فاصلة

مقالات

وحيد حامد يتذكر(3): الإنسان يعيش مرة واحدة.. أول الأفلام الكبيرة

Reading Time: 6 minutes

يمتلك وحيد حامد في مسيرته عددًا هائلًا من التجارب الناجحة، فهو واحد من قلائل اختبروا النجاح المدوي، جماهيريًا ونقديًا، في كل الوسائط الممكنة: في السينما، والتلفزيون، والمسرح، والإذاعة. لكن ثمّة مكان خاص في القلب يبقى للمرة الأولى التي يشعر فيها الكاتب بالرضا عن عمل قام بتأليفه.

وإن حقق فيلماه الأولان نجاحًا جماهيريًا جعله يُصنَّف سريعًا واحدًا من كتاب السيناريو المطلوبين، فإن فيلمه الثالث «الإنسان يعيش مرة واحدة» كان العمل الذي ذاق معه شعور التحقق الفني الحقيقي، عندما يُدرك المؤلف أن عمله ذهب إلى المخرج الصحيح ليصنع عملًا يفخر كاتبه به، حتى بعد مرور عقود على عرضه.

يُمثل الفيلم أيضًا التعاون السينمائي الأول بين وحيد حامد وعادل إمام، دُشّنت بعده شراكة فنية أمدت السينما المصرية بعدد من أهم الأفلام في تاريخها. لذلك كان من الطبيعي أن يُسهب حامد في حديثه عن هذا الفيلم الرقيق.

الإنسان يعيش مرة واحدة (1981)
الإنسان يعيش مرة واحدة (1981)

الإنسان يعيش مرة واحدة (1981)

 هو أول الأفلام التي أفخر بها، ففيه أول تعاون مع مخرج واعد لديه حس سينمائي حقيقي، ويبدي احترامه وتقديره للسيناريو الذي يقدم على إخراجه، بصورة تجعل الجو العام للعمل مختلفًا تمامًا. المخرج سيمون صالح كان مخرجًا موهوبًا، أقدم على إنتاج الفيلم بنفسه عن مسلسل إذاعي كتبته بنفس العنوان. أحد أهداف سيمون من تقديم الفيلم كان الخروج من حالة الاكتئاب التي كان يعيشها، لكنها لم تكن محاولة موفقة، فساءت حالته المادية ويسيطر عليه شعور بالظلم واتخذ قراره بالهجرة لكندا، لتخسر السينما مخرجًا موهوبًا على الصعيدين الفني والإنساني.

كتبت مقالًا عن هذا الفيلم، باعتباره واحدًا من الأفلام التي لا يلتفت لها أحد، وأن شهرته محدودة مقارنة بأعمالك ذات الحس السياسي، وإذا بالمقال يحقق ردود فعل غير مسبوقة، وأتلقى رسائل واتصالات من العشرات يهنئوني على الاختيار ويؤكدون أنه من أفلامهم المفضلة، وكل منهم كان يعتقد أنه الوحيد الذي يحب هذا الفيلم.

 هناك أفلام صالحة لأن تقع في حبها، لكن من الذي يقع في هذا الحب؟ إنهم أصحاب الحس الذين نالوا قدرًا من التعليم، فنما داخلهم إحساس بالجمال واستعداد لتلقي هذا النوع من الأفلام الإنسانية. وفيلم «الإنسان يعيش مرة واحدة» من هذه النوعية التي ينتمي لها فيلم آخر كتبته هو «أنا وأنت وساعات السفر»، والذي عشت بسببه الكثير من المواقف الغريبة، فقد كنت أتلقى اتصالات من العديد من الأشخاص يؤكدون أنني كتبت حكايتهم التي عاشوها في الحقيقة، منهم من يتحدث بغلظة ويهددني بأنه سيقاضيني لأنني أحكي حكايته دون إذنه، ومنهم من يتفهم حقيقة الأمر ويشكرني على تمكني من التعبير عن حالة عاش مثيلها في الواقع.

أحيانًا يكون الكاتب كالطبيب الذي يذهب له الإنسان يعاني من ألم، فيلمس بيده موضع الوجع حتى يتمكن من علاجه، والشرط هو أن يكون قد لمس موطن الألم بصدق وبساطة ودون مبالغة، لأن المبالغة تفسد أي عمل فني.

الإنسان يعيش مرة واحدة (1981)
الإنسان يعيش مرة واحدة «1981»

 تثير اهتمامي بشدة شخصية البطل هاني، فهو مقامر، لكنه يمتلك الصفات الجيدة للمقامر، فهو ساخط وعبثي ورافض لكل ما حوله. وإذا أضفنا له شخصيتي الطبيبة والغفير، فسنجد أول نموذج واضح في سينما وحيد حامد لإحكام بناء الشخصيات الدرامية، هذه شخصيات ليست فقط مبنية بشكل ممتاز، لكنها مستخدمة بمهارة في تحريك الحكاية. كيف بنيت هذا التماسك؟ خاصة وأن الفيلم مأخوذ عن مسلسل إذاعي؟

 مثلث الشخصيات الرئيسية كان هو نفسه في المسلسل والفيلم. لاحظ أن الكتابة للإذاعة والتلفزيون أصعب من الكتابة للسينما، لأن زمن السرد أطول بكثير، فيحتاج للمزيد من الأحداث والمشاهد والحوارات، والتي أحاول دائمًا أن تكون حوارات جذّابة للمشاهد أو المستمع، ليست مجرد حشو وملء للوقت. وبالمناسبة كتبت المسلسل الإذاعي في ظروف عسيرة، فقد كانت زوجتي محجوزة في المستشفى أثناء حملها في ابني مروان، وكان نظام الإذاعة وقتها أن يكتب المؤلف على الهواء خلال التسجيل، ويقوم بتسليم خمس حلقات بخمس حلقات، ورغم صعوبة الظروف والتفكير المشتت حقق المسلسل نجاحًا كبيرًا.

الفارق بين الوسيطين جعلني لا أجد أي صعوبة في تحويل المسلسل إلى فيلم، ركزت على جوهر الحكاية وتخلصت من أي زيادة استخدمتها في الإذاعة، وحاولت الحكي بالصورة أكثر من الكلام، وبدأت الفيلم بحدث درامي كبير ومؤثر وهو الحادث وسيارة الإسعاف.

هذه البداية تستدعي سؤالًا، فمشاهد البداية كلها تقديم لشخصية الطبيبة التي تلعبها يسرا، بينما لا يظهر عادل إمام إلا بعد عدة مشاهد، ألا يتناقض هذا مع نجوميته؟

 بخلاف الضرورة الدرامية الأكبر من أي نجومية، عادل إمام لم يكن قد أصبح نجمًا كبيرًا بعد، وأذكر أن أجره عن هذا الفيلم كان عشرة آلاف جنيه، بينما كان أجري كمؤلف ثلاثة آلاف جنيه، أذكر هذه الأرقام جيدًا، ومن خلالها يمكن تصور وضع عادل إمام في السوق وقتها.

الإنسان يعيش مرة واحدة (1981)
الإنسان يعيش مرة واحدة «1981»

 أعرف أنك تكن محبة خاصة لشخصية الغفير بكري.

 هذا صحيح، فهي شخصية درامية مبهرة من وجهة نظري، تريزياس مصري (يقصد شخصية تريزياس من مسرحية «أوديب ملكًا» لسوفوكليس). أحب هذه الشخصية منذ أن جسدها في الإذاعة صلاح منصور، وأرى أنها كانت أفضل في المسلسل عنها في الفيلم السينمائي. لأن مساحة المسلسل سمحت بجعل الشخصية أوضح وإفراد مساحة أكبر لها، هذا بالإضافة إلى الأداء العظيم لصلاح منصور، مع كامل احترامي لعلي الشريف ومجهوده في الفيلم. أحيانًا أخرج شرائط الكاسيت وأعيد الاستماع للمسلسل، فأندهش في كل مرة كيف أداه صلاح بهذه الطريقة! كان مخيفًا بمعنى الكلمة، وكانت الشخصية واضحة المعالم أقرب للفكرة الأساسية للعمل.

كانت الشخصيات الثلاث تعزف لحنًا واحدًا، ولكن كل منهم بآلة مختلفة عن الآخر، وهو أمر يجب على الكاتب أن يكون واعيًا به، فلكل عمل متطلباته. إذا كنت تريد فرقة تعزف سيمفونية، لا يمكن أن تضع بينها عازف رق أو طبلة، بالرغم من أن نفس العازف قد يكون استخدامه مناسبًا تمامًا في فرقة أخرى. لذلك فيجب أن تكون لكل شخصية دور في بناء العمل ككل، لكنه دور يتم عزفه بالآلة الخاصة وهي بناء الشخصية وحكايتها المستقلة، تماما مثل مثلث: المقامر والطبيبة والهارب. والحقيقة أن «الإنسان يعيش مرة واحدة» هو واحد من الأفلام التي تسعد ككاتب عندما تقول إنك مؤلفها.

الإنسان يعيش مرة واحدة «1981»
الإنسان يعيش مرة واحدة «1981»

 على الرغم من أن الفيلم يطرح قضية إنسانية مجردة عن قيمة الحياة، إلا أن حرفية المؤلف تظهر في خلق صراعين ماديين واضحين، هما الطبيب الفاسد الذي يطارد البطلة وطالب الثأر الذي يطارد الغفير. عنصرين جعلا للحكاية بعد مادي قادر على جذب المشاهد العادي الذي قد لا يهتم بأزمة الفيلم الإنسانية لو طرحت بشكل ذهني.

أنا أؤمن بأن المؤلف لا يجب أن يكون واعيًا بشكل كامل بالأدوات الدرامية التي يفترض أن يستخدمها، بمعنى أنك لا تأتي بكتاب قواعد الدراما وتتحرك من خلاله وأنت تكتب. أذكر عندما كنت تلميذًا في المرحلة الإعدادية، كنا ندرس مادة تدعى الأشغال، نصنع خلالها أشياء صغيرة مثل تمثال صلصال أو برواز أو فازة. في إحدى المرات طلب مني المُعلم عمل تمثال لرجل، صممته بانتظام شديد وبخطوط مستقيمة، فقال لي أنه يبدو مصطنعًا لأن العمل الفني يحتاج لبعض الأمور غير المنتظمة، كأن يحرك الهواء بنطلون الرجل مثلًا في التمثال.

الدرس الذي تعلمته هو أن الانتظام الكامل يقتل روح العمل، لذلك فأنا لا أكتب معالجة، حتى لا ألتزم ولا أضع قواعد جامدة، بالرغم من أني أعرف هذه القواعد جيدًا، لكني أفضل أن أترك للخيال الحرية. وأزعم أني لو التزمت بالقواعد بشكل مدرسي لم تكن لتلقى الإعجاب نفسه لدى الجمهور.

الإنسان يعيش مرة واحدة «1981»
الإنسان يعيش مرة واحدة «1981»

 شخصيًا أحب مشهدين من هذا الفيلم حبًا خاصًا، أولهما مشهد رفض البطل لأول مرة أن يقامر على الطبيبة رغم قبوله الدائم بأي مقامرة، والثاني لقاء الغفير بابنه في عز ذعره من انكشاف مكانه، ليشعر أن ليلة بجوار ابنه تساوي الدنيا وما فيها، حتى لو مات بعدها. هل تهتم بكتابة هذه المشاهد الإنسانية التي يتعلق بها الجمهور؟

 لا أقول أبدًا قبل أي مشهد سأكتب الآن مشهدًا مؤثرًا، ولكن قناعاتك وما تؤمن به وترغب في توصيله للناس يظهر على الورق وأنت تكتب. وكلما كان إيمانك بما تقوله كاملًا تتكوّن داخلك شحنة تريد أن تخرج، وتحاول تلقائيًا أن تُخرجها بأسهل طريقة وأنبل طريقة وأجمل طريقة تصل للمشاهد، يجب أن ترسلها كهدية حقيقية، لا أن ترسل له وردة ملفوفة في ورقة جريدة، لذلك تسعى تلقائيًا للجمال والصدق، فتخرج منك المشاهد الجميلة دون أن تدري، لا أن تقول أنك ستكتب هذا المشهد لتقول فيه إن الحياة ذات قيمة أو الحب ينتصر، هذا سيكون مشهدًا فاشلًا، أما أن يقال ذلك داخل حكايتك، فهو أمر تدرك روعته عندما تجد شركاءك في العمل الفني يعزفون نفس اللحن، المخرج والممثل ومهندس الديكور، ليؤثر الناتج النهائي في الجمهور، ويشعرك بالفخر أنك كنت جزءًا منه.

الإنسان يعيش مرة واحدة «1981»

 خلال تتابعات النهاية، أجد تنفيذ القتال داخل القطار رديء المستوى مقارنةً بباقي الفيلم، هل تتفق مع ذلك؟

 أتفق طبعًا، ولكني أعلم ضعف الإمكانيات التي تم تنفيذ الفيلم بها، وعلمت لاحقًا أن المخرج سيمون صالح الذي كان منتج الفيلم اقترض من البنك ليستكمل الإنتاج، وفي الأغلب ما ربحه من الفيلم دفعه كفوائد لهذا القرض، لذلك فقد تم تنفيذ هذا المشهد بشكل فقير. وسيمون صالح كان بالمناسبة مخرجًا حساسًا وراقيًا، لكن عمله الطويل كمساعد وكبر سنه النسبي عند تقديم عمله الأول جعله يضعف سريعًا ويقرر الاعتزال والهجرة لكندا، وهو نفس ما حدث تقريبًا مع شقيقه فاضل صالح.

لكني لا أتحدث فقط عن التنفيذ، ولكن حتى دراميًا لم أكن أتوقع أن ينجو بكري في النهاية، وأشعر أن النهاية كانت ستكون أقوى وأعمق إذا ما مات بعدما أدرك قيمة الحياة، ليكون موته تعميدًا للبطلين واختبارًا يتوصلان من خلاله لنفس ما توصل إليه بكري.

هذه النهاية اختلفت في الفيلم عنها في المسلسل الإذاعي، في المسلسل يحدث كما قلت أنت بالضبط، ويموت بكري في حقل ألغام كان يحاول عبوره للنجاة بحياته، لكن المخرج رأى تغييرها في الفيلم.

 إلى أي نهاية تميل أنت شخصيًا؟

 إلى موته بالطبع!

اقرأ أبضا: وحيد حامد يتذكر (2): النجاح الكبير والتعلم من الأخطاء

شارك هذا المنشور