قبل أكثر من سنتين بدأت المكالمات تمتد وقتًا أطول بيني وبين المخرج المبدع محمد الزوعري، كان دائمًا يقول لي إنه سوف يفعلها ويقدم فيلمه القصير الأول، وكان يحفزني على مواصلة كتابة فيلمي الذي يتغير ويتبدل بعد كل مكالمة.
في اليوم الحادي عشر من ديسمبر الجاري، عُرض فيلم الزوعري «يوم سعيد» ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر الدولي بمدينة جدة، وتسنت لي مشاهدته، ولا أستطيع أن أخفي فرحي البالغ بفيلم الزوعري، ولا بمنجزه الأول والجميل، الذي فيه طاقة ولطف تشبه صانعه، إخراجًا وكتابة.
خلال مكالماتنا الطويلة كان الزوعري يطالبني بتوصيات من عالم القصة والرواية، ويعود بعد قراءة ما رشحته بدهشة فنان. ولذا، كنت أظن أن الزوعري سيذهب بفيلمه الأول ناحية الحس الأدبي، لكنه فاجأني بذهابه ناحية الكوميديا، لكنها كوميديا مختلفة، كوميديا داخلها دراما وفلسفة وجغرافيا خاصة بالمكان (الرياض).
استطاع الزوعري خلال فيلمه الأول أن يقدم لي بشكل شخصي -وللمشاهدين كما أعتقد- حكاية رمزية عن الشخصية النموذجية لشاب يعيش يوم عمل عادي في فضاء مدينة الرياض اليوم. تلك الشخصية المأخوذة بالعمل والإنتاج، ستواجه في خضم يوم العمل هذا حقيقة الطاحونة أو الخلاط الذي وضع البطل نفسه فيه بكامل إرادته، لذلك سيتحول إلى شخصية مراوغة، يناور الحياة كما تراوغه. الجميل أن شخصية (سعيد) بطل الفيلم – الذي قام بدوره عبد الحميد العمير باقتدار- شخصية مركبة وسريعة في اتخاذ قراراتها، لذلك كان أجدر شيء يمكن أن يحدث بين سعيد ويومه هو أن يتعاملا مع بعضهما بهذا القدر من الخفة والسخرية.
تسرق الحياة من سعيد يومه وأحذيته، فيسرق منها بالمقابل سرعتها، لا عداوة بين بين سعيد وبين يومه، بل لعب متبادل، والزوعري يثبت حالة اللعب هذه عبر التلاعُب بالمشاهد، ليجعل اليوم بالكامل يومًا حلميًا، يصحو منه البطل ليعد فطوره الخفيف بنفسه ويلقي التحية على زوجته وعلى اليوم السعيد كذلك، لكنه سيترك وجودًا للمسبحة التي كانت في حلم اليوم السابق. هذا النوع من التلاعب رغم تقليديته إلا أنه ظهر بشكل لطيف يجعلنا كمشاهدين نعاود النظر في الحكاية، ليس بكونها حلمًا مر وانقضى، لكن كحقيقة متروكة للسؤال الفلسفي الكبير: من منا يقود الآخر اليوم أم نحن؟
لقد استفاد الزوعري من قراءة القصص، واستفاد كذلك من عمله الطويل في إخراج الإعلانات التجارية، فقدم لنا باقتدار صورة طبق الأصل للواقع اليومي داخل جغرافيا مدينة الرياض، وهو بهذا الفيلم يقول للمشهد الفني المحلي (أنا موجود)، فالصورة الرائعة التي قدمها، والمتعة التي صنعها من خلال قصته اللطيفة تدل على موهبة قادمة بقوة، وهذه ليست نبوءة بقدر ما هي معرفة دقيقة بالمختبر الذهني الذي يعمل داخله الزوعري بجهد وجمال واستمتاع.
في الآونة الأخيرة بت متأكدًا من أن المخرجين الشباب يمارسون نوعًا من التجريب في أفلامهم القصيرة، حتى أصبح الفيلم السعودي القصير مساحة ممتازة لتجريب المهارات الإخراجية، وكأن الفيلم القصير ليس إلا دورة تدريبية ستضاف لاحقًا لسيرتهم الذاتية، وهذه المساحة رغم رحابتها وقلة التوقع منها على مستوى الطموح إلا أنني أجدها مساحة جيدة للتفكير في الفن أيضًا، أعني إعادة التفكير في الفن ذاته، ليس على مستوى الكتابة والإخراج، بل على المستوى الفلسفي، كنوع من إعادة النظر والتحقق من جدوى فن السينما، لأن الهدف الحقيقي من التجريب يجب أن يكون أبعد من التفكير في اختبار الأدوات الفنية، التجريب في ظني يشبه إعادة التحقق من كل شيء، ابتداء من الفن نفسه وجدواه، ومن خلال تجربتي الشخصية في متابعة الجميل محمد الزوعري أجد أنه يسير في الطريق الصحيح، لهذا أنا سعيد جدًا بتجربته الأولى «يوم سعيد»، وأقول له بكل محبة: يومك سعيد يا زوعري.
اقرأ أيضا: قائمة جوائز مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بدورته الرابعة