وبين محاولات البطل هي ما جعلتني أختار العنوان.
في الفيلم احتكاك بظاهرة فساد سوق الإعلانات، واستخدام أي ظاهرة للترويج، حتى لو كان نموذجًا فاشلًا مثل مذيع فشل في تقديم النشرة بشكل منضبط.
كان هذا تحذير مبكر إلى حد ما من مصائب الإعلانات التي تسببت اليوم في تشويه مدينة كالقاهرة بصريًا، وإفساد ذوق البشر. وقتها مثلًا كانت إعلانات السجائر في كل مكان، تجعل الجميع يحلمون بأن يكونوا ممتلئين بالوسامة والفحولة كبطل الإعلان بينما يروجون لسلعة مميتة. اليوم تم منع إعلانات السجائر لكن هناك منتجات أخرى لا تقل خطورة، البطاطس المعلبة مثلًا بأشكالها والمشروبات الغازية، هم يروجون لإفساد صحة الناس، مثلما حدث في الفيلم بالضبط.
بعيدا عن الفقر الإنتاجي، هناك مشكلة واضحة في سيناريو الفيلم، هي أنه لا يمتلك أي بناء تصاعدي، ينتقل فيه البطل من وظيفة لأخرى، بصورة تجعل الفيلم قابل للاستمرار لساعتين أُخرتين إذا أردت.
وكان من الممكن أن يصير مسلسلًا، أو أن يمتد إلى مالا نهاية، فالمهن لا تنتهي.
المهن لا تنتهي لكن ألا ترى أن هذا يعيب بناء درامي لسيناريو فيلم؟
لا أراه عيبًا إذا كان هذا ما تقصده من البداية. اختياري هنا كان عرض حكايات من حياة بطل فاشل لا يصلح في أي وظيفة، لأنه ينال هذه الوظائف بسبب الواسطة. هي مادة خامة لإعطاء نماذج وصور، لا أرى أن شكلها قد يكون مشكلة درامية.
التخشيبة (1984)
الأصل في هذا الفيلم حادثة حقيقية وقعت للكاتب السينمائي والتلفزيوني شريف المنباوي، كان من الكتاب المهمين في جيلنا، وكان بوهيميًا جدًا في حياته بالرغم من أنه بدأ حياته وكيلًا للنيابة. الحكاية حدثت له تقريبًا كما ذكرتها في الفيلم بالضبط، لم أفعل سوى تغيير البطل من رجل لامرأة، واستأذنته في أن أكتب الفيلم فوافق بحب وسماحة، بالرغم من أن مؤلف وكان من الممكن أن يتهمني بالسرقة، أو يقرر كتابتها بنفسه وهو حقه.
الفيلم أيضا هو التعاون الأول مع المرحوم عاطف الطيب. وكان الإنتاج الأول للأستاذ جلال زهرة، الذي بدأ حياته كريجيسير. وقتها أخذ البعض في التندر بأن وحيد حامد وعاطف الطيب سيصنعان فيلمًا من إنتاج ريجيسير. شهادة الحق هي أن المنتج وفر للفيلم أفضل إمكانيات موجودة في السوق، بشكل أفضل وأسخى من معظم المنتجين المتمرسين، وأي شخص سيشاهد الفيلم سيلاحظ ارتفاع مستوى إنتاجه عن معظم أفلام الفترة. ووقتها تم استقبال الفيلم بشكل جيد جدًا، حقق نجاحًا وتعامل النقاد معه باعتباره عملًا مهمًا يلفت النظر لمشكلات في النظام القانوني. وأعتبره من الأفلام المهمة في حياتي.
في الفيلم بداية ظهور لقالب سيتكرر لاحقا في أفلامك، هو منطق «قد يحدث هذا لك أيضا»، بمعنى أن البطل يكون شخص مسالم لم يرتكب خطأ، وفجأة يجد نفسه في مأزق هائل، بصورة تثير المخاوف لدى المشاهد بأنه قد يكون معرضًا لنفس المشكلة، طالما ظل سبب وجودها السياسي أو القانوني قائمًا.
هذه حقيقة وليست مجرد قالب درامي. إلى اليوم من الممكن أن يكون مواطن في طريقه للعمل فيوقف كمين شرطة الميكروباص الذي يركبه، ويجد نفسه فجأة متهمًا بجريمة لم يرتكبها. والمشكلة أنه لا يقف وقتها في وجه النظام القانوني فقط، ولكن الأصعب هو الوقوف في وجه المجتمع. أي شائعة أو تهمة باطلة تنتقل بسرعة غريبة، وأحيانًا تجد الناس كلها تعرف شائعة عن شخص ما، بينما هو الوحيد الذي لا يعرف هذه السمعة لأن أحدًا لا يصارحه بما يقال عنه. وفي المقابل الكلام الجيد لا ينتقل بنفس السرعة. الناس لديها ميل لتصديق الشاذ من الأوصاف وتجاهل الجيد والحقيقي.
ليس فقط الناس، ففي الفيلم كما سيتكرر لاحقا في أعمال أخرى مثل «ملف في الآداب»، ذلك المثلث المكون من كلام الناس ونظرة الدولة للمواطن وما يقوله الإعلام. ثلاث قوى تضيق الخناق حول كل متهم، حتى لو كان مظلومًا.
هذا يحدث أيضًا حتى يومنا هذا، الإعلام يسعى للفضائح والغرائب ويعلنها على الملأ ثم يتجاهلها، حتى لو ثبت خطأ ما أذاعه، يتعامل مع قضايا الرأي العام على طريقة العاهرة، التي يهتم بها الرجل حتى يقضي منها وطره فيأمرها بالمغادرة فورًا.
هذا عن الإعلام، أما عن نظرة الدولة والقانون، فالفيلم يطرح قضية مهمة، هي أن بعض القوانين نواياها طيبة، لكن تنفيذها بحذافيرها يظلم بعض الناس، لدرجة أن المحامي يقول للبطلة «هو فيه حد بيقول الحقيقة في أقسام البوليس؟». بمعنى أن الإنسان الشريف مضطر للكذب على النظام القانوني، الذي يفترض أنه موضوع لضمان حقوقه هو بالذات.
الإجابة إذن هي روح القانون وليس نصّه.
كان هذا سؤالي التالي، عن تنوع نماذج الضباط ووكلاء النيابة في الفيلم، فمنهم من يتمتع بروح القانون ويتفهم مركز البطلة ومأزقها، ومنهم من يتعامل مع نص القانون ويرفض منحها أي استثناء. لا يمكن أن تلوم الثاني لأنه في الواقع يلتزم بالقانون ولا يريد تعريض نفسه لمشكلة.
الثاني ببساطة هو زافير ضابط «البؤساء» الشهير، الذي عاش حياته يطارد جان فالجان لأنه سرق رغيفا يأكله. في نص القانون هي جريمة، لكن في روحه يمكن التغاضي عنها، بل ومساعدة من ارتكبها بدافع الحاجة والجوع. أنا نفسي تمتعت ذات يوم بروح القانون. كنت شابًا في العشرين أحاول نشر ما أكتبه، أرسلت قصة قصيرة لجريدة لبنانية اسمها «المحرر» كان رئيس تحريرها الراحل غسان كنفاني. ذهبت لبائع جرائد في ميدان الأوبرا كانت تأتيه الصحف اللبنانية واشتريت الجريدة، لأجد قصتي منشورة على الصفحة الثالثة بالكامل. سرت منتشيًا بنفسي أقرأ فيها ونسيت أن وقتها كان من يعبر الشارع من غير مكان المشاة يدفع غرامة كبيرة، وإذا بشرطي عملاق اسمه أبو الدهب يمسك في بعنف كي أدفع الغرامة. أخذتني نشوة الكاتب المعروف فدفعته ليتحول الأمر لمشاجرة انتهت بأخذي للقسم.
في الظروف العادية وطبقا للقانون كنت سأقضي الليلة في التخشيبة. لكن لحسن حظي كان المأمور متفهمًا سمع الحكاية وشاهد قصتي في الصحيفة، ثم طلب مني أن أغادر القسم بلا مشاكل وكأن شيئًا لم يكن. مواقف كهذه تعلق في الذهن وتتحول لمخزون داخل الكاتب، يظهر فجأة على الورق دون أن تنتبه.
نعود للفيلم، وتحديدًا لشيء أراه مبالغًا بعض الشيء، وهو رد فعل زوج البطلة وشقيقها، اللذان صدقا ما قيل عنها وتركاها تمامًا، على الرغم من أنهما يفترض أن يكونا أكثر من يعرف أخلاقها، بينما كان المحامي هو الوحيد الذي صدقها وتعاطف معها. ألا ترى هذا غير مقنع قليلًا؟
هناك أمر واحد يحدد تقييم التصرف، هو ببساطة ارتباطه بالشرف والعرض. لو كانت البطلة قد اتهمت بالسرقة فقط كانا سيقفان معها ويرفضان التهمة تمامًا، لكن لأن التهمة كانت السرقة من شخص مارست معه الجنس، فهي تهمة تمس شرفهما عادةً ما تأتي ردود الأفعال عليها بهذه القسوة.
من حرفة كتابة السيناريو في «التخشيبة» التلاعب بالأمل الزائف، السيناريو عبارة عن سلسلة من لحظات أمل تمنحها للبطلة، ثم ينسحق هذا الأمل بمفاجأة، قبل أن يظهر أمل آخر ثم يذهب، وهكذا للنهاية.
هي العقبات المتتالية، ولم أكتبها وأنا أعي أنها من صميم الحرفة، فوقتها كنت في بداية حياتي ومهارتي تأخذ في التطور. كنت استخدم هذا البناء فطريًا لأنه يضيف عنصر التشويق على السيناريو. وعموما الأمر مستمد من تراث الحكايات الشعبية كلها، فكل الأبطال يواجهون صراعات وعقبات متصاعدة يتزايد الخطر فيها بالتدريج، وهي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن تصنع البطل، فعقبة واحدة أو صراع واحد لا يكفي لتعميد بطل درامي.
بنات إبليس (1984)
عشقي لرواية جورج شحادة هو ما دفعني لأن أحولها في البداية لمسلسل إذاعي، ثم إلى فيلم. وكلا العملين مقرب لقلبي، وأعتبرهما من الأعمال التي أفخر بها. الفيلم كان أول إنتاج للسيدة زيزي مصطفى التي كانت راغبة في دخول مجال التمثيل والإنتاج، وأعتقد أنها وفرت للفيلم إمكانيات جيدة، وهو عموما فيلم لا يحتاج لميزانية إنتاج كبيرة.
قبل الدخول في تفاصيل الفيلم أريد أن أسأل عن أمر جانبي. كثيرا ما حوّلت مسلسلات إذاعية ناجحة إلى أفلام، لكنك لم تقم أبدا بالعكس، أي تحويل فيلم إلى مسلسل، رغم أنها ممارسة أصبحت شائعة في الأعوام الأخيرة، لماذا؟
عندما بدأت كان العرف قد جرى منذ عقود، وبالتحديد منذ المسلسل الشهير «سمارة»، أن المسلسل الإذاعي الناجح يتحول إلى فيلم سينمائي. مسلسلاتي كانت تلاقي نجاحًا كبيرًا بالرغم من بداية زحف التلفزيون وتناقص شعبية الراديو، لذلك كان المنتجون يسعون دائما لتحويلها لأفلام، وكانوا يفعلون ذلك وهم سعداء بأن الفيلم تمت الدعاية له قبل أن يُصنع، ويمتلك بالفعل أرضية جماهيرية ممن استمعوا للعمل في الإذاعة أو سمعوا بنجاحه. لكني لم أسع أبدًا لهذا التحويل، ولا أعتقد أني فكرت في القيام بالعملية العكسية.
لم أقرأ نص جورج شحادة، هل تدور أحداثه أيضا في قرية صيادين؟ أم أنك قمت بتغيير موقع الأحداث؟
قمت بتغيير الموقع، الرواية تدور في جزيرة إيطالية معزولة، فكان من الطبيعي أن أترجمها لمكانٍ ناءٍ ومعزول، يعرف سكانه بعضهم البعض جيدًا، فكان اختياري هو قرية الصيادين.
ما أريد قوله هو أن اختيار المكان لم يحقق فقط شرط العزلة، لكنه ربط الدراما بفكرة القدرية، وفي الفيلم شخصيات تتحدث عن كون عملهم يرتبط برزق البحر ورضا الله عن أفعالهم؟
لا أدّعي أني كنت واعيا بهذا البعد. أحيانًا كثيرة ما تكتب أشياء تخرج من عقلك بشكل تلقائي فتعطي للحكاية أبعادًا أكبر، هذا يرتبط برأيي بثقافة الكاتب وخبراته وما هو مشحون به من أفكار وذكريات، وكلها أمور تدفع تفاصيل كهذه إلى الورق، حتى لو لم يقصدها الكاتب.
في سيناريو الفيلم أمرين يمكن الإشارة لجودتهما، الأول هو التنوع بين رسم شخصيات الزوجات المتهمات في شرفهن، وكذلك أزواجهن. والثاني هو أن رد الفعل الأول للجميع هو رفض الاتهام، قبل أن تبدأ أفكار ثانية في الظهور في ذهن كل منهم حسب تكوين شخصيته.
تنوع الشخصيات كان ضروريًا لصناعة دراما. أما تغير الموقف فيدفعه محركان هما إغواء المال والشك، المال الذي يدفع الطمّاع إلى تمني الحصول على الكنز حتى على حساب شرفه، والشك الذي يجعل رجلًا يصدق أن ابنه قد لا يكون من صلبه. ولا تنس بجانب هذا عنصر السلطة الممثلة في كبير القرية فريد شوقي. وعمومًا الأعمال الجيدة عادةً ما تطرح أكثر من فكرة أو قضية، لكن دون قصدية، فلا يوجد من يأخذ قرار بالكتابة عن الشرف أو الأخلاق، الكاتب يحكي حكاية وفيها تظهر كل الأفكار.
أعتقد أن هذا تعميم غير دقيق، ففي الفن عموما نلاحظ نوعين من الأعمال، أحدهما هي الحكاية التي يتبلور داخلها فكرتها أو طرحها، وهناك الأعمال المنطلقة من الرغبة في مناقشة قضية أو لنقل طرح رأي أو فكرة حاكمة.
بالتأكيد هذا يحدث، فأعمل مثل «الغول» أو «طيور الظلام» لا أدعي أنني لم أكن من اللحظة الأولى أعلم أن هدف الفيلم هو الاصطدام بالفساد أو الجماعات الإسلامية وفاسدي الدولة، لكن تظل هذه مجرد نوعية بينما الأساس هو الرغبة في الحكي. وفي كلا الحالتين عادةً ما يجرب المؤلف تغيير المسار، فكثيرًا ما أبدأ كتابة سيناريو فأجد نفسي أكتشف خلال الكتابة مسارًا أفضل مما كنت أريده من البداية، سواء على مستوى الهدف والمضمون أو على مستوى المعالجة وكيفية الوصول لهذا الهدف.
كالعادة، أفراد المجتمع في «بنات إبليس» يتعامل بقسوة مع الموصومين، متجاهلين حتى الخبرات الشخصية ومعرفتهم باستقامة السيدات المتهمات في شرفهن.
في الظروف المشابهة لا يشفع لك ماض ولا حاضر. تنقلب حتى أخلاقك الحسنة ضدك، فبدلًا من أن يرفض الناس التصديق وفقًا لسيرتك، تجدهم بغرابة يقولون «مكانش باين عليه.. كنّا فاكرينه طيب»، وهو رد فعل غريب وقاس.
من أفضل مشاهد الفيلم مشهد الاعتراف المزعوم، عندما تقول زيزي مصطفى أنها ستعترف فينتظر كل سكان القرية، لتأتي لهم والكاميرا تراقبها من البداية للنهاية، لتقوم على العكس بتبرأة نفسها. هذا مشهد ممتاز بالرغم من طابعه المسرحي.
وجود المسرح في السينما ميزة وليس عيبًا كما يدعي البعض. أعظم الأفلام كثيرًا ما تجد فيها مشهد يأخذك بالكامل تكتشف إذا حللته أنه مشهد مسرحي الطابع. لهذا لا استجيب للأقوال السائدة الرافضة للمشاهد المسرحية، بل أتعمد في كثير من الأفلام استخدام مشاهد مسرحية مع توظيفها في اللحظة المناسبة. ولا تنس أن لهذه المشاهد ميزة مهمة هي إشباع الممثلين، الذي يحتاجون من حين لآخر إلى مشهد ينالوا فيه فرصتهم الكاملة في التمثيل. مشهد مثل مواجهة عادل إمام ورياض الخولي في «طيور الظلام» مشهد مسرحي تمامًا، لكنه مشهد ممتاز في رأيي، لأنه ببساطة يمنح ممثلين ممتازين فرصة للمبارزة بالأداء، والجمهور يحب هذا ويريده.
على النقيض من مشهد الاعتراف هناك مشهد بالغ السوء في الفيلم، هو مشهد الابن القادم من القاهرة، الطفل ممثل سيء، ولغة المشهد تقريرية جافة بعيدة تمامًا عن الجو العام للعمل كله.
موافق، أحيانا ما تفلت من يدك بعض التفاصيل، منك ومن المخرج والممثل والجميع، ذلك يحدث دون أن تدري ولا تدركه إلا في النهاية، وعليك أن تحترم إمكانية حدوث ذلك دائمًا.
لا أتحدث عن خطأ تنفيذي هنا، ولكن حتى عن دخول شخصية غريبة على عالم الفيلم القوطي المغلق. فنفس رأي الابن تقريبًا بالاعتراف زورًا للحصول على المال يقوله سعيد صالح، لكنه يأتي منه مؤثرًا بل ومخيفًا.
هذا فرق بين خبرة وموهبة ممثل وآخر.
مجددًا لا أقصد الممثل، ولكن فكرة استحضار شخصية من خارج العالم لا يحتاجها الفيلم.
أعتقد أن هذا كان خطأ، والخطأ وارد.
آخر الرجال المحترمين (1984)
كتبت هذا الفيلم وأنا مضطرب، لأسباب شخصية تتعلق بحياتي في ذلك الوقت، لذلك فمن الممكن أن تجد بعض الاضطراب في بناء الدراما به، وأعتقد أني لو كتبته في ظروف أفضل كان مستواه سيأتي أفضل بكثير. ولكنه رغم ذلك فيلم جيد وناجح، حاولت فيه التأكيد على قيمة حمل الأمانة، ولا توجد أمانة أعظم من حياة كائن بشري. وأردت الخروج من أزمة الأستاذ فرجاني الآتي من مجتمع قروي ليصطدم بفقدان طفلة في مدينة مخيفة كالقاهرة، إلى الدخول في عالم عشوائيات القاهرة وأحياء الغجر والزبالين.
نبدأ الحديث من شخصية الأستاذ فرجاني، المعلم شديد المثالية، وهي شخصية بعيدة تمامًا عن عالمك وشخصياتك المعتادة، والتي نادرًا ما نجد لديها هذا القدر من المثالية. لماذا اخترت هذه الشخصية؟
الأستاذ فرجاني هدهود شخص حقيقي، كان معلم اللغة العربية الخاص بي خلال المرحلة الثانوية، وكان شخصًا مثاليًا بالفعل، ترك في حياتي بصمة واضحة، خاصة أننا في القرى كنا نكن تقديرًا خاصًا للمعلمين، وكان شخص مثل الأستاذ فرجاني هو من يتوسط بين التلاميذ وآبائهم عند وقوع أي مشكلة أسرية. بل أن أحمد المعلمين كان له دورًا في رسم مسار حياتي، عندما توسط لدى والدي ليقنعه أن يدعني أكمل دراستي الثانوية، وكانت رغبته مثل معظم الفلاحين أن أنتقل بعد الإعدادية إلى مدرسة المُعلمين لأتخرج منها وأصبح مُدرسًا في مدرسة القرية.
ما أريد قوله إن الشخصية المفرطة في المثالية، التي تتحمل الأعباء وتدفع من جيبها، وتضع سلامة الآخرين كأولوية يجب الدفاع عنها، هي شخصيات موجودة في الحياة وقابلناها بالفعل.
أعلم أنهم موجودون لكنهم لا يشبهون شخصيات وحيد حامد.
لا يشترط أن تتشابه كل الشخصيات، هناك تجارب مختلفة تتطلب نوعيات بعينها من الشخصيات.
لكن هذا الاختيار أدى إلى عدم تعرض بطل الفيلم لأي رحلة داخلية، وظلت محنته طوال الفيلم من الخارج، لا يتعرض ولو للحظة شك فيما يؤمن به، ويخرج من الفيلم على نفس الحالة التي دخله بها.
هذا مقصود، أن يكون شخصًا مثاليًا، لكنه ليس صانعًا للأحداث، الأحداث تقع حوله ويحاول أن ينجو خلالها بنفسه وبما يؤمن به، أو بعبارة أخرى هو مرآة لمن حوله يظهر في أخلاقه ما يفتقده الغير.
شخصية المرأة التي اختطفت الطفلة أيضا لا تتعرض لتغير، لكنها بدأت الفيلم من نقطة مرتفعة دراميًا بعد فقدانها لابنتها.
هناك اعتراف بخصوص هذه الشخصية التي لعبتها الفنانة بوسي، وهي أن اختيارها للدور كان سببه قيام زوجها نور الشريف بإنتاج الفيلم وبطولته، ورأيي أنها لم تكن أنسب اختيار للدور، فقد كانت في وقتها صغيرة في السن ونجمة محبوبة، بينما كنت أرى الشخصية أكبر في السن وأقل جمالًا وأكثر توترًا بسبب أمومتها المفقودة، وكان الاختيار المثالي في نظري هي محسنة توفيق، لكن ما حدث أن بوسي لعبت الدور، وبالطبع أثّر مظهرها وانطباع الناس عنها في الصورة النهائية للشخصية.
يظهر في الفيلم عالما الغجر والزبّالين (جامعي القمامة) المتواجدين في الفيلم، وبخلاف أنها عوالم غير معتادة على شاشة السينما، هل تعمدت إظهارهما أنهما على الرغم من معيشتهما على الهامش وأحيانا خارج القانون، إلا أن كل عالم منهما يتمتع بنظام داخلي قد يكون أكثر عدالة من القانون نفسه؟
بالطبع، وهذا ما يحدث بالفعل في المجتمعات من هذا النوع، الغجر والبدو المجتمعات القبلية تمتلك نظامها الخاص المختلف تمامًا عن القانون الذي يسري علينا في المدن. هناك العرف أقوى من القانون، ولكل شخص كبير يمكن الرجوع إليه يعرف كل كبيرة وصغيرة عمّن هم أسفله، لهذا فنشّال مثل علي الشريف يبدو أكثر تعاطفًا واستعدادًا لمساعدة فرجاني أكثر من الشرطة نفسها.
موقف الشرطة دفعني لمقارنة مع فيلم شهير هو «حياة أو موت» لكمال الشيخ، مقارنة تبرز تهاوي قيمة المواطن في خلال 30 عاما تفصل بين الفيلمين إلى درجة التعامل مع حياة طفلة باستخفاف كما نرى في «آخر الرجال المحترمين».
القانون غريب جدًا في هذا الأمر، فهو ينص أن أهل الطفل لا يحق لهم إبلاغ السلطات باختفائه إلا بعد مرور 24 ساعة كاملة، والسبب هو أنه قد يظهر! سبب واه ومضحك، معناه أن يظل أهله على نار ليوم كامل، وهو طفل قد يموت أو تحدث له كارثة في لحظة واحدة. لهذا أدرجت في الحوار حكاية حقيقية عن اهتمام السلطات الدنماركية بفقدان ابنة أحد الخبّازين كصورة إيجابية نحتاج لتواجدها.
من الأشياء الجيدة التي يرسخها الفيلم هي أن الجميع يتحولون لمساندة فرجاني عندما يشعرون بنبله وتفانيه، حتى من كان منهم يعامله باستخفاف في البداية.
صدق النوايا أمر يمكن الشعور به دائمًا، ويصعب على الإنسان ألا يتعاطف من يلمس صدق نواياه.
اقرأ أيضا:
وحيد حامد يتذكر (1): الحكاية والفيلم الأول
وحيد حامد يتذكر (2): النجاح الكبير والتعلم من الأخطاء
وحيد حامد يتذكر(3): الإنسان يعيش مرة واحدة.. أول الأفلام الكبيرة
وحيد حامد يتذكر (4): حلقة خاصة عن الاقتباس ومراحل العمر ودروس الفشل