أحب فيلليني “مبارزة” سبيلبرغ، في حين كان كوروساوا من هواة سلسلة “حرب النجوم” للوكاس. تيار “هوليوود الجديدة” الذي فرض قواعده المستحدثة لصناعة فيلم في نهاية الستينات، دوّخ العالم وأحدث تغييراً في الصناعة السينمائية، على غرار “الموجة الفرنسية الجديدة”. هذا العام يجتمع أربعة من رموز هذا التيار في مهرجان كانّ السينمائي الذي تُعقد دورته الـ77 من 14 إلى 25 أيار/ مايو، وهم: جورج لوكاس الذي تُسند إليه “سعفة فخرية” عن مجمل مسيرته، وفرنسيس فورد كوبولا وبول شرايدر اللذان يعرضان جديدهما “ميغالوبوليس” و”أو، كندا” في المسابقة، وستيفن سبيلبرغ الذي سيحصر حضوره بفيلمه “شوغرلاند إكسربس” (1974) في نسخته المرممة المعروضة داخل قسم “كلاسيكيات كانّ”، وذلك بعد نصف قرن على عرضه الأول في المهرجان نفسه حيث فاز بجائزة السيناريو.
هؤلاء الأربعة تتراوح أعمارهم اليوم بين أواخر السبعينات ومنتصف الثمانينات، مع ذلك هم لا يزالون في ذروة انخراطهم في الشأن الجمالي، تحملهم حماستهم من مشروع إلى آخر، من دون كلل أو ملل. لا بل ان بعضهم يحسّسنا بأنه يعيش سباقاً مع الزمن ليمد المكتبة السينمائية بأكبر كم من الأفلام. وقد شبّه مؤرخ هوليوود توماس دوهرتي اللقاء بين كوبولا وشرايدر في مسابقة كانّ بـ”عودة قدامى المحاربين إلى المدينة لمبارزة أخيرة”.
بدأت الحكاية في مهرجان برلين السينمائي العام الماضي، يوم كُرِّم سبيلبرغ بجائزة “دب فخري” تلتها أخرى أُسنِدت في مطلع هذا العام إلى رفيقه سكورسيزي في المهرجان نفسه. هاتان اللحظتان في غضون عام واحد، كوّنتا شعوراً أن “هوليوود الجديدة” (آخر وأبرز تيار جمالي شهدته السينما الأميركية)، هي المكرمة وهي التي يُرد إليها الاعتبار من خلال تكريم آخر رموزها الأحياء.
عندما نحاول استعادة السينمائيين الذين صنعوا أمجاد “هوليوود الجديدة”، ثمة أسماء تحضر وأخرى تغيب. بعضها لا يزال متألقاً وحاضراً بقوة في الآني، فيما أخرى راحت أدراج الرياح، إما خطفها الموت أو طواها النسيان. كأي حركة فنية، لم تكن التجارب كلها متساوية من حيث القيمة، ولم تخرج بخلاصات متشابهة.
بعض السينمائيين كانوا من صميم الحركة، وآخرون مكثوا على هامشها أو اكتفوا بمغازلتها. مصائرهم أيضاً كانت مختلفة عن مصائر بعضهم البعض. في حين هناك منهم مَن عاش تجارب قصيرة ومحدودة زمنياً أو قاسية جماهيرياً، فعرف كلّ من لوكاس وسبيلبرغ قصّة نجاح باهرة، فراكما إلى جانب الخبرة الفنية، ثروات ضخمة إلى حد تحوّلهما إلى أغنى مخرجين في العالم، ليجدا نفسيهما على رأس إمبراطورية سينمائية على امتداد الكرة الأرضية، بحيث يمكن القول أن ضوء النجاح لم يغب عنها يوماً واحداً.
وإذا كان عمل لوكاس، بسبب طلاته المتقطّعة، ورغم العرش الذي يتربّع عليه، في أمس الحاجة إلى قراءة جديدة في ضوء الزمن الحديث والتطور التكنولوجي وتغير المفاهيم وتبدد الغموض في أسرار الكون، فإن رفيقه سبيلبرغ كان الأكثر حضوراً في وجداننا منذ خمسة عقود، وانتهى به الأمر بأن يفتح لنا قلبه في تحفته الأخيرة “آل فايبلمان”. ولذلك الحضور أشكال مختلفة، فبائع الأوهام الأشهر في تاريخ السينما الحديثة، لطالما توزّعت اهتماماته بين الأرض حيث التاريخ وإرثه، والفضاء حيث الغموض والخوف منه.
لم يكن النجاح المطلق نصيب الجميع. كلّ متابع للسينما لا بد أنه يتذكّر ماذا حل بمايكل تشيمينو (1939 – 2016)، وكيف جعلته أميركا يدفع ثمن “تطاوله” على تاريخها في ملحمته الأشهر “باب الجنّة” (1980) الذي لم يستطع النهوض من الفشل الجماهيري الذريع الذي تعرض له.
لا ينسحب ذلك على سكورسيزي الذي صوّر “الثور الهائج” جنباً إلى جنب مع تشيمينو، وكلاهما تسبّبا بإفلاس “يونايتد أرتستس”، لكن سكورسيزي واصل صعوداً، مع ما يعنيه هذا من فترات تألق وبهتان، وهو اليوم المخرج الذي نعرفه.
وفي حين كان الصراع على أشدّه بين جيل صنع هوليوود وجيل أراد تسلّم الدفّة ليحدث فيها تغييراً جذرياً، هناك مَن لم ينصب العداء التاريخي للجيل السابق، إنما كان صلة الوصل بين هوليوود القديمة والجديدة. أفضل مثل على ذلك هو بيتر بوغدانوفيتش (1939 – 2022)، الذي رغم بضعة أفلام مميزة له أشهرها “بايبر مون” (1973)، لم يرتقِ إلى بقية أفراد “العصابة”. زملاؤه آنذاك كانوا دبالما وسكورسيزي وكوبولا وفريدكين وهوبر وسبيلبرغ… رفع هؤلاء شعار قلب الطاولة على رأس سينما الآباء (باستثناء بعضهم مثل جون فورد)، حيث ساد ما كان يُعرف بنظام الاستوديوات. خلافاً للآخرين، وقف بوغدانوفيتش على مسافة من هذه الفكرة، لا بل عندما انطلق في صناعة الأفلام، راح يعبّر عن فكرة موت السينما الكلاسيكية، مصوراً “الميلانكوليا” الناتجة من هذه الخسارة الفاضحة.
يصعب الحديث عن “هوليوود الجديدة” من دون ذكر دنيس هوبر (1936 – 2010) الذي مات مريضاً ووحيداً ومفلساً. هذا الذي كان رمزاً من رموز التمرد على أميركا الطهرانية والقيم المحافظة والمبادئ الأولى المؤسسة لها، قاد صراعاً مفتوحاً مع أشكال السلطة المتخلفة في فيلمه الأيقوني “إيزي رايدر” (1969)، بحيث أصبح ناطقاً باسم جيل كامل. فيلم جعل هوليوود الستينات تنحرف عن مسارها، لتفتح الطريق أمام جيل كامل من الأميركيين الذين يعيشون آخر سنوات حرب فيتنام. جيل آمن بثقافة الـ”ضدّ”. كان يكفي أن يقولوا “أنا ضد”، كي تنبعث فيهم روح النضال والمقاومة، مع ما يعني ذلك من تجاوزات وإقصاء، قد يحتاجان بدورهما إلى إعادة نظر.
وليم فريدكين (1935 – 2023)، أكبرهم سناً، هو الآخر مضى في نهاية الصيف الماضي بعدما كان بلغ السابعة والثمانين. هو أيضاً لمع اسمه خلال الثورة في هوليوود التي كان هدفها التحرر من قبضة الاستوديوات انطلاقاً من نموذج “الموجة الفرنسية الجديدة”، التي كان هذا الفنّان معجباً بها. ساهم فيلمه “الرابط الفرنسي” (1971) في إحداث قطيعة مع السينما الهوليوودية التقليدية، كونه استلهم من الواقع، فكاتب السيناريو إرنست تيديمان استوحى الأحداث من تحقيق بوليسي عن شبكة تجارة مخدرات نشطت بين جنوب فرنسا وأميركا. حقق الفيلم نجاحاً تجارياً كبيراً وفاز بخمس جوائز “أوسكار”.
وكيف لنا أن ننسى براين دبالما، الأقرب إلى قلبي مع سبيلبرغ، وأحد آخر “الناجين” من “هوليوود الجديدة”. بعدما قدّم عملين آخرين لم يرتقيا إلى مستواه السينمائي، ها انه توقّف عن الإخراج بسبب المرض. أنجز دبالما روائع مثل “سكارفايس” و”طريق كارليتو” وأفلام رعب مثل “كاري” و”جسد مزدوج” و”هوس”، وضعته في مصاف الابن الروحي لهيتشكوك، علماً أنه ليس أقل أهمية من “سيد التشويق”.
لنعد إلى كانّ: قبل أيام نشر بول شرايدر صورة معبّرة على صفحته الفايسبوكية هي التي أعطتني فكرة كتابة هذا المقال. مهرجان كانّ أعاد نشر تلك الصورة وهذا شيء لا أتذكّر أنه سبق أن فعله. الصورة التي يعود تاريخها إلى الثمانينات، تجمعه بكوبولا ولوكاس وقد علّق عليها قائلاً “معّاً من جديد”. سيجتمعان مجدداً بعد أيام قليلة على الـ”كروازيت”، وسنرى مَن المصوّر السعيد الحظ الذي سيلتقط لهما واحدة جديدة.
من بين كلّ هؤلاء، شرايدر، ذو الأصول الهولندية، هو الأكثر مواكبةً لكلّ مستجد ومثير في السينما المعاصرة. انه الوحيد الذي يملك حساباً على وسائط التواصل يخاطب من خلاله القراء والمشاهدين ولا يتوانى عن التغريد خارج السرب، لمخالفة الجو الطهراني الذي يسيطر على هوليوود في السنوات الأخيرة بعد انتشار ثقافة الصحوة. فهو من الذين كان وقفوا بشدّة ضد ثقافة الإلغاء التي كان ضحيتها بعض الممثّلين نتيجة اتهامات بانتهاكات جنسية، في مقدمهم كيفن سبايسي. يبقى كوبولا، هذا الطفل الثمانيني بائع النبيذ، الذي راهن بمبلغ 120 مليون دولار من جيبه لتحقيق “ميغالوبوليس” وهو حلم لازمه طوال عقود، عائداً به إلى المهرجان الذي صنع مجده قبل أربعة عقود يوم فاز بـ”السعفة الذهب” للمرة الثانية عن “القيامة الآن”. صحيح ان كلّ هؤلاء أصبحوا في سنّ يصبح فيها معظم الناس متقاعدين، لكن ثمة شعلة مضيئة داخل جيل الستينات هذا، أقوى من أي رغبة في الانسحاب من المشهد قبل قول كلمة أخيرة.
اقرأ أيضا: غودار إن حكى!