نصل إلى نهاية الرحلة التي لم تمتد للأسف لأكثر من ثلث مسيرة سينمائية مدهشة، تمكن خلاها وحيد حامد من أن يُعبر عن صوت الإنسان المصري والعربي، وأن يعلو بكرامة الفرد كقيمة كُبرى مهيمنة بطول المسيرة.
فقد يظن البعض أن سينما وحيد حامد معنية بالسياسة، أو بالعدالة الاجتماعية، أو بالحراك الطبقي، أو بغيرها من التيمات التي تظهر بوضوح في كتاباته، لكننا لو حللنا أعماله حامد بدقة وحاولنا الوصول لقيمة ثابتة واحدة، حاضرة دومًا ومنذ اللحظة الأولى، فستكون بالتأكيد قدسية الكرامة الإنسانية.
أبطال وحيد حامد قد يرضون بالظلم، أو يتصالحون مع وضع خاطئ، أو يجدون صياغات توافقية للتعامل مع الآخرين ومع الحكومات، لكنهم لا يرضون الضيم في كرامتهم، ودائمًا ما تكون نقطة الانطلاق التي تُفجر الدراما مرتبطة بدفع الفرد لأن تكون كرامته على المحك.
هذه الحلقة الأخيرة لا تتعرض لذكريات أفلام بعينها في مسيرة وحيد حامد، لكنها موضوعات متناثرة تتعلق بالحرفة، ومواقف تذكرها في معرض حديثه عن الأفلام التي تناولناها بالحوار في الحلقات السابقة، وجدت أن ما فيها من ملاحظات سديدة وذكريات شيقة، تستحق بالتأكيد أن تجد مكانها ضمن هذه السلسلة التي كنت أتمنى أن تكون أطول من حلقاتها السبع.
الممثل وقيمة المشروع
عندما يشعر الممثل بأنه يعمل في مشروع حقيقي محترم سيتحول فيلمًا كبيرًا، يختلف مستوى تحضيره واهتمامه بالتفاصيل كثيرًا. ففي فيلم «الهلفوت» – مثلًا – قام عادل إمام بتقمص الشخصية بشكل هائل، وقام برسم الشخصية بنفسه، شعره وملابسه، خاصة الملابس الذي اشتراها من متشرد قابله في الشارع، اشترى منه ملابسه وجعل الإنتاج يغسلها له كي يرتديها. هذا جهد لا يأتي إلا من ممثل يحب الفيلم الذي يعمل فيه.
عمومًا، أعتبر «الهلفوت» من أهم الأفلام، ودور عادل إمام فيه من أهم أدواره على الإطلاق، رغم أن الشخصية تم ابتذالها لاحقًا وصنعت من ممثلين آخرين نجوم شباك. لكن ما يعجبني في الحكاية أمرين ليسا من صنع مؤلف لكنهما موجودين منذ فجر التاريخ، الأول هو أن بعض الطغاة المتجبرين هما في الحقيقة شخصيات من ورق، وفي التراث الشعبي شخصية «تأبط شرًا» الذي لُقّب بهذا لأنه عندما أراد أن يهدي والدته هدية اصطاد حيّة ورماها في حجرها، هذا الشخص المخيف الذي يقتل بلا حساب ويفر منه الجميع، قابل مرة صبي أعطاه والده جعبة سهام ليتعلم صيد الأرانب، ولأن الصبي غير محمل بحاجز الخوف منه لم يهرب، فغضب تأبط شرًا وسبّه، فأخرج الصبي سهمًا بهدوء وضربه فقتله. هكذا ببساطة قتل الطفل الطاغية المرعب. لا يفرق هذا الموقف إطلاقًا عمّا حدث بين شخصيتي عادل إمام وصلاح قابيل. أما الأمر الثاني فهو تحول الشخص البريء إلى طاغية بمجرد أن ينال الزعامة ويهلل الناس له، فالهلفوت يصبح متجبرًا لا يختلف عن الذي هزمه، لمجرد أنه وجد نفسه في مكانه، محاطًا بالتهليل والنفاق والخوف.
المكان بطل العمل
أثناء التحضير لفيلم «رغبة متوحشة» كنت أدرك أن المكان هو البطل الحقيقي للعمل، وأنه لو لم نختر مكانًا مناسبًا فلن يكون لدينا فيلم من الأساس. ذهبت إلى الجارسونات العاملين بالفندق الذي أجلس فيه يوميًا، وطلبت منهم البحث عن مكان بالمواصفات المطلوبة، ووعدت من يجد المكان المناسب بمكافأة مالية، وهو ما حدث بالفعل من أحدهم الذي وجد لنا الموقع الذي صورنا فيه الفيلم.
الفارق بين الشاشات
الفارق بين الكتابة للسينما والكتابة للتلفزيون هو أن مساحة الدراما التلفزيونية تجعل من المستحيل أن يقوم عمل على فكرة واحدة، بل يجب على الكاتب أن يصنع ما أسميه «ضفيرة شعر»، مكونة من عدة أفكار يجمعها إطار واحد، وهي الحقيقة التي أدركها مبكرًا من جيلي أسامة أنور عكاشة الذي ابتعد من بدايته عن مشكلة «اللت والعجن» أو الإطناب، التي يقع فيها كل من يحاول كتابة مسلسل اعتمادًا على فكرة واحدة. في المسلسل أنت تقوم بعمل فروع لأصل الدراما أشبه بفروع الشجرة، بينما في الفيلم تقوم بتقليم هذه الفروع والتخلص من الزوائد، لكنها تظل شجرة درامية أيضًا.
لدي عدة أعمال تحولت من أفلام إلى مسلسلات، وبخلاف العمل على الخطوط الموازية، فالحضور الواضح للحوار شرٌ لا بد منه في المسلسل الإذاعي أو التلفزيوني. اهتم بالحوار بأكبر قدر ممكن، فبدلًا من حشوه بكلام من نوعية «صباح الخير، تعالى اتغدى عندنا» الذي يجعل المشاهد يمل منك من اللحظة الأولى، أقوم بفتح مجال للحديث عن أمور ومشاعر إنسانية مرتبطة بالحكاية، هذا حوار يحبه المشاهد ولا يمل منه أبدًا، حتى لو كان حرفيًا مجرد «فرد للفطيرة»، أقوم فيه بمد حدث أكتبه للسينما في دقيقة ليصبح عدة دقائق في مسلسل، ولكن الجمهور سيحترمك لأنك احترمته ولم تملأ دقائق المسلسل بكلام فارغ.
الهرب من التوقعات
المهمة الرئيسية لكاتب السيناريو هي الابتعاد الكامل عن التوقعات، إذا أصبح المشاهد قادرًا على توقع الحدث المقبل في حكايتك، أو حتى توقع جملة الحوار التالية، فيجب عليك أن تعيد النظر فيما كتبت، وإلا سيقرر المشاهد نفسه أن يترك عملك الذي لا يقدم له أي جديد.
إعادة الكتابة
أول من علمني إعادة الكتابة هو الكاتب المسرحي الكبير ألفريد فرج، الذي نصحني ألا أترك أحدًا يراجع عملي، بل أقوم بمراجعته بنفسي، وأخبرني أنه أعاد كتابة مسرحية «سليمان الحلبي» 14 مرة، حتى وجد أن النسخة 14 لم تختلف إطلاقًا عن 13، فأدرك أن لم يعد لديه ما يضيفه أو يحسّنه، لذلك فأنا أعيد كتابة كل ورقة، وأجد نفسي اكتشف ما هو أفضل في كل إعادة للكتابة.
الحوار ولغة الشارع
أختلف مع من يستخدمون حوار فج وسوقي ويقولون إنها «لغة الشارع»، فأنا أؤمن أن على الكاتب الارتقاء بالذوق العام، لأننا في النهاية نصنع فنًا، والفن يرتبط تلقائيًا بالجمال. لا أقصد بالطبع أي شكل من أشكال النصح أو الوعظ، أو تجميل القبيح، ولكن يمكن أن تستخدم لغة متناسبة مع بيئة شخصياتك وعالمها، لكنها تظل لغة جذابة تمتع من يستمع لها وتثري ذوقه.
أول من أعطاني درسًا في الحوار كان المخرج الإذاعي مصطفى أبو حطب، الذي أعاد لي حلقة كتبتها وطلب مني أن أجد العيب الذي لاحظه فيها، أعدت قراءتها عدة مرات فلم أجد أي مشكلة ملحوظة، ليرد علي بأن ثمّة شخصيتين تقول كل منهما في بداية إحدى جملها «عمومًا»، لأعرف من يومها أن كل شخصية يجب أن يكون لها لسانها المستقل تمامًا، والمستمد من عالمها ووظيفتها، فالطبيب لا يتحدث مثل المهندس مثل الممثل مثل الصنايعي، حتى لو كانوا على نفس المستوى من التعليم والأخلاق، فلكل منهم مصطلحات وتراكيب لغوية آتية من عالم مهنته.
أزمة قصاقيص العشاق
فكرة فيلم «قصاقيص العشاق» جاءتني عندما كنت أقرأ أحد كتب التاريخ فقرأت عن امرأة لُقبت بالألفية، لأنها «وطئها ألف رجل». الفكرة أعجبتني وحركتني، لأفكر في رسم شخصية امرأة عاشت حياتها بالطول والعرض، وفعلت كل شيء جائز وغير جائز، ووصلت لمرحلة من التشبع وربما الملل فلم تعد راغبة في شيء سوى دخول علاقة محترمة وهادئة، وفي المقابل شخصية رجل عاش حياته كلها مستقيمًا ملتزمًا، ويريد أن يجرب نزوة للمرة الأولى، وكيفية لقاء الشخصيتين وتطور العلاقة بينهما.
لم يكن سعيد مرزوق هو المخرج المرشح للعمل، ولكن بطلة الفيلم نبيلة عبيد ألحت عليّ لأوافق على أن يخرج هو الفيلم، خاصة وأنه كان في حاجة ماسة للعمل والمال، فقلت لها إن سعيد مرزوق مخرج موهوب وله خيال ذكي، لكنه شخص مثير للمشكلات في كل مشروع يعمل به، لكنني وافقت في النهاية، وتركت له الحرية الكاملة في التصوير على الرغم من علمي بوقوع أزمات وتوقف التصوير أحيانًا، حتى ذهبت لمشاهدة نسخة العمل فصدمني مستواها. فالفيلم أصبحت مدته لا تكاد تتجاوز الساعة، وهناك استسهال شديد في التصوير، لدرجة أن يتم نقل مشهد من الصحراء ليتم تصويره في بهو الفندق، أو أن يكون هناك أمير عربي جاء بطائرته الخاصة ليقابل البطلة، فيقرر المخرج أن يجعل هذا الأمير يأتي على باخرة، ولا أدري أي منطق الذي يجعل أمير يسافر بالباخرة كالفقراء، اللهم إلا منطق الرغبة في الاستسهال والتوفير.
كان عليّ أن أتخذ قرارا من اثنين: إما أن أتدخل بموجب حقي القانوني كمؤلف وأوقف عرض الفيلم، بما يعنيه هذا من خسارة كاملة للمنتج، أو أن أطلب رفع اسمي من على عناوين وأفيشات العمل وأترك لهم حرية التصرف في الفيلم بعيدًا عن اسمي، وهو ما قمت به بالفعل ليُعرض الفيلم بدون اسم مؤلف. ولكنني لا زلت أشعر بالحزن لأن الحكاية كانت تستحق التقديم بشكل أفضل.
حلم إعادة الإنتاج
ليس «قصاقيص العشاق» حالة متفردة. أرغب أيضًا في إعادة إنتاج سيناريو فيلميّ «سوق المتعة» و«ديل السمكة»، فهما – خاصة سوق المتعة – أفكار جديدة تمامًا وأصيلة لا تشبه أي شيء آخر، ولكن الصورة النهائية للعمل لم ترضني بشكل كامل لأسباب إنتاجية. أحلم بتقديم نفس السيناريوهات في نسخ سينمائية أفضل (ملحوظة المحاور: كان مخرج العملين سمير سيف على قيد الحياة وقت إجراء الحوار).
انسحاب المؤلف
الأصل في الأمور أن الكاتب يكتب ليعبر عن قناعاته، أحيانا يمكن إيجاد بعض المرونة، لكن عندما أجد أن المخرج يريد تحويل كتابتي إلى أهداف وقناعات عكسية تمامًا، أنسحب وإلا أكون منافقًا لا يؤمن بما يفعله. وهو ما حدث في حالة «رغبة متوحشة» الذي وجدت علي بدرخان يريد تحويله لشيء مختلف تمامًا ففضلت ألا يقوم هو بإخراجه، مما أسفر عن مفارقة إنتاج نفس القصة في فيلمين هما «رغبة متوحشة» و«الراعي والنساء». أترك للجمهور والنقاد حرية تقييم العملين والمقارنة بينهما اليوم بعد مرور عقود على الأزمة.
تحدي الراقصة والسياسي
بالرغم من أن «الراقصة والسياسي» مأخوذ عن قصة قصيرة شهيرة، لكنه بعيد كل البعد عن القصة الأصلية، لم يأخذ منها سوى السطر الوحيد الذي انطلقت منه في كتابتي، وهو أن الراقصة تقول للسياسي «أنا أهز وسطي وأنت تهزر لسانك».
هذه القصة لم أختر أن أكتبها، لكن نبيلة عبيد اشترتها وأعطتها لأكثر من كاتب ليحولها سيناريو فلم يخرجوا بنتيجة جيدة، فأحضرني المنتج إبراهيم شوقي وطلب مني العمل عليها، فرفضت لعدم رغبتي، لكنه رد بما معناه أني لا أستطيع أن أحولها فيلمًا، فرددت عليه بأني قادر على كتابتها «بصباع رجلي»، فأخذت القصة وكتبت السيناريو في 15 يومًا، كنوع من العند لأنه قال لي أني لن أستطيع.
نظام العمل
كل شيء يأتي بالتجربة، وفي سنواتي الأولى وقعت في خلافات جعلتني أحسم النظام الذي أسير عليه منذ سنوات طويلة، فأنا لا أتعاقد كي أكتب، بل لا أوقع العقد إلا بعد أن يكون لدي السيناريو كاملًا، ويقرأه المخرج والمنتج اللذين أراهما أنسب لصناعته، ونتناقش حول رأيهم فيه والتعديلات التي يرغبون فيها إن وجدت، وعند الوصول لاتفاق حول كل هذا، أقوم وقتها بتوقيع العقد، حتى لا أكون مضطرًا لخروج عمل لا أرضى عنه.
مسلسل العائلة
يكذب من يقول إني كتبت مسلسل «العائلة» بتكليف من أحد أو كخطة حكومية لمحاربة الإرهاب، بل كتبته من تلقاء نفسي ككل أعمالي، وقدمته لقطاع الإنتاج الذي كان وقتها الجهة الوحيدة التي تنتج أعمالًا تلفزيونية، وعُرض على لجان القراءة بالقطاع بشكل طبيعي حتى تم تصعيده إلى وزير الإعلام صفوت الشريف. وقتها تم استدعائي لقطاع الإنتاج، وطلبوا مني صراحة أن أخفف من نبرة معاداة التطرف الديني، لأن الدولة غير راغبة في استعداء الجماعات المتطرفة في الصعيد. رفضت ما طلبوه وظل السيناريو معلقًا لمدة سنتين، حتى بدأت الجماعات الإرهابية في تنفيذ عمليات دون أن يستفزها أحد، فتم استدعائي لاجتماع مع صفوت الشريف وممدوح الليثي رئيس القطاع، وأخبروني بالموافقة على إنتاج المسلسل كما كتبته.
كان المفترض أن يُخرج المسلسل عاطف الطيب، وكان المرشح لبطولته عدد من الممثلين اعتذروا لأسباب واهية، ربما بدافع الخوف، فما كان منّي إلا أن اتصلت بمحمود مرسي، وهو أستاذي وكنت أحبه وأقدره ويكن لي حب وتقدير مماثلين، عرضت عليه الأمر بوضوح وأننا عرضنا المسلسل على آخرين فأحجموا، وقلت له أنه أنسب من يلعب الدور، فرد وسألني: إذا كنت أصلح ممثل للدور، فلماذا لم تعرضه على من البداية؟ فقلت له أني كنت بصراحة أخاف عليك، فرد عليّ بجملة لا أنساها، قال لي: «وحيد ابعت لي المسلسل، لو كان سيئًا سأرفضه، لكن لو المشكلة في الخوف الإرهاب، فأنا مستعد أن أمسك بندقية وأقاتله معك». وهكذا جاء العظيم محمود مرسي بطلًا للمسلسل.
اقرأ أيضا:
وحيد حامد يتذكر (1): الحكاية والفيلم الأول
وحيد حامد يتذكر (2): النجاح الكبير والتعلم من الأخطاء
وحيد حامد يتذكر(3): الإنسان يعيش مرة واحدة.. أول الأفلام الكبيرة
وحيد حامد يتذكر (4): حلقة خاصة عن الاقتباس ومراحل العمر ودروس الفشل