ينظر لعام ٢٠٢٣ بأنه من الأعوام السينمائية المميزة، فبنظر الكثير من السينمائيين يرون هذه السنة سنة استثنائية للسينما. كان عاماً مليئاً بالإضرابات والاضطرابات، والإصدارات المؤجلة، وأرقام شباك التذاكر التاريخية. شهدت الأشهر الـ12 الماضية إنجازات سينمائية مثيرة، ننهي هذه السنة بمهمة صعبة جداً، اختيار أفضل الأفلام التي شاهدناها.
أيام مثالية Perfect Days
اختاره لك أحمد شوقي
منذ مطلع القرن العشرين كادت مسيرة الألماني الكبير فيم فيندرز، أحد مؤسسي الموجة الألمانية الجديدة، تقتصر على إنجازاته في الأفلام الوثائقية، فيما تراجع مستوى أفلامه الروائية كثيرًا، لكنه عاد في 2023 مقدمًا واحدًا من أعذب أفلام العام: “أيام مثالية” الذي صوّره في اليابان انطلاقًا من أغرب نقطة بداية ممكنة.
الأمر بدأ بعرض تلقاه فيندرز لعمل فيلم قصير عن شبكة الحمامات العامة في العاصمة اليابانية طوكيو، والتي تمتلك طيفًا مدهشًا من التصميمات المعمارية، لكن المخرج الكبير تمكَّن من تطوير الفكرة إلى فيلم روائي طويل ذي حس فلسفي، ومذاق إنساني خاص؛ ينبع في جانب كبير منه من أداء الممثل كوجي ياكوشو لشخصية بطل الحكاية، ما جعله مستحقًا للتويج بجائزة أحسن ممثل من مهرجان كان في دورته الماضية.
الفيلم يتتبع عامل تنظيف حمامات عامة خمسيني، يعيش وحيدًا حياةً بسيطةً بشكلٍ متعمد، صموت لا يكاد ينطق كلمة إلا إذا اضطر لذلك، متفان في عمله يمارسه بدأب ونشاط وكأنه يُحدث فارقًا في مسار البشرية، وقبل ذلك يحمل داخله روح فنان حالم وفيلسوف متأمل، يحمل كاميرا عتيقة الطراز ليصور صورًا فوتوغرافية لنفس الأشجار يوميًا، يقرأ الشعر والرواية، يستمع لأغنيات من مكتبته الموسيقية الحافلة، لكنه لا يعرف ما هو “سبوتيفاي” ويعتقد أنه متجر ما لبيع شرائط الكاسيت!
تجتمع في الشخصيات تناقضات عدة، فهو لا يحب مخالطة الآخرين لكنه يمتلك قدرة استثنائية على التقارب مع البشر. يستمتع بروتين حياته المتقشفة؛ لكننا نشعر أنه موقفٌ قصديّ يهرب به من ماضٍ نتصور بعض سماته عندما تظهر ابنة شقيقته لتزوره بشكل غير متوقع، فتُغيّر قليلًا من نمط حياته وتجعلنا نفهم المزيد عن تكوين شخصيته.
لا تملك إلا أن تقع في حب هذا الرجل، وتتمنى أن تمتلك من القدرة على الاستغناء ما يجعلك تعيش حياتك مثله، ليس بالضبط في تنظيف الحمامات (وإن كانت حمامات طوكيو تحف معمارية تستحق فيلمًا لإبرازها بالفعل)، ولكن في تجريد الحياة المعاصرة من زحامها، والاكتفاء بما يُمتع الروح ويُشبع الحواس ويريح الأعصاب.
اغمض عينيك Close Your Eyes
اختاره لك فراس الماضي
بعد غياب دام 31 عامًا عن آخر فيلم له، يعود فيكتور إيريثه، أحد عمالقة السينما الأسبانية ليستكمل مسيرة استمرت أكثر من خمسة عقود، صنع خلالها ثلاثة أعمال فقط. يعود هذا العام بفيلم يبدو كالخاتمة، وعنوانه يشبه عنوان رسالة أخيرة قبل وداعٍ أبدي، “اغمض عينيّك”.
خلال فيلمه الذي قد يكون الأخير، يقودنا إيريثه عبر حكاية تقع أحداثها في عام 2012، عن المخرج ميغيل غاراي الذي يبحث ويحقق خلف اختفاء الممثل خوليو أريناس، الذي اختفى في ظروفٍ غامضة في منتصف تصوير فيلم غاراي غير المكتمل “وعد شانغهاي” عام 1990.
هنا، نجد توازي وتخاطب غير معلن بين العمل ومخرجه فيكتور إيريثه، الذي بالكاد يصنع فيلمًا، ثم يختفي بعدها عقودًا عن المشهد الفني. وعبر هذه العودة؛ يُوقظ إيريثه الروح بشكل حرفي، محاولًا استعادة تلك الأوجه التي تلاشى أثرها، والتي لم تخلدها سوى السينما. ساعيًا إلى لم الشمل بين الواقع الميلانخولي الذي ينعي الماضي، وتلك الأشباح التي لم يعد لها وجود حتى في الذاكرة.
وإن كانت السينما فنًا معنيًّا بالتقاط حركة الزمن وعبوره، فإن فيلم “اغمض عينيّك” يرتكز على هذه الفكرة موضوعًا، بينما يسعى بعقدته إلى تفعيل فرضية العودة بالزمن، وسحب الماضي إلى الحاضر، ربما حتى الانتقال به إلى المستقبل. وهو مشروع يستلزم إيمانًا بقوة السينما ويقينًا بمقدرتها على إحداث المعجزة.
ورغم كل حماسٍ وطيّش قد يرافق هذا النهج، إلا أن الفيلم يندرج تحت أعمال الفنانين الكهول الذين بلغوا من النضج منتهاه. فبتريث محكم؛ يقطع إيريثه شكوك الذين ظنوا بأنه لم يعد للمعجزات في السينما وجود منذ رحيل دراير، بل ويظهر أنه ما زال للكلوز أب المقدرة على التنفيس عن المشاعر التي تتجاوز العقل والمعنى والذاكرة، لتقبض على الروح مباشرة.
أوبنهايمر Oppenheimer
اختاره لك عبيد التميمي
لطالما بحث كريستوفر نولان في كل أفلامه عن ضربة عاطفية حقيقية مهما كان محتواها، تحت كل المجهودات المبذولة في تطوير حبكة محكمة ومؤثرات بصرية صعبة التنفيذ تعطيه صوتًا خاصًا؛ هناك بحث دؤوب عن لمسة إنسانية نادرة كامنة في كل عمل، تجعل كل ما مر به المشاهد خلال رحلة المشاهدة ذو معنىً فريد.
اقترب من ذلك بشدة في فيلم «Interstellar» بمشهد النهاية المهيب، ولكن الرحلة كانت لا تخلو من العيوب السردية. لكن في «أوبنهايمر»، يستطيع نولان إنشاء رحلة تراجيدية لا يخرج منها أحد رابحًا، بدون الحاجة إلى اختلاق نص خيالي، ولكن بتقديم دراسة لشخصية حقيقية من عدة زوايا يتخللها أسلوبه السردي السريع الذي لا يغفل العمق الدرامي للحدث التاريخي، ويستخرج أداءات تمثيلية رائعة من كامل طاقم تمثيله الضخم، مهما كانت دقائقهم أمام الكاميرا معدودة، ووجد نولان ضالته في رواية قصة أوبنهايمر، أبو القنبلة النووية.
الفيلم أشبه بسيمفونية ملحمية تُعزف بدون توقف أو تباطؤ، ترابط الشخصيات والتفاصيل في اوبنهايمر مثير للإعجاب، لأن كل شخصية وكل ظهور يساهم بالوجهة النهائية بشكل واضح. وعلى الرغم من طول مدة عرض الفيلم، إلا أننا نجد أنفسنا أمام رحلة محفورة في الأذهان بكل تفاصيلها المؤلمة.
كائنات مسكينة Poor Things
اختاره لك شفيق طبارة
في “كائنات مسكينة“، والذي تُرجم أيضًا إلى “أشياء مسكينة”، نجح اليوناني يورغوس لانثيموس في تحقيق شيء جديد. توسع في مغامرات الطبقة الأرستقراطية، أظهر قذارة الإنسان وسخفه وهوسه الجنسي. يستكشف لانثيموس فينا، يجمِّل ويشوِّه كل شيء حتى حواسنا. لا يخشى التحدث بصراحة عن الجنس، وعرض الجسد بلا خجل، وصفع المجتمع الذكوري والأبوي.
في جديدة يعود إلى فيلمه الأول “ناب الكلب Dog Tooth” من إنتاج 2009، ليقول لنا إن العائلة لا تسمح لنا بالتعرف على أنفسنا والعالم من حولنا.
“كائنات مسكينة” هو فيلم سوريالي، مضحك بشكل لا يصدق وعمل أصلي كنا بحاجة اليه. يقول لنا لانثيموس إنه في مرحلة المراهقة نفقد ثقتنا، نبدأ بالشك في أنفسنا، وكبالغين يصبح من الصعب أن نعيش مع هويتنا. لذلك يقدم لنا بيلا (إيما ستون) لاحتضان أنفسنا الغريبة الحرة والواثقة والحقيقية. “كائنات مسكينة” هو أطرف استفزازات لانثيموس حتى الآن، هو “باربي” الفيكتوري الذي نريده هذا العام.
طوطم Totem
اختاره لك قيس قاسم
“طوطم” للمخرجة المكسيكية ليلا أفيليس، هو درس في السينما “البسيطة” العميقة، القادرة بالقليل الذي عندها على مقاربة الحياة وأوجاعها، وهو مثال على قدرة الفن السينمائي على تجسيد أكثر القضايا تعقيدًا، مثل الموت والطفولة في أولى مواجهاتها مع قساوة العالم الذي يحيط بها.
عنوان “طوطم” يُحيل إلى موروثات ثقافية أمريكية لاتينية، كان الإنسان فيها يختفي خلف الأقنعة خوفًا من مواجهة الصعاب والمخاطر وجهًا لوجه. ذلك يُبطن ضمنًا حالة الطفلة سول (7 سنوات) وهي تحضر مع بقية أفراد عائلتها حفل عيد ميلاد والدها، الغائب عن المشهد المنزلي طويلًا (لا يظهر إلا بعد مرور نصف زمن الفيلم).
قبل ظهوره يبدو البيت مزدحمًا والكاميرا لضيق المكان تكاد تلامس الممثلين القريبين منها. ضيق يعكس اختناقًا في النفوس وغصة. الطفلة كلما طلبت رؤية والدها قالوا لها: “ليس الّآن”. ترى ما الذي يمنع ظهوره؟ السرد المكثف المشحون بتوترات يكشف خلافًا حول القرار الذي ينبغي عليهم اتخاذه: هل نوقف المورفين عنه لتنتهي حياته وتتوقف أوجاع جسده المنخور بالسرطان إلى الأبد؟
ظهور الأب الرسام الذي يقبل بيع لوحاته، وكأنه يقبل ضمنًا بنهايته، يفجر حزنًا يتسرب إلى أعماق الجميع من دون رغبة منهم في إظهاره، وكأنهم يستعينون بأقنعة طوطمية كما كان يفعل أجدادهم حين يواجهون تقلبات الحياة وقساوتها. ذلك الإحساس المثقل بالفقد ينتقل إلى ابنته، ويبقى ساكنًا داخلها وهي تحضر لأول مرة حفلة إعلان موته، وأمام عينيها ترى مراسيم وداع أبيها الذي يسير برضا نحو خاتمته.
التفكير بالفقد صادم والسكون هو المتبقي لها، لهذا لم يبق سوى تثبيت كاميرتها على وجهها لتعلن نهاية الحفل. وفي اليوم التالي، تعود الكاميرا لتدخل غرفة الأب، تمر على سريره الفارغ المغطى بضوء الشمس والحياة، التي علمت الطفلة أولى دروسها الموجعة. من أين للسينما مثل هذه القدرة على نقل مشاعر طفلة لم تنطق إلا ببضع كلمات لكن عيونها كانت تقول ما لا تقوله آلاف الصفحات. “طوطم” مثال على البساطة السينمائية وعظمتها، وهو جدير بالاحتفاء.
أوراق ميتة Fallen leaves
اختاره لك أحمد العياد
يحمل الفيلم الأحدث للمخرج الفنلندي الأشهر آكي كورسيماكي، بصماته المعهودة طوال رحلته التي ظن جمهوره أنها انتهت بتقاعده قبل سنوات؛ إلا أنه عاد ليخرج “أوراق ميتة” الذي فاز عنه بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كانّ في دورته الأخيرة، والذي اختير أيضًا ليمثل فنلندا في مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، متقدمًا إلى قائمتها القصيرة.
تدور أحداث الفيلم في هلسنكي في أواخر الخريف، ويروي قصة أنسا (ألما بويستي)، الموظفة في سوبرماركت بعقد حرّ، التي تُطرد من وظيفتها بسبب أخذها طعامًا انتهت صلاحيته، فيما هولابا (جوسي فاتانين) عاملٌ صناعي تعرَّض لإصابة خلال العمل بسبب عدم رغبة رئيسه في شراء معدات جديدة تؤمّن سلامة العاملين لديه.
تشعر منذ المشاهد الأولى بأنك تشاهد فيلما تجري أحداثه في ثمانينيات القرن الماضي، سواء من حيث الجو العام أو من حيث الشكل والأسلوب والإيقاع، إلى أن تسمع أخبار الحرب الأوكرانية عبر المذياع فتتأكد أن الزمن هو الزمن الراهن، حيث تلتقي أنسا مع هولابا بالمصادفة في أحد البارات، فتسري الكهرباء بينهما كما تسري في سلك، إذ كلاهما يشعر بالوحدة والضياع المهني، وتراهما أحوج ما يكونان إلى علاقة إنسانية وعاطفية تربط قلبيهما.
الفيلم الذي لا تتجاوز مدة عرضه 90 دقيقة، يلقي ضوءًا كاشفًا على قصة حبّ تظهّر فيها الحياة الواقعية بكل ما تنطوي عليه من تناقضات: حبًا وكرهًا ونفورًا وفقدًا وكآبةً وصداقةً وألفةً وأنسًا، في زمن يعيش الكلّ فردانيته في أقسى تجلياتها.
وعلى الرغم من بدايته الكئيبة، ينتهي الفيلم برسالة أمل وحب وسعادة، جاعلًا المتلقي يقتنع بأن الحياة يمكن أن تكون جميلة حتى في أكثر لحظاتها بشاعة وسوادًا.
هذا الفيلم القصير نسبيًّا، على غرار أفلام المخرج الأخرى، يتضمن حوارات قصيرة مؤثرة تحفر عميقًا في الوجدان. وإذا كانت مشاهده تنطوي على قسوة بليغة في أحيان، فإن الفيلم في المجمل يبعث على الارتياح، بحسب المريدين، بسبب طابعه الكوريسماكي المألوف.