يحتل المخرج المغربي أحمد المعنوني مكانة خاصة بين المخرجين العرب على الرغم من قلة أعماله السينمائية، إذ أخرج المعنوني تسعة أفلام خلال رحلة فنية عمرها نحو 45 عامًا، إلا أن تلك الأفلام كانت ضيفة دائمة على أهم المهرجانات السينمائية العالمية، إضافة إلى بصمته الخاصة في السينما الوثائقية العربية باعتباره من روادها، ويتجلى أثره إلى جانب كل هذا في الأفكار العميقة التي يعبر عنها في تجاربه المختلفة.
في حوار مع «فاصلة»، تحدث المعنوني عن تجربته السينمائية وفلسفته في التعامل مع السينما الوثائقية، وطريقة تحضيره لأفلامه المختلفة، بالإضافة لكواليس خروج أفلامه الأولى وعلاقته بالمخرج والمنتج العالمي مارتن سكورسيزي، الذي ذكر اسمه في مذكراته السينمائية.
كيف أثرت فترة الطفولة والنشأة في الدار البيضاء على مسيرتك السينمائية؟
– الدار البيضاء مدينة كبيرة جدًا، فيها أحياء متعددة. ومسقط رأسي هو حي درب سلطان القريب من القصر الملكي، لذلك يسمونه درب سلطان. هذا الحي يتميز بأنه حي شعبي متواضع، ليس فقيرًا وليس غنيًا، وبه عدة مدارس، وهو حي منفتح جدًا للدراسة، وليس مثل أحياء الطبقة العاملة. هذا المزيج الخاص أنجب للمغرب كثيرًا من الفنانين والمثقفين في ذلك الوقت. كان شغفي هو القراءة منذ نشأتي، فصرت أقرأ كثيرًا. أربع سنوات وأنا أقرأ. ورغم وجود السينما بطبيعة الحال في المدينة، إلا أن عائلتي لم يكن لديها اهتمام بالسينما. أول مرة شاهدت فيها فيلمًا في السينما كان عمري 12 عامًا، وكان فيلمًا أميركيًا غربيًا بطبيعة الحال. ذكرياتي عن هذا العرض غارقة في الضجيج، أتذكر الكثير من الضجيج، لأن الشباب عادةً كانوا يعرفون قصة الفيلم، حيث شاهدوه عدة مرات، فكانوا يتفاعلون مع الهنود الحمر الذين يشقون الجماجم ويسبونهم، ثم يأتي البطل الأبيض على حصانه.
لم تدرس السينما أكاديميًا وتوجهت لدراسة الاقتصاد على الرغم من تعلقك بالسينما منذ الطفولة؟
– نشأت يتيمًا، وكان شرط خالي الذي عارض انخراطي في النشاط المسرحي في الدروس المسائية هو التخصص في دراسة أكاديمية بعيدة عن مجال الفنون، وكان يرغب في رؤيتي طيارًا. وبالفعل، درست الاقتصاد في باريس، لكن بعد أن حصلت على الدبلوم أخبرته بأنني أصبحت حرًا، وسأعمل ما أحب.
استقبل فيلمك الأول «اليام اليام» 1978 بحفاوة كبيرة، وشاركت به في مهرجان كان. وبعد مرور أربعة عقود، لا يزال الفيلم يتلقى الحفاوة. كيف جاء التحضير لهذا العمل الهام وقتها؟
– الفضل يرجع إلى أستاذ لي في معهد السينما في بلجيكا في بروكسل اسمه جيلان كلوكيه، لأنه ساعدني في التفكير فيما وراء الأشياء. ففي أوائل السبعينيات، بدأت ظاهرة الاهتمام بالمهاجرين في أوروبا وكانوا غالبًا من المغاربة. كان الأوروبيون يدرسون المهاجرين وكأنهم قبيلة غريبة ويكتبون كثيرًا عنهم. أردت أن أعرف ما وراء هذا المهاجر، فهذه ليست هويته الحقيقية، بل كان شخصًا آخر. تلك الرغبة في استكشاف ما وراء الأشياء الواضحة كانت الدافع الأول لاهتمامي بالأمر. ذهبت إلى المغرب وزرت عمالًا في المزارع وتكلمت معهم. فترة البحث كانت قوية جدًا ومهمة جدًا في الأفلام الوثائقية، فهي التي تعطيك أهلية للتحدث عن الأمر.
لكن فكرة التوثيق في تلك الفترة لم تكن منتشرة ولم تكن فرص عرض الأفلام الوثائقية كبيرة، ألم يؤثر هذا في اختيارك؟
– لم أفكر وقتها أين سيعرض، كان اهتمامي أن أعطي الكلمة والصورة لهؤلاء الأشخاص الذين بدّلوا هويتهم ولم يصبحوا عمالًا في المزارع بأوروبا. كلهم حصلوا على لقب مهاجرين، ولكن لم تكن هذه الحقيقة. كانت رغبتي أن أعطيهم الفرصة ليظهروا حقيقتهم. لكن لم يكن ذلك سهلًا، وكان لابد من بحث وتعرف حقيقي، فأنا لم أكن أعرفهم.
هل يعود اختيارك لتوثيق حياة المهاجرين في ذلك الفيلم إلى فضول شخصي لديك؟
– كان هناك وقت طويل للبحث والكلام مع الأشخاص بمختلف ثقافاتهم ومستوياتهم. مرّت سنة وأنا أذهب وأمشي، فلما وصلت إلى معرفة حقيقية بالموضوع، كان لدي الجرأة لتقديم الفيلم الوثائقي بالطريقة التي بدأته بها. وفي الوقت نفسه، كنت أحتاج إلى جعله روائيًا لأنه يعرض الحقيقة التي وصلت إليها. لذا اخترت الممثلين من العمال ليُمثّلوا أدوارهم الحقيقية أو أدوارًا قريبة منهم.
هل تصنفه كفيلم وثائقي، أم وثائقي درامي؟
– سؤال صعب جدًا. أنا أسميه دراما، ولكن البصمة الوثائقية قوية جدًا. وعندما نفذت الفيلم، كنت أعتقد بأن أفضل طريقة لسرد القصة هي أن يمثلوها، وهذا هو سر العمل. من السهل جدًا أن تكون مثل الذي يستخدم الدمى، فلديك تقنيات وتأمر الجميع كيف يتكلم ويجلس، ولكن أن تعمل على الاستفادة من كل شيء حولك لتقدم موضوعك من خلال أكثر الناس قدرة على التعبير عنه، فهذا أمر مختلف تمامًا. سأعطيك مثالًا: إذا أردت تصوير حقيقة الواقع حولنا، سأصور ولو كادر، والفيلم مجموعة من الكوادر. إذا كان لدي عشرون ألف كاميرا، لن أستطيع تصوير حقيقة الواقع. وهنا يكون الاختيار نوعًا من التلاعب، فلابد أن يكون الاختيار معادلة شاملة لكل ما في الواقع بشكل مصغر مع إعطاء كل شيء قيمته. لذا أقول دائمًا للطلبة ولأي شخص: اصنع فيلمًا ببصمتك أنت، فهذه الحرية. إذا لم يكن هناك قيود، يدخل العمل إلى القلب. تذكر أنك حر.
حين قدمت الفيلم، هل كان هناك سيناريو في رأسك، أم بدأت التصوير من دون سيناريو محدد؟
– أهم شيء هو الاعتراف بأنك لا تعرف شيئًا عن الريف والعمال. هذا أهم شيء؛ عندما تعترف بذلك، فهذه بداية المعرفة، والطريق إلى المعرفة طويل، وهو الذي يعطيك أهلية للتحدث عنه. تعلّم لكي تصل إلى تلك المحطة لتقول إنك خبير ولديك الحق في التحدث. بعدها، من السهل أن أذهب بجهازي أو قلمي وأكتب، وفي ذهني احترامًا للحقائق التي صرت خبيرًا بها، وللعمال في المزارع الذين تعرفت عليهم. وهذا ما فعلته.
لنتحدث عن فيلمك الثاني «الحال»، وهو من أوائل الأفلام التي تطرقت إلى الموسيقى في العالم العربي بشكل وثائقي. هل كان لديك خطة للتعامل بشكل مختلف عند تقديم الفيلم عام 1981؟
– تعرفت على عضو من فرقة «ناس الغيوان» خلال فيلمي الأول «اليام اليام»، لأن أغنية «فين غادي بيا خويا» لـ «ناس الغيوان» هي التي أعطت عنوان فيلمي الأول، لأنها تتحدث عن الأيام القديمة وكيف كانت مرة، فهي التي ألهمتني عنوان فيلمي الأول. وصارت علاقة مع المرحوم العربي باطما، وهو أحد أعضاء الفرقة. وعندما جاءت لي المنتجة وطلبت مني تصوير حفلة للفرقة، قلت لها إن «ناس الغيوان» يستحقون أكثر من حفلة واحدة. هم ظاهرة كبيرة في أواخر السبعينيات والثمانينيات بحجم «ذا رولينج ستونز» و«البيتلز» في المغرب والعالم العربي. كانوا معروفين حتى في بغداد.
كيف تعاملت مع التحضيرات؟
– قمت بنفس العمل الذي فعلته مع العمال في المزارع. تعرفت على كل شخص لفترة طويلة، رافقتهم في الجولات من دون تصوير كي أصل إلى المعرفة، ويكون لدي الحق في التحدث عن «ناس الغيوان» وأن أكتب عنهم. وكان أمامي خياران: الأول هو الفرجة ومتابعة ما يقومون به، والثاني هو أن بناء السيناريو عبر البحث عن الجوانب الاجتماعية وحياتهم وجذور الموسيقى التي يقدمونها، وهو ما اتبعته.
ما هي تفاصيل هذه الفرقة التي شجعتك على الخوض في تقديم عمل سينمائي عنهم؟
– بدأت الفرقة في الدار البيضاء. كلهم ينتمون إلى حي المحمدي في المدينة، وهو حي فقير للعمال الذين جاءوا من البادية والريف إلى المغرب للعمل بالمصانع. هذا الحي معروف جدًا، لأنه حي المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. فكان هناك مخرج مسرحي، هو الطيب الصديقي الذي أسس الفرقة المسرحية ورغب في انضمام الشباب إليها من تلك الأحياء. فجاء هؤلاء الشباب الذين لم يكونوا مغنين ولا ممثلين، فقط جاؤوا لاستكشاف شيء غريب عنهم. فبدأ الطيب الذي كان هدفه توثيق وتقديم التراث الشعبي المغربي، بجمعهم من الأحياء المختلفة، لأنه عرف أن كل شخص لديه تراث مختلف. بالفعل، كانوا حافظين الكلمات ويرددون تراثهم القديم الذي كان يمكن أن يُنسى في ذلك الوقت. لم يكونوا فخورين بمنطقتهم أو حيّهم، فهو حي فقير، ولكن في المسرح استكشفوا أن هذا التراث كان أشبه بالكنز. بدأوا يتعاونون مع هذا المخرج المسرحي، فبدأت فكرة قدرتهم على الصعود فوق الخشبة وأن يمثلوا ويغنوا، ومن هنا جاءت فكرة الفرقة الموسيقية.
يعتبر الفيلم مقطوعة شعرية سينمائية خالصة توثق حالة المغرب في ذلك العِقد الثوري، عقد الستينات. فهل كان هذا ضمن مقاصدك؟
– التوثيق أمر بالغ الأهمية، لأنه يعطينا فرصة للتعرف على أنفسنا. التوثيق مثل الأكسجين، صعب جدًا أن نشترك في هذا العالم إذا لم يكن لدينا توثيق لهويتنا وتاريخنا وتراثنا وثقافتنا.
قدمت وثائقيًا حول حياة الملك محمد الخامس عبر 3 أجزاء. كيف يختلف عملك لتوثيق شخصية سياسية عن عملك في أي وثائقي آخر؟
– الاحترام والوفاء في تجربة التوثيق لا يكون للشخص، بل للمصداقية. هذا هو أهم شيء. ثانيًا، هناك اختيارات عديدة، لأن بالكتابة والإخراج السينمائي الوثائقي عرضة للتلاعب والتدخل من المخرج إلى حد قد يفسد أمانة العرض، ولكن إذا كانت لديه هذه الرؤية عن المصداقية والوفاء، فالأشياء تصبح أيسر كثيرًا وعلى المخرج ألا يقع في في فخ الملل أثناء العمل على توثيق الشخصيات.
قادَت الصدفة سكورسيزي لمشاهدة فيلمك لتبدأ علاقة بينك وبين هذا المخرج الكبير. هل يمكن أن تحكي لنا كيف جاء قراره بترميم فيلمك وتقديمه عبر مؤسسته؟
– فيلم «الحال» عُرض لأول مرة في مهرجان كان 1981، واشترته وقتها شركة صغيرة في أميركا تُسمى «كابل تي في»، اشترت حقوقه بقليل من المال ليعرض في قنوات الكابل.
بعد مهرجان كان، تم اختيار الفيلم ليقدم في مهرجان نيويورك، فقدمت الفيلم هناك. في نفس الوقت، كنت هناك ولم أكن أعرف أن الفيلم يعرض على قنوات التلفزيون، وبعد بضعة أسابيع تقريبًا حدث هذا اللقاء الجميل بين المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي وفيلم «الحال» Trances. كان في غرفة فندق يعمل على فيلم «ملك الكوميديا». كان مريضًا وانتابه الأرق، فشغّل التلفاز وفوجئ بأصوات وإيقاعات لا يعرفها، أشياء غريبة أصابته بالهوس. شاهده مرتين ونصف، حسب قوله، كان الفيلم يعرض باستمرار. كان يكتب في نفس الوقت سيرته الذاتية في كتاب بعنوان «مسرّاتي كسينمائي». لم تمر سنة وكنت في مهرجان كان، ودخلت إلى إحدى المكتبات واشتريت الكتاب دون أن أعرف أنه كتب عن فيلمي وعن تلك الليلة التي شاهدها فيه.
وبم شعرت عندما قرأت الكتاب ووجدت ما كتبه عن فيلمك؟
– تخيل أن يكون شخصًا من القمر كتب كتابًا، وتجد الكتاب به اسمك ويتحدث عنك. اشتريت الكتاب، كان ذلك في شهر مايو. في ديسمبر 1982، وجدت رسالة هاتفية صوتية تقول: «أهلًا أستاذ أحمد المعنوني، أنا مارتن سكورسيزي وأحب أن أقابلك. أنا الآن في باريس وأريد مقابلتك بخصوص فيلمك الجميل عن (ناس الغيوان). أنا في فندق ريتز بباريس». عندما سمعت هذه المكالمة، سمعتها تقريبًا بعد أن سُجلت بأسبوعين، لأنني كنت في سويسرا. كلمت الفندق، وكان قد سافر. ولحسن الحظ، بعد شهرين تكلمنا. هذا شيء جميل جدًا، وهو الوفاء لأحاسيسنا. في حياتنا اليومية، لدينا إحساس ونعجب بأشياء ونتأثر بأشياء. فتخيل بعد 27 سنة، عندما أسس مؤسسة لترميم الأفلام، كان وفيًا لذلك الإحساس في تلك الليلة، فأول فيلم اختار أن يرممه هو «الحال». كان إنسانًا مشغولًا جدًا، ولكن التقينا ساعة كاملة. وإلى الآن، تربطنا علاقة طيبة وحميمية.
تقع الوثائقيات العربية في فخ التشابه مع التقارير التلفزيونية والإخبارية، لكن مؤخرًا ظهرت تجارب مختلفة ومتطورة. أين تكمن المشكلة من وجهة نظرك؟
– السر هو الكتابة. إذا لم يكن هناك بحث وكتابة والسعي في طريق المعرفة لتصبح خبيرًا ولديك حق التحدث في موضوع، وألا تكون في الخارج تعرف أشياء يعرفها أي شخص. الفيلم الوثائقي عمل جبار، وكتابة الفيلم الوثائقي أصعب، من وجهة نظري، من كتابة الفيلم الروائي.
هل تواصل الطريق نفسه في مشاريعك الجديدة؟
– نعم، لدي ثلاثة مشاريع جديدة. الأول بعنوان «أتوا والحجر من السماء»، وهي قصة امرأة عجوز ذات 120 سنة وما زالت تمشي في جبال الأطلس المغربي باحثة عن أحفادها. هذا الموضوع يعطيني فرصة لطرح سؤال دائمًا ما أسأله لنفسي عندما أكتب: أين نحن ذاهبون؟ هذا المشروع يعكس العكس، فأنا عائد إلى البدايات. أما الثاني، فهو عن قصة حقيقية عن أول طيارة مغربية وأصغر طيارة عربية. كانت طيارة في الخمسينيات في سن 15 سنة، وقتلت وعمرها 19 سنة. قصتها تحمل الكثير من التفاصيل، خصوصًا وأنها قُتلت قبل استقلال المغرب. وهو مشروع ضخم على المستوى الفني، حيث سأقدمه من خلال مسلسل وفيلم روائي وفيلم وثائقي، لأن الجريمة لم تُحل حتى اليوم. أما المشروع الثالث، فهو حول الشخص الذي اكتشف خليج المكسيك من جهة أميركا في القرن السابع عشر. هذا الشخص مغربي اسمه مصطفى الأزموري، واختطف من مدينة أزمور على يد البرتغاليين. كان عبدًا لأنه كان شابًا صغيرًا، ووصل إلى مرتبة عالية في البحرية البرتغالية، وترأس باخرة واكتشف هذا الخليج. وهو معروف بالبرتغالية باسم استيبانيكو. هذه المشاريع لا تزال قيد التحضير، وأقربها لن يكون جاهزًا قبل نهاية العام المقبل.
اقرأ أيضا: جيهان الطاهري: حياة الأفلام لا تصنعها السجادة الحمراء