فاصلة

مقالات

وحيد حامد يتذكر (5): كاتب السيناريو والسياسة والمجتمع

Reading Time: 9 minutes

اكتملت نجومية وحيد حامد، وترسخ وجوده سريعًا كواحدٍ من أهم كُتاب السيناريو المصريين، فلم تمر خمسة أعوام من عرض فيلمه الأول «طائر الليل الحزين»، إلا وقد صار ملء السمع والبصر، يحاول التجريب والتغيير من جلده، والانتقال بين الأفكار الأصلية وتلك المأخوذة من مصادر مسرحية وأدبية، والأهم بدأت محاولاته الدؤوب لتناول أوضاع السياسة والمجتمع، وتشريحها دراميًا عبر شخصيات من لحمٍ ودم، يحكي من خلالها حياة الإنسان المصري في لحظة تاريخية عصيبة، وهي المحاولات التي ستثمر حتى اليوم الأخير من عمره، وستُنتج عددًا من أهم الأعمال السينمائية والتلفزيونية والإذاعية في تاريخنا الفني.

في هذه الحلقة الجديدة من حوارات الكاتب الكبير، نواصل الإبحار في أفلامه، متناولين ثلاثة أفلام عُرضت خلال عامي 1982 و1983، أولها فيلم يعتز كاتبه كثيرًا به وبنجاحه الفني والجماهيري، بالرغم من إنه ليس من أفلامه المشهورة اليوم، والثاني واحدٍ من أفلامه الخالدة، والتي أثارت وقتها جدلًا كبيرًا عندما اتُهم بأنه يروّج للحل الفردي وفرض الإنسان رؤيته للعدالة بالقوة، وبكونه يحاكي في مشهد النهاية عملية اغتيال الرئيس المصري أنور السادات. أما الفيلم الثالث، فلم يسلم من لسان كاتبه اللاذع بسبب مستواه النهائي!

أرزاق يا دنيا (1982)

وحيد حامد: لم آت بشيء من عندي في هذا الفيلم، فقط أحضرت الشارع إلى الشاشة. السوق السوداء لتذاكر الأفلام ومعارك سينما ديانا، ومحاولات توظيف الوافدين للقاهرة في المهن الوضيعة، كانت بذرة العشوائية التي سيطرت اليوم على المدينة. تجد على الفرشة بضاعة بعشرات الآلاف، بينما البائع لا يملك في جيبه خمسة جنيهات، لأن هناك معلم يقوم بتشغيله. ما حاولت فعله في الفيلم هو الدخول إلى البعد الاجتماعي للمدينة، وللوافدين إليها. حاولت الحديث عن القاهرة من أعلاها وأسفلها، من غرف السطوح والبدرون، وهي أماكن صالحة لدراما تصنع مئة فيلم.

لا أعلم مدى وضوح الأمر وقت صناعة الفيلم، لكن لو مددنا الخطوط على استقامتها فسنجد أن هذا النزوح للقاهرة، وما صاحبه من بناء عشوائي واستحضار للثقافة الريفية في وسط العاصمة، هو سبب رئيسي للنكوص الحضاري الذي تعاني منه القاهرة تحديدًا ومدن مصر بشكل عام. هل كانت القضية مطروحة للنقاش من هذه الزاوية في الثمانينيات؟

في مصر تحولت المدن إلى قرى، ليس فقط على مستوى البناء والشوارع، ولكن في الثقافة العامة لرجل الشارع. هذه النظرة لم تكن مطروحة وقت صناعة الفيلم، كانت مجرد بدايات.

وحيد حامد
أرزاق يا دنيا (1982)

هل هذا من وظيفة الكاتب؟ أن يلمح بذور مشكلات ستتفاقم في المستقبل؟

لم أكن أرى تبعات المشكلة في المستقبل، كنت فقط أرى الواقع، أرى أزمة لابد من التنبيه لها وإثارة النقاش حول جوانبها، لا أدعي إطلاقًا أني قادر على التنبؤ، وأي فيلم قدمته كنت أرغب في مناقشة ما يحدث في العصر الحاضر، وبالطبع ما يحدث الآن لا بد وأن يكون له تبعات وتأثير على المستقبل. وإذا عملت دائمًا أن تأخذ موضوعك من الناس، فسيحترمه الناس تلقائيًا ويُقبلون عليه.

بعيدا عن النظرة المستقبلية للفيلم، ترينا تتابعات البداية قسوة المدينة في استقبال هؤلاء الوافدين، وكيف تجبرهم من اللحظة الأولى على دخول دوامة من الانكسار. هل يمكن أن نقول إنها معادلة خاسرة للطرفين؟ مدينة تتشوه وأشخاص يعيشون في قهر؟

في رأيي هي تعبير عن عجز الدولة، تعرية لمؤخرة الدولة، التي يتم كل شيء فيها بالتواطؤ. في يوم ما كان زكريا محيي الدين رئيسًا لوزراء مصر، وأخذ قرارًا جريئًا بمنع دخول الوافدين للقاهرة، إلا لمن يمتلك وظيفة وسبب واضح للزيارة، ولكن الحكومات الضعيفة لم تتمكن من الحفاظ على قراره. نفس الشيء بالنسبة للعشوائيات، ذات مرة اتصل بي وزير الحكم المحلي، وأخبرني أنه أخذ قرار بنسف أول عمارة تم بناءها على أرض زراعية في محافظة الجيزة، لكن رئيس الوزراء قرر إيقاف قراره، وبالتالي إيقاف ردع المُخالف.

هذا بخلاف المركزية الشديدة التي تجبر الناس على اللجوء للقاهرة، المستشفيات المجهزة وفرص العمل والمصانع، يأتون بالحديد والصلب من أسوان ليتم تصنيعه في القاهرة بدلًا من بناء مصنع له هناك، يقولون إن المصانع في العاشر من رمضان.. يا فرحتي! هي أيضًا بحكم الامتداد العمراني جزء من القاهرة. يجب إنشاء المصانع والخدمات في المحافظات، وإلا لن نصل لحل أبدًا.

نعود للفيلم، ولشخصية ممتازة دراميًا هي الشخصية التي لعبتها شويكار. يعجبني تحديدًا مخالفتها للتوقعات، فبعد غضبها من ترك البطل لها وزواجه سرًا، نظن أنها ستتصرف بالشكل المحفوظ في السينما المصرية وتثير مشكلة معه، لكنها تفاجئنا بتفهم موقفه، ولومه على عدم إخباره لها.

هي لم تتفهم موقفه، تفهمت موقف نفسها. هي من خرجت على المعاش، وأرادت علاقة برجل أصغر منها من الطبيعي أن يرتبط بشابة في عمره. بالإضافة لكونها سيدة ذكية، لقد حسبت موقفها بعقل وعرفت أنها لو تمادت معه فستجرح نفسها بما قد يقوله لها. ويمكن القول إني انتصرت بتصرفها للطبيعة البشرية.

وحيد حامد
أرزاق يا دنيا (1982)

هل لهذا علاقة برغبة البشر الفطرية في الحفاظ على كرامتهم؟ وأنها إن أثارت مشكلة ستجرح طبيعتها البشرية بهذه الصورة؟

كنت أقصد الفارق العمري في العلاقات. لكن فيما يتعلق بدراما الشخصية، فلكل شخصية درامية فلسفتها ومنطقها الخاص. هي تعرف نفسها جيدًا، لديها الإحساس الذي كوّنته خلال علاقتها بشاب يصغرها، شاب علاقته بها ليست قائمة على رغبة حقيقية أو حب حقيقي، وقد تصرفت انطلاقًا من هذا الإحساس.

الغول (1983)

كنت أقرأ كتابًا للأستاذ محمد أحمد الحفني عن موسيقار من العصر العباسي. في مقدمة الكتاب كتب الحفني أن الموسيقيين في أوروبا كانوا مُحتقرين ومُهانين، لدرجة أنهم في مقاطعة ساسكونيا كانوا يعاملون الموسيقي باعتباره ظل إنسان وليس إنسانًا، وإذا قام أحدهم بقتل موسيقي لا تتم محاكمة القاتل، بل محاكمة ظله، ويقام تنفيذ هزلي للحكم يتم فيه إعدام الظل في مكان مُشمس. عند هذه اللحظة أغلقت الكتاب وقلت أنّي قد وجدت ضالتي، فقد شاهدت في عصر الانفتاح أشخاص يُعاملون بالفعل كظل آدميين لا ديّة لهم، ومن هنا جاءت فكرة المسلسل الإذاعي «قانون ساكسونيا» الذي تحوّل لاحقًا إلى فيلم «الغول».

في البداية لابد وأن أسأل عن سر تغيير عنوان المسلسل عند صناعة الفيلم برغم من النجاح الكبير للعمل الإذاعي؟

المنتج واصف فايز رأى أن «قانون ساكسونيا» اسم غير جذاب للجمهور، وكثيرًا ما يتسبب المنتجون في إفساد بعض العناصر الجيدة في الأفلام، فالاسم القديم بالطبع أنسب للفيلم.

رأي المنتج يبدو غريبا لأنه لا يتعامل مع سيناريو جاءه من الصفر، بل مع عمل ناجح وله جمهور من الممكن أن يستغله، لا أتصور أن يُصنع مثلًا فيلم عن رواية باعَت عشرين طبعة، دون الاحتفاظ باسم الرواية لضمان جمهورها.

هذا كان الوضع وقتها، بالرغم من أن نجاح المسلسل جعل وصف «قانون ساكسونيا» لفظ شعبي يطلق على أي حكم جائر، ورغم أن وقتها كلمة ساكسونيا لم تكن غريبة على الأذُن، فقد كان باعة الروبابيكيا (الخُردة) يهتفون «ساسكونيا بالأزايز»، بمعنى أنه بإمكان الزبون أن يحصل على أطباق وملاعق مستعملة نظير ما يعطيه للبائع من زجاجات فارغة. لكنها في النهاية عقلية المنتج وقراره.

بما أنك تحدثت عن عصر الانفتاح، يعجبني في الفيلم أن شخصية الكاشف التي لعبها فريد شوقي هي لرجل أعمال بالغ الثراء، لكنه ليس رجل سلطة أو دولة كما هو الحال في طائر الليل الحزين مثلًا، ربما هذه قراءة ممتازة لفكرة سطوة المال القادر على التحكم في السلطة.

المال والسلطة نسيبان، لو تواجدا معًا فـ «كل سنة وأنت طيب» على كل شيء. أما في حالة التواجد المنفرد، فالمال أقوى من السلطة، لأنك بالمال تستطيع أن تشتري السلطة، ومن لا تستطيع شراءه، سيجد نفسه دائمًا في مواجهة ضخمة أكبر من قدراته.

وحيد حامد
الغول (1983)

في تحويل المسلسل الإذاعي لفيلم أظهرت كالعادة حرفة تقديم الشخصية في مشهدها الأول، وأعني مشهد وصول الممثلة بحثًا عن الصحفي عادل، الذي يبدو غير مهتمًا بمظهره أو ملبسه…

(يقاطعني) إنه سامي السلاموني

لا أفهم التشبيه!

الصحفي عادل هو سامي السلاموني. الشخصية استلهمتها من مصدرين شديدي الاختلاف رغم تشابه ظروفهما: سامي السلاموني وفؤاد معوض (فرفور). كنت متأثرًا بهما والاثنين كانا أصدقائي، سامي السلاموني بثقافته العامة والتزامه السياسي والسخط الكبير على العالم داخله، وفؤاد معوض (فرفور) بعلاقاته المتشعبة وفوضويته. وهو أمر لا يخفى على أحد، لدرجة أن عادل إمام عندما قرأ السيناريو قال لي «ده سامي السلاموني»، وحتى سامي نفسه أدرك أنه المقصود وأشار لذلك بشكل ساخر في مقاله عن الفيلم.

هذا ليس عيبًا، فقد كنت أحب السلاموني وأتأثر به. كان أحيانًا ما يهاجمني في مقالاته النقدية، ورغم هذا كنت أحبه لأني أؤمن بصدقه وصحة منطقه، وتعلمت منه الكثير سواء في مصر أو خلال رحلاتنا سويًا لحضور مهرجان كان. وبشكل عام الشخصيات لا بد وأن يكون لها أصل ما في الواقع. الشخصية التي لا أصل لها سرعان ما تموت في الأذهان.

حكاية الفيلم تبدأ في مرحلة متأخرة جدا من حياة عادل، بعد أن يتعرض لمشكلات أسرية فيترك زوجته، ومهنية فينتقل إلى قسم الفن. هذا يتفق مع عبارة تقول إن الدراما الجيدة هي التي تبدأ عندما يكون البطل قد تعرض بالفعل لتجربة واتخذ قرارًا، هل توافق على هذا القول؟

لا أتفق معه ولا أرفضه، لكنه ليس حقيقة مطلقة، فعلى العكس منه هناك المصادفة التي تصنع بطلًا، تجربة يتعرض لها شخص تافه فتخرج من داخله شخصية مغايرة تمامًا وربما تغير مسار حياته. هذا قدمته مثلًا في فيلم «الهلفوت»، الإنسان الهامشي الذي غيرت صدفة من حياته كلها، وهو بهذا على العكس تمامًا من شخصية الصحفي عادل من حيث البناء وعلاقة نقطة بداية الفيلم بخبرة الشخصية.

وحيد حامد
الغول (1983)

نعود لصنعة سيناريو الغول، والذي أراه نموذجا لكتابة عمل يجمع بين جودة البناء الدرامي وجودة بناء الشخصيات، هناك حكاية محكمة البناء، مثيرة يصعب التوقف عن متابعتها، بالتوازي مع شخصيات مرسومة ببراعة لدى كل منها أزمة شخصية تحركها.

سأقول لك شيئا لو قلت غيره سأكون مدعيًا. بالنسبة لي عندما أكتب سيناريو لا أضع أهدافًا ولا أرسم لنفسي خريطة، أكتب بشكل تلقائي ودون حسابات، كالذي يلقي نفسه في البحر كي يسبح، هو يستخدم القدرات والقواعد التي منحها الله بشكل فطري، ويزيد عليها مهارات تعلمها وخبرات اكتسبها، لكنه في النهاية يسبح بتلقائية ولا يضع خطة مسبقة. لا أقوم مثلًا مثل البعض بكتابة تتابع للمشاهد. 

هذا يتفق مع قناعتي بأن الإبداع سابق للتنظير، وأن قواعد الكتابة وقواعد أي فن، هي نتيجة لإبداع أشخاص قاموا به بفطرتهم وموهبتهم ثم جاء من استخلصوا منه قواعد ومعادلات ونصائح.

بالضبط، وأزيد أنه من الضروري ألا تظل هذه القواعد ثابتة، فالدنيا تتطور، والثبوت في الإبداع يعني أنك ترجع للخلف، لا يوجد من يقف في مكانه.

بخلاف النضج في التأليف هناك نضج هائل في الإخراج، وسمير سيف مخرج كبير لكن في «غريب في بيتي» مثلًا كانت له بعض الهنّات، هنا نشاهد مخرج من الطراز الأول، ذكي وواع وممتع ومحتفظ بإيقاع فيلمه من أول لآخر لحظة.

سمير سيف مخرج «عتويل»، من كبار هذه الصناعة في مصر. و«غريب في بيتي» في النهاية فيلم كوميدي، جدية التناول فيه تختلف، ويختلف طبقا لها مستوى الإتقان، وهذا ليس عندنا فقط، ولكن في العالم كله. أما في فيلم مثل «الغول»، فالمخرج والكاتب يُخرجان أفضل ما عندهما من جدية وإتقان.

في الفيلم الكثير من الإهداءات والإحالات، فعادل يشاهد «صراع في الوادي» في التلفزيون، ويتجه ليقتل الكاشف ممسكا بكتاب أندري مارلو «قدر الإنسان»، وغيرها من إشارات يمتلئ بها الفيلم. هل كانت هذه الإحالات موجودة في السيناريو؟ أم هي إضافات من سمير سيف؟

بعضها من ذهني وبعضها أضافها سمير. أذكر مثلًا مشهد القتل الأخير تم تصويره في نادي الصيد، وأثناء تحضيرهم للمشهد جاءتني فكرة إضافة كتاب أندري مارلو، فطلبت منهم الانتظار قليلًا، وتوجهت من نادي الصيد لمنزلي وأحضرت الكتاب ليمسكه عادل خلال المشهد. هذه أمور تضيف قيمة وعمق للمشاهد، ولا يقوم بها إلا «المرضى بالحب»، المرضى بحب السينما وحب عملهم وحب الإتقان، وأعتقد أن هذا ينطبق في الفيلم على مخرجه وبطله ومؤلفه.

هذا الحب ضروري للمبدع؟

هذا الحب ضروري للجميع. عندما كنا نصور «اللعب مع الكبار» كاد تصوير مشهد النهاية في سنترال الدقي أن يتعطل بسبب عدم التوصل لطريقة يوضع بها كشاف إضاءة ضخم في ارتفاع معين، وإذا بعامل إضاءة قوي البنية يتدخل ويحمل الكشاف طوال فترة تصوير اللقطة دون أن يهتز رغم ثقل وزنه، فقط لأنه يحب عمله ويريد أن ينهيه على النحو الأمثل، هذا مجرد عامل لكنه قدم لي درسًا في حب المهنة.

عندما كنت أقود سيارتي بنفسي وكنت أسمح لشخص بأن يقودها ولو لمشوار بسيط ثم أعود لأركبها، كنت أشعر أن ثمّة شيء قد تغير فيها. ولديّ بعض النباتات أزرعها وأرعاها في شرفة منزلي، عندما أسافر وأتركها لغيري أعود فأشعر أنها قد اختلفت، وتحتاج لفترة كي تعود لحالتها التي أعرفها. عندما أروي مثل هذه الحكايات للبعض يسخرون ويعتبروني أتخيل هذا الاختلاف، لكنه حقيقة لا يعرفها إلا المحب. وبالمناسبة السينما تجري في دم سمير سيف أصلًا، بالتوازي مع حب آخر هو التدريس، لذلك فستجد كل من درسوا في المعهد يشهدون بأن أفضل من درسوا لهم هما الراحل رفيق الصبان وسمير سيف، لأنهما يعشقان ما يقومان به. (ملحوظة: أجري الحوار قبل وفاة المخرج الكبير سمير سيف)

الفيلم في نهايته يوحي للمشاهد بأنه سينتهي نهاية جماهيرية معتادة، تمكن الأبطال من تهريب الشاهدة واستعدت للذهاب للمحكمة، لكن كل هذا ينهار فجأة ويخرج الكاشف وأبنه بلا إدانة، لماذا؟

لأنه «ماينفعش» أن ينتهي بانتصار جماهيري يخدر الناس عن المشكلة الحقيقية، وهذا كان سبب مشكلة الفيلم عندما قالوا أنني أروج للحل الفردي وأشيد بقتلة السادات، فقط لأن المشهد الأخير دافع فيه رجال الأمن عن أنفسهم بما وجدوه أمامهم وهي المقاعد، تماما كما حدث في حادث المنصة، فأساء الناس تفسير الفيلم. لكنها كانت النهاية المناسبة للفيلم دون أن أقصد أي إشارة، ووقتها كنت بشكل شخصي ضد النهايات السعيدة، لأني كنت رافضًا لما يحدث حولي، وعندما تكتب وأنت رافض تكون غاضبًا لدرجة الحكم على بعض الشخصيات بالموت، وهذا ما حدث.

العربجي (1983)

أعتقد أن «العربجي» كان فكرة أجهضت، أجهضها فقر الإنتاج واستعجال المخرج في إنهائه. ما أذكره عن الفيلم أنه قد اختير لسبب ما للعرض في مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي. وعندما عُرض وأقيمت ندوة بعده، وجدت جميع النقاد متحفزين للهجوم على الفيلم وصناعه، ووجدت المخرج في المقابل يستعد للدفاع عن نفسه وتحويل الأمر لشجار. طلبت الكلمة في بداية الندوة وقلت للجميع أنني أندهش من وجودي هنا، لأني كنت أتصور أن الفيلم مكانه العرض في سينما كوزموس الشعبية وليس في مهرجان دولي، فقام الناقد الراحل سامي السلاموني وقال لي «أنت ضربت كرسي في الكلوب وفضيت المولد قبل أن يبدأ». أعتبره فيلمًا أُسقطه من حساباتي تمامًا.

العربجي (1983)
العربجي (1983)

لكني أجد في الفيلم فكرة عامة ذكية، هي اقتناع شخص بأن الطريقة الشرعية للتخلص من المال الحرام الذي ربحه في اليانصيب هي أن ينفقه في الحرام.

في النهاية المحصلة أن الفكرة لم يُكتب لها التنفيذ الجيد، والفيلم في النهاية جاء ضعيفًا.

 أريد أن أسأل على تفصيلة إذ ما كانت قرارك أم قرار المخرج، لأنها لم تتكرر في أي عمل آخر من تأليفك، وهي نزول تترات النهاية مسبوقة بحديث شريف يحمل قيمة أخلاقية.

لم تكن فكرتي بالطبع ولا أعرف عنها شيئًا. أعتقد أنه خيار المخرج أحمد فؤاد، الذي صَنَّف نفسه كمخرج كوميدي، وكان يجري وراء الإضحاك بأي شكل، وفي سبيل ذلك لا يعطي الاهتمام الكافي لأشياء أهم في الفيلم، وهو ما جعله ينفذ الفيلم بمنظور لا يصلح إطلاقًا مع كتابتي، التي قد تحمل بعض الكوميديا، لكنها كوميديا أحاول أن تشعر المشاهد بالبهجة وتدفعه للتفكير، وليس لانتزاع الضحك بأي صورة. أحاول المزج بين المأساة والملهاة، والمحاولات أحيانًا تصيب وأحيانًا تخطئ.

هل كان هذا سببًا في عدم عملك مع أحمد فؤاد مجددًا؟

ربما، أو ربما لم تسمح الظروف بذلك، خصوصًا أنه لم يكن يعمل كثيرًا وكان مشغولًا بالكثير من الأمور الأخرى.

اقرأ أيضا:

وحيد حامد يتذكر (1): الحكاية والفيلم الأول

 وحيد حامد يتذكر (2): النجاح الكبير والتعلم من الأخطاء

 وحيد حامد يتذكر(3): الإنسان يعيش مرة واحدة.. أول الأفلام الكبيرة

 وحيد حامد يتذكر (4): حلقة خاصة عن الاقتباس ومراحل العمر ودروس الفشل

شارك هذا المنشور