فاصلة

مراجعات

“نابوليون”.. محاولة وضع الفيل داخل زجاجة

Reading Time: 4 minutes

لا يُمكن للمُتابع إلا أن يلحظ التباين الهائل في تقييم النقاد والسينمائيين لفيلم “نابوليون”، أحدث أفلام المخرج المخضرم ريدلي سكوت. فبينما اعتبره المخرج فرانسيس فورد كوبولا أفضل أعمال صانعه، مطالبًا بأن يُمنح سكوت لقب “دوق” على إنجازه السينمائي في الفيلم، ومنحه بيتر برادشو، كبير النقاد في صحيفة الجارديان، خمسة نجوم كاملة، جاءت مراجعات النقاد الفرنسيين بالغة القسوة تجاه الفيلم، مما دفع ريدلي سكوت للتعليق ساخرًا: “من الطبيعي أن يكره الفرنسيون الفيلم، فهم يكرهون أنفسهم”!

وصناعة فيلمٍ عن سيرة شخصية غيّرت مجرى التاريخ معضلةٌ كبيرة، لاسيما عندما يكون هذاالتأثير ممتدًا لعقود، شهدت مراحلًا وتقلباتٍ يصعب حصرها، ويكون الشخص خلافيّ كنابوليون بونابرت، يستحيل الخروج برأي بسيط في حياته، فهناك من يعتبره البطل الأهم في تاريخ فرنسا ومن يراه مجرد ديكتاتور سفّاح، وبينهما آلاف الرؤى المركبة.

الأزمة هنا أن حجم الدراما في سيرة بونابرت أكبر بكثير من مساحة أي فيلم مهما بلغ طوله، وأغلبها ذُرى تاريخية وإنسانية، ودرامية بالتبعيّة. فمن أين يُمكن أن يبدأ صانع الفيلم؟ وإلام ينتهي؟

البعض يميل للقرار الأكثر أمانًا، بالتركيز على حدث بعينه أو فترة ما في حياة بطل الحكاية، معتبرًا ما سبق ذلك خلفية لشخصيته الدرامية، قد يُقدمها بما يلائم معلومات الخلفية، أو لا يقدمها على الإطلاق على اعتبار أن شهرة الشخصية تعني ضمنًا معرفة المُشاهد ما يكفي عن ماضيها. البعض الآخر –ومنهمريدلي سكوت في حالتنا– يسلكطريق الملحمة، ساعيًا لتقديم رؤية بانورامية للسيرة كاملةً، وهو هدف هائل يُشبه محاولة وضع فيل داخل زجاجة.

الأحداث في مواجهة الاستنارة

الوصف السابق لا علاقة له بأن نسخة السينما التي شاهدنها مدتها 158 دقيقة (اقتُطع منها قرابة عشر دقائق لأسباب رقابية معتادة)، وأن هناك نسخة أخرى ستتجاوز الأربع ساعات سيتم طرحها لاحقًا على منصّة Apple+، فبكل الأحوال، وبغض النظر عن مدة الفيلم، يظل قرار ريدلي سكوت أن يبدأ حكايته من اندلاع الثورة الفرنسية وينهيها برحيل نابوليون قرارًا كبيرًا، يُلزمه بأن يوازن بين تقديم كل المراحل المفصلية في سيرة بهذا التعقيد، وبين امتلاك رؤية ما، وجهة نظر يقدمها صانع الفيلم تُبرر إقدامه على عمل كهذا.

هنا تبرز المشكلة الأساسية في النص الذي كتبه دافيد سكاربا، وهو الانشغال بتقديم عدد لا نهائي من الأحداث التاريخية دون امتلاك رأي ملموس فيها أو تفسير درامي لها، أو للدقة ثمّة تفسير وحيد يظهر بشكل متكرر – ومتناثر – في ثنايا الفيلم، وهو تناول شخصية بونابرت من مدخل فرويدي، فهو رغم زعامته الأسطورية، رجل مليء بالشكوك في الذات، لديه عقدة سببها قصر قامته، وتعلق أوديبي (من عقدة أوديب) بأمه، تُمثل علاقته المعقدة بزوجته جوزفين تجليًا لهذه العقدة.

جوزفين كما يتعمد الفيلم أن يُظهر خلال عقد قرانهما تكبر نابوليون عمرًا، كان متزوجة وأنجبت قبله، تفوقه طولًا، وهي الشخص الوحيد الذي نرى بطلنا أمامه بهذا الضعف والاستكانة.

لا يدخر سكوت جهدًا في التأكيد على هذه المعلومات، يرينا بطله مرة واثنتين يقف على جسم ما ليزيد طوله، يعلن عن شكوكه في حب جوزفين له، يبدو غير مرتاحٍ عندما يضطر للارتباط بعدها بفتاة أقصر قامةً منه، تتوازي لحظات سقوطه الأخير مع مواجهةٍ مع جنرال بريطاني تعمد المخرج أن يؤدي دوره ممثل فائق الطول تصطدم رأسه أكثر من مرة بسقف السفينة التي احتضنت الحوار، وبالطبع تقولها جوزفين له صراحةً، بل وتجبره على أن يكرر وراءها: “أنت لا شيء بدوني وبدون أمك”. الطريف أن ذكر الأم هنا يأتي مفاجئًا جدًا، حتى في سياق الفيلم بكل ما فيه من تكرار لتلك النقاط.

زخم السيرة وتبسيطه

ما هي المشكلة إذن؟ أليس هذا تفسيرًا يقدمه الفيلم لحياة نابوليون؟

الأزمة إنه تفسير مُبسط جدًا، يستهين بحياة معقدة ويختزلها في عنصرٍ وحيدٍ باعتباره المحدد الرئيس في تلك المسيرة الضخمة. صحيح أن جوزفين أثرت في حياة بونابرت، لكن كيف تمكن أصلًا من هذا الصعود الصاروخي؟ ما هي قدراته التي جعلته يرتقي خلال أشهر معدودة من كونه مجرد ضابط كبير ليتربع على عرش السلطة في فرنسا لدرجة تنصيب نفسه امبراطورًا؟ أين هي عبقريته الاستراتيجية التي ضمنت له انتصارات رفعت أسهمه للسماء؟

يقودنا هذا لأفضل ما في الفيلم، وهي مشاهد المعارك المدهشة، سواء في إتقان ريدلي سكوت وفريقه لكل عناصرها الشكلية التي تأخذنا بالفعل لساحة معركة في نهاية القرن الثامن عشر أو بداية التاسع عشر، بأزيائها وأسلحتها وتفاصيلها البصرية، أو في تنوع تلك المعارك التي لا يشوبها التكرار المعتاد في الأفلام الحربية، فكل معركة لها طابعٌ خاصٌ يميزها عن غيرها، وتتصدرها بالطبع معركة بونابرت مع الجيش النمسوي على البحيرة الجليدية، وهو واحد من أفضل تتابعات الحروب التي شوهدت على شاشة السينما خلال السنوات الأخيرة.

لكن يظهر السؤال جليًا: هذه معارك مبهرة ومحكمة التنفيذ، تلعب دورها في استكمال السرد الشامل لمسيرة بطلنا، لكن أين فرادته كقائد ومخطط عسكري التي سمحت له بخوض كل هذه المعارك؟ يبدو نابوليون في أغلبها قائد جيشٍ كلاسيكيّ، يتعامل مع متطلبات اللحظة بقراراتٍ وإشاراتٍ آنية لا أكثر. بل أن التركيز على خطيئته الاستراتيجية الفادحة –بعد الواقعة الشهيرةلغزو روسيا القيصرية وإحراق موسكو –يفوقكل لحظات انتصاره. يخبرنا سكوت كيف هُزم “نابوليون” وانكسر، لكنه لا يستثمر ما يكفي لتفسير أسباب نجاحه وصعوده.

حتى عودته من تلك الهزيمة وما ترتب عليها من نفي، وتمكنه من الرجوع من منفاه الأول واستعادة سلطاته في وجه الملكية التي أعيد إحياءها، تأتي بأحد أفقر مشاهد الفيلم وأكثرها هزلًا، وكأن جملتين حماسيتين ألقاهما أمام فصيلة عسكرية صغيرة سبب كاف ليعود هوس شعب بقائد شاهدنا قبل دقائق هول ما كبدتهم قراراته الخاطئة من خسائر.

الأداء التمثيلي الأفضل

أعيب هنا بوضوح على هذا الحس الملحمي والرغبة في حكي كل شيء، الهوس بالضخامة وبالمرور على كافة المراحل والتقلبات والوقائع التاريخية، مع الحد الأدنى من التفسير ولحظات الاستنارة، والنتيجة إننا نرى نابوليون على الشاشة طيلة زمن الفيلم، ولا نعرفه أبدًا، لا نشعر بأننا فهمنا ولو قليلًا من تعقيد تلك الشخصية المثيرة التي ستظل دومًا موضوعًا مناسبًا لدراسات تاريخية ومعالجات فنية.

لعل ذلك ظلم واكين فينيكس، الممثل الكبير الذي لم يدخر جهدًا في لعب دور رآه بالتأكيد من أدوار عمره (وربما ينال ترشيحًا للأوسكار عليه)، لكن سيكون من المبالغة أن نزعم كونه أداءً مدهشًا أو ضمن الأفضل في مسيرته. لم ننس أبدًا أن أمامنا واكين فينيكس يجتهد ليلعب نابوليون، لم نتوهم للحظة أننا نرى نابوليون نفسه، والسبب كما أوضحنا أن المخرج حاول وضع فيل نابوليون داخل زجاجة فيلمه.

ربما لهذا يأتي الأداء الأفضل من فانيسا كيربي في دور جوزفين، التي تتناسب مساحة دورها مع تأثيره الدرامي، فتُقدم ببراعة المرأة التي تنقلها ألاعيب التاريخ من الأرستقراطية إلى السجن إلى قمّة العالم ثم إلى هامشه، التي تحب زوجها، لكن تحب هوسه بها وتأثيرها عليه أكثر. أوقن أن العشر دقائق المقتطعة من الفيلم حملت المزيد عن حسّية العلاقة بين جوزفين ونابوليون، لكن حتى في غياب تلك الدقائق يظل حضور كيربي هو الأبرز في العمل.

نرشح لك: لمحات من السينما السعودية: من سينما الأحواش إلى البحر الأحمر

“نابوليون” يُقدم تجربة بصرية ممتعة، يخوض صانعها تحديًا سرديًا كبيرًا يصعب القول بأنه قد خرج منه منتصرًا. أو لنقل إنه مثل بونابرت نفسه، انتصر أحيانًا ثم قادته قراراته للسقوط. وكما تظل سيرة نابوليون تستحق أن تروى، ففيلم ريدلي سكوت يستحق المشاهدة، على الأقل لتحليل آلية تعامله مع تلك السيرة عسيرة التناول.

شارك هذا المنشور