فيلم «ناقة» هو أحدث أفلام المخرج السعودي الشاب مشعل الجاسر، تم عرض الفيلم في مهرجان تورنتو السينمائي سابقاً خلال هذا العام، ويتم عرضه حالياً على منصة نيتفليكس. الفيلم من بطولة عدة أوجه شابة على رأسهم أضوى بدر ويزيد المجيول. يتحدث الفيلم عن ليلة «سارة» المجنونة التي يوصلها والدها إلى السوق ظهراً ويعلمها أنه سوف يأتي لاصطحابها في تمام الساعة العاشرة مساءً، ولا يعلم أن ابنته تخطط لقضاء يوم كامل مع حبيبها. بسبب طبيعة والدها المتشددة، يجب على سارة ألا تتأخر عنه دقيقة واحدة.
كوني معجباً بأعمال مشعل الجاسر السابقة من خلال سلسلة «فُليم»، كنت مستعداً لفيلم بصري مبهر يستعرض من خلاله الجاسر مهاراته خلف الكاميرا، ويسعدني القول أن مشعل الجاسر لم يخيب الظن، فالمشهد الافتتاحي يظهر مدينة الرياض في سبعينات القرن الماضي وتنوع زوايا التصوير وابتكارها يظهر نضج حقيقي من ناحية إدراك أهمية المشهد الافتتاحي لمخرج شاب يقع على عاتقه مسؤولية خطف أنظار المشاهدين منذ البداية.
هذا الاهتمام بزوايا التصوير لا يتوقف، حتى حينما يقدم الفيلم بطلته لنا فهو يقدمها بلقطة بديعة، تظهر سارة وهي تدخن سيجارتها بهدوء في شرفة منزل أهلها المتواضع، خلفها يمتد سيل من الأشجار الخضراء، واضعاً سارة في قلب هذه اللوحة الأخاذة والهدوء الذي يبعث على الاسترخاء الذي ينقطع بشكل مفاجئ في اللحظة التي تسمع فيها صوت أمها قادمة من الخارج. يأتي هذا المشهد لإظهار ازدواجية الحياة التي تعيشها سارة. من جهة، هي بطلة عالمها الخاص، مكانها في وسط اللوحة التي ترسم وجودها بكل جمالية، ومن جهة أخرى هي تهرع إلى إخفاء كل آثار جريمة التدخين بمجرد سماع صوت والدتها، وحتى الكاميرا تبدأ بالفزع واللحاق بسارة بشكل فوضوي و اهتزازي.
يريد منا الفيلم أن نهتم بقصة سارة قبل أن نعرف هذه القصة من خلال هذا التقديم المليء بالتفاصيل الصغيرة، وينجح بذلك تماماً. وهذا النجاح اعتمد برأيي على طريقة التصوير بقدر اعتماده على أضوى بدر التي أدت دور سارة. التي قدمت أداء صاعق وكانت أكبر مفاجآت الفيلم. هناك عصيان وثورية واضحة في شخصيتها، فهي تريد الانغماس في حياة خالية من القيود الأبوية وفي نفس الوقت حدة طباعها تنفر أغلب الناس -ممن ينعمون بهذه الحرية- من حولها. تحت كل هذه الحدة في الطباع يتراءى لنا الخوف والتوتر اللذان ينبعان من التمرد على المجتمع، عدوانية سارة وحدة طباعها تتلاشى تماماً قبل أن تجرب المخدرات ويظهر لنا ما تحاول إخفاءه من خوف وضعف، تلاحظ حبة شباب في جبهتها ويتعكر مزاجها بشكل إضافي.
على السطح، يتحدث الفيلم عن ليلة حافلة بالأحداث تسابق فيها سارة الزمن للعودة إلى المنزل في الوقت المحدد، ولكن تحت هذه الأحداث الصراع الحقيقي الذي تواجهه سارة هو الصورة التي اكتسبتها خلال مراحل الطفولة والمراهقة، فحينما لا تتحدث صديقاتها عن مشاكل والدها السمعية بسبب حادث طفولة مروع، هم يتحدثون عن كونها «ناقة» لا تنسى ولا تسامح أبداً. لم استطع سوى التعاطف مع سارة التي لا تريد إلا معاملة سوية لا يتم فيها محاسبتها على أخطاء الماضي وواقع لا تستطيع تغييره.
أحد أفضل نقاط الفيلم هي القدرة على بناء درجة تشويق مناسبة للجو العام، حينما تخطط سارة وحبيبها سعد لأخذ المخدرات والذهاب للمخيم، وبرغم أن الجو داخل السيارة هادئ بل وحميمي نوعاً ما، ترافق المشهد موسيقى لا تنذر سوى بارتكاب الخطيئة. تستمر هذه الجودة ببناء التشويق مع التقدم بالقصة وتعقد مسار الأحداث، تصبح الكاميرا أكثر اهتزازاً وتغيير اللقطات وزوايا التصوير أسرع وأكثر حدة. لكن من المبهر جداً أن هذا لم يؤثر إطلاقاً على جودة الصورة. تتعدد أماكن التصوير الكادرات، لكن جودة الصورة التي أنتجها مشعل الجاسر في هذا الفيلم بهية للغاية، مشاهد المدينة مفعمة بالألوان والحياة والازدحام والحركة الدائمة، مشاهد الصحراء شاسعة ونستشعر صغر حجم سارة وقلة حيلتها في هذه المساحات اللا متناهية، مشاهد النهار غنية بالألوان الفرائحية في عالم مليء بالخطيئة، والمشاهد الليلية تشهد إنارة خلابة تعزز من جمالية العالم الذي صنعه الجاسر.
ما يؤثر سلباً على الفيلم هو طول المدة، يعاني الفيلم من عدة زوائد تثقله وتبطئ من سرعة سرده، هناك عدة مشاهد ونقاط سردية لا مكان لها في الفيلم الذي يعتمد جذرياً على شعور المشاهد بضرورة سرعة الوصول إلى الوجهة النهائية. هذه الزوائد تتكاثر حينما نصل إلى المخيم رفقة بطلة الفيلم، هنا تبدأ القصة بالتعقيد وتتكاثر العقبات في طريق سارة نحو المنزل، وبدون الدخول إلى تفاصيل الفيلم، إلا أن العديد من هذه العقبات تبدو مصنّعة ومقحمة بدون ارتباط حقيقي وملموس. هذا خلق مشكلة أخرى للفيلم، حيث مع اقتراب نهايته وتسارع وتيرة السرد، فقدت اهتزازات الكاميرا والتنقل السريع بين اللقطات قيمتها في خلق شعور لدى المشاهد بأن البطلة في سباق مع الزمن، وتحولت إلى استعراض مجوف لا يهدف قصة الفيلم أو بطلته. مع ذلك، جدير بالذكر أن جمالية الصورة والتنوع في الكوادر لم يتوقف عن إبهارنا حتى النهاية، تلوين المشاهد تحديداً كان كفيل بجذب انتباهي في كل مشهد. حتى المشاهد داخل السيارة والتي لا تترك مساحة كبيرة للإبداع، استطاع الفيلم من خلالها تقديم زوايا تصوير مبتكرة تجعل من المشهد أكثر من مجرد مشهد حواري داخل سيارة.
المشكلة الأخرى التي احتاج الفيلم أن يعالجها هي تطوير شخصية الوالدين، والد سارة تحديداً. أراد الفيلم خلق هيبة ورعب يحيطان به حتى يزيد من تضخيم العواقب التي تنتظر سارة في حالة تأخرها، ولكن الفيلم فشل بذلك لأن شخصيته لم تملك وقت كافٍ على الشاشة حتى تكتسب الهيبة اللازمة التي من شأنها إصابتنا بالقلق والتوتر خوفاً من مصير سارة. ومن ناحية أخرى، كنت أفضل تطوير حقيقي لهذه الشخصية يتجاوز كونها شخصية أحادية البعد (مجرد أب صارم)، حيث يمكن خلق شخصية أب صارم وقاسي ولكن في نفس الوقت تربطه علاقة خاصة بابنته، واكتشاف حياة سارة المزدوجة يعني تغير هذه العلاقة للأسوأ.
«ناقة» عمل بصري مبهر، براعة التصوير والابتكار في اختيار زوايا التصوير جعلني أتمنى أن الفيلم استكشف مناطق أخرى في الرياض حتى يتسنى لنا مشاهدتها من خلال عدسته، لكن الفيلم احتاج إلى تطوير أفضل للنص وتنقيح أكبر في المونتاج، تنقيح يتضمن التخلص من الزوائد الغير ضرورية مما يجعل العناصر الناجحة تسطع بشكل أفضل وأكثر وضوحاً.
اقرأ أيضا: “مندوب الليل”.. وحيدًا في مواجهة المدينة