من الصحافة إلى السينما، ارتسم طريق المخرج السعودي وائل أبو منصور، استغرقته الصحافة سنينًا طويلة تلت إنهائه لدراسته، وعندما بدأت الصحوة السينمائية في السعودية، بدا وكأنه قضى أعوامًا يتشرب المجتمع السعودي وتحولاته في العقود الثلاثة الأخيرة ليبدأ من خلالها صنع تجربته السينمائية التي كان أحدث إنتاجاتها فيلم «صيفي» الفيلم السعودي الوحيد المشارك في مسابقة مهرجان البحر السينمائي في دورته الرابعة التي أقيمت في ديسمبر الجاري.
في فيلمه الأحدث، يعيد أبو منصور النظر إلى بداية الألفية في السعودية، ويلتقط ظاهرة الأِشرطة الدينية التي راجت خلال تلك الحقبة والمنظومة الاقتصادية والاجتماعية التي وقفت خلفها ليتخذ منها قاطرة للسرد في «صيفي»، والذي يعتبر أبو منصور اختياره في المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر بمثابة اعتراف بجودة العمل، ومصدر فخر له كصانع أفلام.
في حديثه مع فاصلة أكد أبو منصور أن النوستالجيا، أو الحنين إلى الماضي ممثلًا في حقبة التسعينيات التي رافقت طفولته وبداية مراهقته لم يكن هو المحرك وراء اختياره لهذه الفكرة التي بنى عليها فيلمه الأخير، معيدًا التأكيد في رده على سؤال فاصلة، بأن الزمن لم يكن العنصر الأهم في القصة، بل كان المحور الأساسي هو شرائط الكاسيت وما ارتبط به من سياقات اجتماعية وسياسية كانت هي مركز الفيلم. مذكرًا بما صرح به سابقًا بأنه منشغل لا بالنوستالجيا، وغنما نسيج المجتمع السعودي وما يمر به من ظواهر وتغيرات.
يقول أبو منصور: «إعجابي مركز على المشهد المجسد في شريط الكاسيت، وبالانتشار الذي يحظى به، في فترة زمنية ينظر إليها الكثيرون باعتبارها فترة راكدة لم يكن يحدث فيها شيء ولم يشهد المجتمع تغيرات كبيرة». وجدت المخرج المولود في عام 1980 في شريط الكاسيت المنتشر في حقبة التسعينات فرصة لالتقاط مقطع من المجتمع في لحظة بعينها وتسليط الضوء عليها وعلى طبيعة العلاقات الاجتماعية خلالها وفحص الجدال بين مختلف مكونات المجتمع في تلك اللحظة بالذات.
يشرح وائل أبو منصور، أن فكرة شرائط الكاسيت ومتاجرها وما يرتبط بها هي التي انتقت الحقبة الزمنية التي تدور فيها أحداث الفيلم، وجعلت من التسعينيات ضرورة فنية، «كان ذلك تحديًا على مستوى الكتابة، خصوصًا مع اختيار خمس شخصيات تدور حول الشخصية الرئيسية، صيفي، باعتبارها المحرك الأساسي للقصة».
يؤكد أبو منصور أن وجود خمس شخصيات أساسية في السرد تطلب منه كتابة متوازنة، حيث إن تنقل الشخصية الرئيسية بين هذه الشخصيات وعلاقته المعقدة معها قد يسبب بعض الإرباك. لذلك، مر النص بمراحل من التشذيب وإعادة الصياغة لضمان عدم طغيان الشخصيات الجانبية على الشخصية الرئيسية من جانب، ولضمان أن مساحتها في السيناريو وبالتالي على الشاشة هي مساحة كافية لاستكشاف تلك الشخصيات وفهم علاقتها بالبطل والتأثر والتأثير المتبادل فيما بينها بحيث لا تفقد أية شخصية فعاليتها وتأثيرها على الأحداث. ويرى المخرج أن هذا أضفى جانبًا ترفيهيًا مشوقًا على السرد، بعيدًا عن الرتابة التي قد تحدث عند التركيز فقط على وجهة نظر واحدة.
التحدث لم يتوقف عند الكتابة وضمان مساحة الشخصيات في السيناريو، بل وترجمة هذا السيناريو إلى صورة أيضًا، يشرح أبو منصور: «العمل مع خمس شخصيات شبه رئيسية تطلب تنسيقًا دقيقًا. أداء أي شخصية لم يكن في يومه قد يؤثر على توازن القصة بأكملها». ولكن بفضل فهم الممثلين العميق لشخصياتهم، تمكنت مجموعة العمل من تقديم شخصيات تُشعر المشاهد بأنها ليست ثانوية، بل شبه رئيسية، لكل منها دور في تحريك الأحداث للأمام. هذا التوازن، من وجهة نظر المخرج، ساهم في تقديم سرد ممتع وغني بالتفاصيل.
ولأن ما بين فيلم الروائي الأول «مدينة الملاهي» وفيلمه الثاني «صيفي» أربعة أعوام، لم يخرج فيها للشاشات فيلم يحمل اسمه إخراجًا أو تأليفًا لكنها فترة تولى فيها إدارة استديوهات تلفاز 11 والتي ساهمت بإنتاج 8 أفلام طويلة ثامنها كان فيلمه صيفي، يقول أبو منصور أن لـ تلفاز أثر كبير بالفعل على عودته للسينما في فيلمه الأخير، مُبديًا امتنانه لتلفاز على إنتاج فيلمه وسط تنافس كبير بين صناع السينما السعوديين على فُرص الإنتاج.
يضيف أبو منصور: «الحصول على فرصة لإنتاج فيلمي مع هذه الجهة يمثل سعادة غامرة وشرفًا كبيرًا بالنسبة لي، لذا أوجه لهم كل التقدير والامتنان». لكنه يؤكد أن فرصة الإنتاج التي مُنح إياها لإخراج فيلمه «صيفي» وضعت على عاتقه مسؤوليات إضافية كان من شأنها تعزز من رغبته في صناعة تجربة مختلفة عن تجربته الأولى في «مدينة الملاهي» الذي عرض عام 2020. يشرح المخرج «عندما أتحدث عن تجربتي مع مدينة الملاهي مقارنة بـصيفي، أجد أن التجربتين مختلفتان تمامًا. في المرحلة الأولى، كان أغلب المبدعين وصناع الأفلام يعملون بدون وجود تصور واضح للجمهور المستهدف، لأن الأفلام غالبًا كانت تعرض في المهرجانات أو المنصات، مما أتاح مساحة أكبر للتجريب والمغامرة. أما في تجربة صيفي، فالوضع كان مختلفًا تمامًا. نحن نتحدث عن علامة تجارية (يقصد تلفاز) لها جمهورها وتوقعاتها الواضحة. لذا يصبح من المهم جدًا أن يكون العمل متناسبًا مع هذه التوقعات. بالإضافة إلى ذلك، هناك شباك التذاكر وصناعة السينما التي تفرض الوصول إلى شريحة واسعة من الجمهور. العمل ضمن استوديو يتمتع بسجل مميز وحقق أرقامًا كبيرة يضيف عبئًا إضافيًا، سواء على صناع الأفلام داخل الاستوديو أو خارجه. التحدي يكمن في أن المستوى المطلوب مرتفع للغاية، لكن في المقابل، هذا يخلق فرصًا جديدة ويزيد من الشعور بالمسؤولية».
التعاون مع استديو اشتهر بنجاحه الفني والتجاري جعل أبو منصور يفكر أكثر في توسيع قاعدة جمهوره، ومخاطبة اهتمامات شرائح أوسع من الجمهور المعتاد للأفلام القصيرة كما في تجربته الأولى. ولكن المكافأة جاءته سريعًا، يقول أبو منصور: «رؤية الجمهور يتفاعل بشكل إيجابي مع العمل، ويحبه، ويقدم تغذية راجعة بنّاءة لما يمكن تحسينه في المستقبل، تعد متعة لا تضاهى». مؤكدًا أن صناعة الأفلام، أو الفن عمومًا، هي في جوهرها صناعة للتواصل مع الجمهور. «جمال هذه الصنعة يكمن في تحقيق هذا الهدف، والوصول إلى قلوب الناس بعملك، وهذا ما يجعل التحدي ممتعًا ومثمرًا».
اقرأ أيضا: صيفي.. رحلة خلف وهم الثراء السريع