فاصلة

مراجعات

«يونان».. قصيدة عن التيه الوجودي

Reading Time: 3 minutes

يشقّ المخرج الفلسطيني السوري أمير فخر الدين طريقه بثبات في المشهد السينمائي الدولي، وهذه المرة بفيلمه «يونان»، الذي ينافس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي (13 – 23 شباط). بعد «الغريب» الذي أطلقه في موسترا البندقية، يواصل بناء كاتدرائيته السينمائية الخاصة، متعّمقًا أكثر فأكثر، مع ثاني أفلامه، في رؤية سردية تتجاوز القوالب المعتادة.

يحظى «يونان» باهتمام واسع بسبب مشاركة النجمة الألمانية الكبيرة هانا شيغولا التي تضفي على الفيلم بُعداً إضافيًا بحضورها الآسر. لكن الأهم من ذلك هو الأسلوب الذي يطوره فخر الدين، ناسجًا أفلامه بحسّ شاعري ووجداني، مبتعدًا عن التناول السطحي للقضايا الكبرى، ومفضّلًا النظر في جوهر التجربة الإنسانية وتفاصيلها الصغيرة التي لا تعدو كونها همسات، حيث الأمكنة ليست مجرد خلفيات للأحداث، بل كائنات حيّة تتفاعل مع الشخصيات، ممّا يمنح الفيلم طابعًا حسيًا غامرًا.

بونان (2025)
بونان (2025)

«يونان» جزء من مشروع سينمائي أوسع، إذ يشكّل امتدادًا لـ«الغريب»، ضمن ثلاثية يطوّرها فخر الدين تحت عنوان «وطن». هذه السلسلة رحلة متكاملة لاستكشاف الهوية والانتماء، بنمط يتجاوز هموم السينما العربية المعتادة. إنها قفزة إلى تجربة سينمائية تعتمد على الإحساس بالزمان والمكان، حيث الكاميرا لا تتحرك عبثاً، بل تنسج إيقاعًا خاصًا يتماشى مع نبض الشخصيات، لتخلق حالةً، الهدف منها ترك شيء ما في ذهن المشاهد.

في «يونان»، المكان هو الشخصية الأساسية. الجزيرة التي تدور عليها الأحداث ليست ملاذًا سياحيًا مشمسًا، بل فضاء ناءٍ، يكاد يكون على أطراف العالم، حيث الزمن يبدو كأنه يسير بإيقاع مختلف. هناك، داخل نزل صغير في عزلة عن العالم المعاصر، تعيش سيدة (هانا شيغولا) برفقة ابنها وعدد محدود من الأشخاص، جميعهم يشتركون في عزلة تبدو كأنها مفروضة عليهم بقدر الطبيعة نفسها. المكان، بعناصره الطبيعية، ليس مجرد خلفية، بل كيان ينبض بالحياة، مستقل عن البشر الذين يعبرون بينما يبقى هو شامخًا في حضوره الأزلي. الصورة وحدها لا تكفي لتوصيف هذه البيئة، فالأصوات «تُرينا» هي أيضًا، وهذا ما يعزز الإحساس بالوجود داخل هذا المكان.

بونان (2025)
بونان (2025)

ظاهرة جيولوجية نادرة، حيث تغمر مياه البحر أرض الجزيرة أيامًا عدة، ثم تعيدها إلى الظهور مجددًا، ألهمت أمير فخر الدين، فوجد في ذلك صدى عميقًا للتيمات التي يستكشفها: الفقدان، الاختفاء والعودة المتحوّلة.

حين تطأ قدما منير (جورج خباز) أرض الجزيرة، لا تكون مجرد رحلة استجمام، بل صدمة تزعزع توازن هذا المكان المنعزل. منير، الكاتب المغترب في هامبورغ، يعيش أزمة خانقة تمتد إلى أعماقه، فيتجسّد اختناقه الداخلي في ضيق تنفّس ينعكس بدوره على إبداعه الأدبي وحياته العاطفية. إنه رجل مشرقي يحمل على كتفيه أثقالًا لا تُرى، قادماً من منطقة غير مستقرة منذ عقود، يحمل معه ارتباكه ورغبته المكبوتة في الهروب من ذاته. النزعة الانتحارية تلازمه كظلّ، لكنه بدلًا من الاستسلام لها، يجد نفسه على هذه الجزيرة الواقعة في أقاصي الشمال الألماني، استجابةً لنصيحة طبيبه بالابتعاد والراحة.

بونان (2025)
بونان (2025)

تتشظّى الحكاية بين الحاضر والماضي، حيث نغوص في ذهن منير، نتابع كيف تتداخل مشاهد حياته مع خيالاته، مستعيدًا قصصًا من طفولته تحاول أن تجد طريقها إلى روايته. واحدة من هذه القصص، تلك التي روتها له والدته عن «راعٍ لا يملك شيئاً»، تتحوّل إلى استعارة تلقي بظلالها على رحلته الداخلية، فتتحوّل الجزيرة إلى مساحة تتلاشى فيها الحدود بين الواقع والخيال.

لا يلتزم الفيلم سردًا خطيًا، إنما يتحرك بحرية بين الأزمنة والأمكنة، تمامًا كما أن الأرض التي يقف عليها منير ليست ثابتة، بل تشبه الرمال المتحركة، على وشك الانزلاق أو الاختفاء. الزمن نفسه يبدو غير مستقر، والقصّة تتنقّل بين الماضي والحاضر من دون فواصل واضحة، كما لو أن كلّ شيء معلّق في لحظة بين الوجود والتلاشي. هنا، لا تكون رحلة منير استراحة من الحياة، بل مواجهة حتمية مع ذاته، مع الأسئلة التي لطالما هرب منها، ومع احتمالات جديدة للوجود. 

بونان (2025)
بونان (2025)

كما في فيلمه السابق، يعود أمير فخر الدين لاستكشاف مفهوم الحدود، ليس فقط كخطوط جغرافية، بل كحواجز داخلية تفصل الإنسان عن محيطه، وعن ذاته. يترك مشاهده عائمة بين المساحات الفاصلة، حيث يصبح الشعور بالانتماء مشروطاً بالبحث الدائم عن معنى.

لا تُروى هذه الحكاية بالكلمات وحدها، بل تتجلّى عبر الإحساس، عبر التريّث في تلقي الصورة، عبر الانسياق التدريجي داخل بيئة سينمائية تربط بين الأمكنة والأشخاص والذكريات.

«يونان» قصيدة بصرية عن معاني الاغتراب والعزلة والانتماء، تضع المُشاهد أمام احتمالات غير محدودة. كلّ عنصر في الفيلم؛ الصورة، الصوت، الزمن، وحتى المساحات الفارغة، يساهم في خلق تجربة مشاهدة غير تقليدية، مع ترك المجال لكلّ من يبحث عن معنى خاص به وسط هذا التيه الوجودي.

 اقرأ أيضا: «طفل الأم».. أمومة بلا صرخة مولود!

شارك هذا المنشور

أضف تعليق