فاصلة

مقالات

2023 في السينما الفرنسية… عام الجرأة والطموح

Reading Time: 5 minutes

2023 كان بلا شك عام السينما الفرنسية، وهذا ما عاد خفياً على مَن تابع إنتاجاتها وشهد لحيويتها وتفوقها في أكثر من مجال. لاتوجد سينما في العالم قدّمت هذا الكمّ من الأعمال الرشيقة والجريئة والطموحة والمختلفة عن السائد، مثلما فعلت الشاشة الفرنسية، فجعلتها أكثر تنوعاً وانفتاحاً وبراعةً من سينمات أخرى. مواهب من أجيال عدة وضعت السينما الفرنسية في المقدّمة، وهي السينما التي شهدت أيضاً تكريساً في مهرجانين كبيرين، برلين وكانّ؛ في الأول، نال “على قارب الأدامان” جائزة “الدبّ الذهبي”، وفي الثاني أُسند إلى “تشريح سقوط” أرفع جائزة وهي “السعفة الذهبية”. 

في الآتي، وقفة مع عشرة أفلام فرنسية استحوذت على اعجابنا وتقديرنا، مع الاشارة إلى ان اللائحة كان من الممكن ان تضم أيضاً أفلاماً فرنسية أخرى من مثل: “قابلات” لليا فينير ، “الحبّ والغابات” لفاليري دونزيللي، “أمير” لبيار كريتون، “جانّ دو باري” لمايوان، “الصيف الماضي” لكاترين بريا، “ليلة” لأليكس لوتز، “كتاب الحلول” لميشال غوندري، “الاختطاف” لإيريس كالتنباك، “جريمتي” لفرنسوا أوزون، “سأرى وجوهكم دائماً” لجانّ إيري، “عصابة البوا دو تامبل” لرباح عامر زعيمش، “نظرية مارغريت” لآن نوفيون، “فنسان يجب ان يموت” لستيفان كاستان وكريم ليكلو، “الجبل” لتوما سالفادور، “خارج الموسم” لستيفان بريزيه، “خطيبة الشاعر” ليولاند مورو، “الجزيرة الحمراء” لروبان كامبيّو، وغيرها من الجواهر التي تشير إلى حيوية هذه السينما، أكانت على مستوى المواضيع المطروحة أم المعالجة البصرية فالخيارات السردية.    

Anatomie d’une chute
 “تشريح سقوط” لجوستين ترييه

رجل يسقط من شبّاك منزله فيموت على الفور. تُتَّهم زوجته بالحادثة. هل هي مَن قتلته؟ السؤال يلح طوال الفيلم، وما بعد في ذهن المُشاهد. تحقيقات وجلسات قضائية ونكء جراح الماضي ورعب نفسي وشعور بالذنب… هذا كله يتزاحم في عمل سينمائي ذي تركيبة معقّدة رغم بساطته الشكلية. هناك أيضاً الابن الضرير الذي يُزَّج به في القضية فيداوي ألمه من خلال العزف على البيانو. حضوره أساسي لربط العناصر بعضها ببعض وخلق صدى عند المتلقي. تقدّم ترييه بهذه الدراما النفسية عملاً يُخرِج الأنواع السينمائية عن سلوكياتها المكررة. من خلال المواجهة بين عالم القضاء الصارم وأعماق الذات البشرية التي لا تحتكم لقانون، تنجز المخرجة الموهوبة فيلماً مرجعياً عن العلاقات الزوجية في اختلافها بين الظاهر والباطن، مع ما تحمله من التباس. الفيلم نال “السعفة الذهبية” في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي. 

فيلم لا يحدث فيه الكثير أو ربما لا شيء. مع ذلك، يحرك طوال نحو ساعتين أحاسيس المُشاهد. فيلم شيحا هو عن الانتظار، مقتبس بتصرف من رواية هنري جيمس. فتاة وشاب يلتقيان في مرقص خلال الثمانينات، زمن الديسكو والحياة الخالية من الهموم. الشاب ينتظر حدثاً سيقلب حياته رأساً على عقب، وسيقنع الفتاة بأن تنتظر معه، وسيستمر الانتظار ربع قرن، أي من 1979 إلى 2004. كلّ شيء سيتغير ويتحول من حولهما، ما عداهما. يصوّر شيحا الزمن وتحولاته وآثاره في الشخصيات العابرة والثابتة، من خلال حفنة من الشباب الذين يرقصون، معتقدين بأنهم يفلتون من الزمن. وفي هروبهم هذا، لا يفعل الزمن الا القبض عليهم على حين غرة. أما البطلان، فينتظران الزمن ويعيشانه إلى الأقصى!

La Passion de Dodin Boffant 
“شغف دودان بوفان” لتران آن هونغ

بين الطهي والسينما الفرنسية قصّة حبّ طويلة، تتجسّد مرة جديدة في هذا الفيلم الذي يحملنا بعيداً من نصوص تطرح مشاكل عالم مأزوم. بيد ان المطبخ الرفيع لديه مشاكله أيضاً حتى لو كانت محصورة في نفسها.” دودان بوفان ” خير سفير له من خلال الأطباق الشهية التي سيضعها في متناولنا ونتذوقها بعيوننا. يُقال ان المطبخ الإيطالي احتفاء بالحياة، فيما الفرنسي فنٌّ في ذاته. استطاع المخرج ان يجمع بين الاحتفاء بالحياة والفنّ، وبطريقة إبيكورية، اذ لا لذّة تعلو اللذة التي يوفّرها الطعام، الذي يفيض بالشعر أمام كاميرا تران أن هونغ وتحت أنامل بونوا ماجيميل وجولييت بينوش. فرنسا فضّلت ترشيح هذا الفيلم لـ”أوسكار” أفضل فيلم أجنبي، بدلاً من “تشريح سقوط”، مما أثار سجالاً واسعاً في الأوساط السينمائية. ربما لإيمان الجهة المكلَّفة، بأن سر أعضاء الأكاديمية في بطونهم!

Le procès Goldman
“قضية غولدمان” لسدريك كانّ

أفلمة تحبس الأنفاس لقضية الناشط الراديكالي بيار غولدمان (1944 – 1979) التي شغلت الرأي العام الفرنسي لسنوات، بعدما اتُهِّم بقتل عاملتين في صيدلية خلال عملية سطو مسلّح عليها في العام 1970. يومها رفض مناصروه التهم الموجهة اليه، رغم ان المحكمة وجدته مذنباً وحكمت عليه بالسجن المؤبد، ثم عادت وبرأته، لكنه قُتل بعد خروجه من السجن بسنة واحدة في جريمة لم تُحل ملابساتها إلى اليوم. يتناول سدريك كانّ هذه القضية المعقّدة حيث يلتقي التاريخ بالنضال اليساري والعنصرية، لكن خياره السينمائي والجمالي يرغمه على حصر الموضوع بين جدران المحكمة، وذلك طوال ساعتين، من دون تطعيمه بأي عناصر رومنطيقية، فيقترب المُشاهد من “حقيقة” غولدمان، بكامل راديكاليته ويهوديته وغضبه وصراحته. إلى رغبته في تفكيك آلية النضال الثوري، يتطرق الفيلم أيضاً إلى محدودية النظام القضائي والسمة المعقّدة للعدالة.

 Le Grand Chariot 

“لو غران شاريو” لفيليب غاريل

الحكاية بسيطة: أب يدير مسرح دمى ورثه من أبيه، ويواصل عمله على أمل ان يورث أولاده هذه المهنة. ذات يوم يموت. الفيلم الذي كان بدأ بشكل كلاسيكي، يأخذ فجأةً مع موته شكل أفلام غاريل السابقة ويستعين بالأشياء التي لطالما انشغل بها. غاريل استعان هنا بأولاده الثلاثة، لوي ولينا وإستير، ليقدّم فيلماً له طابع “المشروع العائلي”، وكأنه يحاول كتابة وصيته السينمائية. فالارث الفنّي هو محور هذا العمل الذي يرسم مصير الشخصيات بحساسية عالية، وفي الحين نفسه يشهد على عالم يتهاوى، فيما العالقون بين أنقاضه يحاولون ان ينقذوا أنفسهم. 

Sur l’Adamant
“على قارب الأدامان” لنيكولا فيليبير

“الإنسان أولاً” عند نيكولا فيليبير الذي أهدى حياته إلى الوثائقي، إلى ان فاز بـ”الدب الذهبي” في مهرجان برلين الأخير عن هذا الفيلم الذي يحاول النظر في عمق الإنسان، بعد تجريده من كلّ الحسابات التي تتضارب مع إنسانيته. فيليبير لطالما كان معلّماً في هذا، من خلال حفنة أفلام تهدف إلى الاستكشاف، فلا يذهب إلى موقع التصوير بأفكار نمطية ولا يقارب الشخصيات بمواقف جاهزة. يصوّر هنا مجموعة من الناس المختلفين عن سائر البشر، من دون ان يقول لنا ممّا يشكون. هؤلاء مرضى في نظر الطبّ النفسي، لكن للسينما معايير حكم أخرى. “أبطاله” يرتادون قارب “أدامان” بشكل دوري، وهو قارب يرسو على نهر السين ويفتح أبوابه للباحثين والباحثات عن الدفء والطمأنينة والراحة خارج المؤسسات التقليدية. من خلالهم، يخوض فيليبير مغامرته التنقيبية، من دون ان يحوّل الشخص أمام كاميراه موضوعاً يخدم قضية، مهما تكن هذه القضية نبيلة، بل محافظاً على أنبل ما فيه. 

Dogman
“دوغمان” للوك بيسون

بعد سلسلة أفلام لم تحلّق عالياً في سماء الفنّ السابع، عاد بوسون العام الماضي بفيلم يسحق القلب. الشخصية الرئيسية عاش طفولة صعبة ممّا انعكس سلباً على مستقبله. آثار هذه العذابات يحملها على جسده وفي روحه. لكن المخرج سيكون حليفه والمُشاهد أيضاً. انه دوغلاس الذي يلعب دوره الممثّل كايلب لاندري جونز ببراعة شديدة. نحن ازاء كائن معذَّب عاملته الحياة بظلم وقسوة، لكن هل يتجاوز ماضيه ويقفز فوق محنته؟ وكيف؟ هذا ما نكتشفه في هذا الفيلم الذي ينبش في التروما والانتقام بأسلوب خاص ببيسون. على غرار “جوكر” لتود فيليبس، يتناول “دوغمان” ضحية قد لا تكون أفعاله جيدة لكنه ليس شريراً، ليجعل منه رمزاً لهذا الغضب ضد المجتمع، وهو غضب ينمو في داخل الإنسان ويتحوّل لهيباً، فيصوّره المخرج بذكاء بصري وسردي ويد ممدودة.

La bête 
“الوحش” لبرتران بونيللو

فيلم مثير للدهشة في بعض فصوله، لا فائدة من تناوله كلامياً، كونه ينتمي إلى تجربة المشاهدة التي تجعلنا نضل الطريق مرات ومرات قبل ان نستسلم أخيراً. الموضوع: الذكاء الاصطناعي وكيف سيعدّل مع الوقت نظرتنا إلى كل شيء، وذلك من خلال سيناريو ينتقل بين ثلاثة أزمنة موزّعة على فترة قرن ونصف القرن. أفلام عدة في فيلم واحد وعوالم موازية متداخلة، هذا ما نجده في “الوحش”. جمالياً، حرفة بونيللو عالية في صناعة صورة وإشاعة أجواء تنتمي إلى مستوى آخر من الفنّ السينماتوغرافي، حتى لو كان الطرح نخبوياً ومحصوراً في حفنة من الفضوليين.”الوحش” فيلم حزين وغامض جعلني أفكّر في ديفيد لينتش وراوول رويز. فيلم ينبذ الأنماط السائدة، يأخذ وقته ليتشكّل، لكن، كما قال بونيللو في مقابلة: “إن الإنسان يحتاح إلى الوقت كي يسافر، والا لن يرى شيئاً ولن يشعر بشيء”.

Yannick
“يانيك” لكانتان دوبيو 

صالة. مسرحية رخيصة وثلاثة ممثّلين. جمهور. من بين الحضور يعترض أحدهم على ردائة العرض، قائلاً إنه أضاع له وقته وماله. ترى ماذا سيحدث بعد ذلك؟ هل سيقبل أن تُرد له قيمة التذكرة التي دفعها وينصرف؟ كلّ ما يمكن كشفه أن المخرج المغاير كانتان دوبيو سيحبسنا بين جدران أربعة، فتُخطف أنفاسنا من خلال نصّ سينمائي غير متوقّع لا نعرف إلى أين يحملنا. الفيلم مكثّف يتجاوز بالكاد الساعة، يقول كلّ ما يمكن أن يُقال في علاقة العمل الفني بالمتلقي، وعن الهوة بينه وبين المُشاهد، هذا كله على خلفية صراع طبقات وسخرية لاذعة في حقّ الفنّان وعنجهيته. أسئلة كثيرة يطرحها دوبيو سرعان ما تتحول بدورها أسئلة وهواجس عند الشخصيات والمُشاهد، من دون أن يغادر الاسلوب العبثي الذي حاصر فيه نفسه. هذا فيلم يستند إلى فكرة لمّاحة وتنفيذ ممتاز، ممتع إلى أقصى حد ويحرّض على التفكير، يحمل في داخله سحراً لا يُقاوَم.

Le règne animal
“السلطة الحيوانية” لتوما كاييه

تجري الأحداث في عالم يشهد موجة طفرات متتالية تحوّل البشر تدريجياً إلى حيوانات. فرنسوا سيبذل ما في وسعه لإنقاذ زوجته التي تطالها هذه الظاهرة. ولمّا تصبح المنطقة التي يقيم فيها مأهولة بمخلوقات من صنف جديد، يخوض مع ابنه المراهق مغامرة ستغير حياتهما إلى الأبد. هذا فيلم فرنسي غايةٌ في الطموح، يخرج عن اطار الأعمال الحميمة وقصص الحبّ وشد الحبال، إلى سينما جماهيرية متطلبة ترتقي بطرحها، متناولاً حكاية خيالية عن الأبوة والجزء الحيواني في الإنسان، هذا كله بشاعرية لا تخلو من حسّ دعابة. موقع “باند أ بار” المتخصص، نشر مقالاً عنه يقول: “هذا هو الفيلم الذي كنّا ننتظره ليحدث انفجاراً فعّالاً في ضمائرنا”.

اقرأ أيضا: «تشريح سقوط»: دراما عن الحقيقة والأكاذيب وخداع الذات

شارك هذا المنشور