كتب المؤلف الأيرلندي برام ستوكر «دراكولا»، في عام 1897. كتاب مرعب كلاسيكي عن شخصية الكونت مصاص الدماء التي تستند إلى الأساطير القوطية، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بترانسلفانيا وجبال الكاربات. بعد ظهور الكتاب، شاهدنا الكثير من الأفلام التي تستند على القصة التي كتبها ستوكر، إلا أنّ أقدم فيلم لا يزال موجودًا هو «نوسفيراتو» (1922 ـــــNosferatu: A Symphony of Horror)، الذي أخرجه الألماني فريدريك مورناو.
مورناو لم يحصل على حقوق الكتاب، لذلك غيّر الاسم، وأعاد تسمية الشخصيات، ولكن الفيلم اتبع قصة كتاب ستوكر. لذلك، رفعت أرملة ستوكر دعوى قضائية ضد مورناو، وأمروا بتدمير نسخ الفيلم. لحسن الحظ، لم يحدث ذلك، فتمكّن «نوسفيراتو» من البقاء، كواحد من أقدم ملاحم الرعب. كما أنّه ممثل لحركة سينمائية خاصة، هي التعبيرية الألمانية، التي اشتهرت بشخصياتها القوطية، وتسلسلاتها السوريالية، والمرئيات القائمة على لعبة الضوء والظل.
أعاد فيرنر هيرتزوغ تقديم «نوسفيراتو» في عام 1979، تحت اسم «نوسفيراتو مصاص الدماء» (Nosferatu The Vampyre) الذي لعب بطولته كلاوس كينسكي. وفي حين كانت الأفلام التي ظهرت تحت عنوان دراكولا تقدم مصاص الدماء عموماً باعتباره كياناً أرستقراطياً نبيلاً لكن شرير، مثل «برام ستوكر دراكولا» (1992 ـــــBram Stoker’s Dracula) لفرانسيس فورد كوبولا، قدمت أفلام نوسفيراتو بطلها باعتباره مخلوقاً أكثر حيوانيةً وغريزية.
وصلت قصة مصاص الدماء إلى المخرج الأميركي روبرت إيغرز، ويمكن أن أؤكد أنها وصلت إلى اليد والعين المناسبتين. هناك عدد قليل من المخرجين المعاصرين الذين لديهم الطموحات، وقبل أي شيء القدرة والإبداع لصنع قصة بهذا التاريخ والحجم والنطاق. إيغرز مخرج يفهم الفروق الدقيقة بين التقاليد والأساطير والدين، وهو مهتم بإعادة بناء الأكوان التي تدور فيها هذه القصص بدقة، ولكنه في الوقت نفسه يمنحنا شدة نموذجية لسينما الرعب المعاصرة. وكما استولى على الأساطير في «الساحرة» (2015 ــــــ The Witch) و«المنارة» (2019 ـــــ The Lighthouse) و«رجل الشمال» (2022 ــــــThe Northman )، ها هو يستولي اليوم على قصة مصاص الدماء، لتقديم فيلمه الجديد «نوسفيراتو» (2024 ـــــNosferatu )، ليقدّم صياغة أوبرالية للرغبة وعواقبها، والنفور والجاذبية، وبالطبع ثنائية المتعة والألم.
بعد مقدمة مليئة بالتوتر الإيروتيكي، مع نداءات من العالم الآخر وقسم «حب الحياة»، ننتقل إلى ألمانيا عام 1838. قرر الكونت أورلوك (بيل سكارسغارد)، الذي يعيش في جبال الكاربات، شراء قصر غرونوارد المدمر في ويسبروغ. يتم إرسال توماس هوتر (نيكولاس هولت) إلى رومانيا لتوقيع العقد. وبعد رحلة شاقة سيغير اللقاء مع أورلوك حياته إلى الأبد، وكذلك حياة زوجته إلين (ليلي روز ديب). بالإضافة إلى ذلك، عندما يصل أورلوك إلى ألمانيا بعد فترة وجيزة، سينتشر وباء هائل، يكشف عنه إيغرز مع الآلاف من الفئران الطليقة وعشرات الجثث الملقاة في الشوارع.
ولكن على عكس الأفلام السابقة، بترك إيغرز في الخلفية كل ما يربط قصته بموضوعات الوباء (مصاص الدماء كفيروس هي فكرة فيلم مورناو، الذي أنجزه بعد فترة وجبزة من جائحة الإنفلونزا الإسبانية)، ليضع تركيزه على مثلث الحب/ الجنس بين أورلوك وإيلين وتوماس.
مع الشدة والغطرسة التي اعتدنا عليها، يقدم إيغرز في «نوسفيراتو» نسخته الخاصة من أسطورة مصّاص الدماء، وهي النسخة التي تستعيد الإصدارات الفولكلورية الأولية والأكثر رعبًا لهذا المخلوق. إيغرز صانع أفلام واثق جدًا بما يريده، ولديه الكثير من القناعة في ما يتعلق بقدراته. تأخذك أفلامه من شعرك وتجري بك.
ورغم أنّ العوالم التي يصورها قد تكون قديمة أو غريبة إلى حد ما، فإن الرجل يجد دوماً طريقة لإشراك المشاهد في أكثر العوالم التي يمكن تخيّلها بعداً. وهذا العالم الذي يصنعه والقوة السمعية البصرية التي يلقي بها في وجه المشاهد، هما اللذان يسمحان للعديد من الحيل القديمة في سينما الرعب بالظهور. حيل يستخدمها المخرج بصبر وحكمة، فقط عندما يعتقد أنّها ضرورية ويفترض أنّ لا أحد يتوقعها.
وبهذا المعنى، فإن إيغرز سيد إخفاء الرعب المفاجئ، يترك كل شيء جامداً وغير متحرك بحيث عندما يظهر الرعب (مشهد طوفان الفئران مثالاً)، فإنه يجعلك تفقد الوعي و«نوسفيراتو» درس في كيفية تقديم كل هذا.
في هذه التحية الرائعة للتعبيرية الألمانية (يصوّر مرة أخرى بفيلم 35 ملم مع مدير التصوير المعتاد جارين بلاشكه)، هناك قدر كبير من البراعة والإبداع والخيال والمجازفة، إلى جانب النزوة والمتعة بحيث نشعر دائمًا أننا أمام سينما عظيمة. إن استخدام الضوء والظل، والموسيقى التصويرية المهيبة ومعالجة الضوضاء والأصوات المحيطة، كلّها عناصر تمكّن «نوسفيراتو» من أن يكون مكثفًا وساحقًا من دون أن يتوقف أبدًا عن كونه أنيقًا وحتى دقيقًا.
وبعيدًا عن العناية الدقيقة بكل تفاصيله، فإن المذهل في سينما إيغرز، هو قدرته على توليد الأجواء وإغراق المشاهد في مناخ من التأمل القوي والغامض. قدرة سينمائية شبه مثالية تخفي الفخاخ وتفرض نفسها، تماماً كما يفعل أورلوك الذي يبدو كأنه قادم من مركز الأرض، بذلك الصوت العميق واللغة الإنكليزية شديدة اللكنة.
تعود هذه التركيبة الكلاسيكية الشهوانية من تقاليد مصاصي الدماء إلى جذورها هنا. أورلوك ليس دراكولا المغري والأنيق الذي قدمه غاري أولدمان في فيلم كوبولا، ولا حتى بيلا لوغوسي («دراكولا» ــــ1931)، بل هو نوع من الزومبي العملاق المثير للاشمئزاز إلى حد ما، مع بعض القدرات الشيطانية.
وبينما تسعى إيلن إلى العثور عليه وترفضه في آن، وتحاول احتواء نفسها في الحب المتواضع الذي تشعر به تجاه زوجها، تعلم جيدًا أن اللقاء مع أورلوك محكوم عليه بالحدوث. لا يخشى إيغرز تصوير الحيز الجنسي والإيروتيكي لأساطير مصاصي الدماء بشكل علني، وهو ما ينعكس في مشاهد غريبة ومرعبة في آن، خصوصًا في مشهد النهاية المزعج والوحشي، الذي يصل به إيغرز إلى ذروته، وهو التجسيد الأعظم للجماع والنشوة باعتباره موتًا صغيرًا.
اقرأ أيضا: «العرّاب 2».. مرثية للولايات المتحدة