فاصلة

مراجعات

«ميغالوبوليس»… كوبولا يلبِّي رغبته الأخيرة

Reading Time: 4 minutes

وقفت أمام شباك التذاكر وسط منافسة شرسة لأحصل على تذكرة لمشاهدة فيلم فرانسيس فورد كوبولا الأحدث، المنتظر في المهرجان، والذي نفذت تذاكر كل عروضه تقريبًا منذ فتح الحجز.

الفيلم الجديد “ميغالوبوليس” Megalopolis مرتقب بشدة من كل عشاق صاحب “الأب الروحي” The Godfather و”القيامة الآن” Apocalypse now!، والذي قيل إنه ود إنجازه بعد الجزء الثاني من “الأب الروحي” لكن لم تسمح الظروف الإنتاجية بظهوره للضوء إلا في عامنا هذا، أو بالأدق بعد 40 عامًا من المحاولات.

اختار مهرجان كان الفيلم في مسابقته الرسمية، على عكس ما يفعل عادة مع أفلام المخرجين الكبار، التي تُعرض في الأقسام غير التنافسية، ما وضع آمالا فوق الآمال وزاد من التشوق لمشاهدة ذلك الفيلم. 

شدد المهرجان أيضًا من حظر النشر قبل العرض الرسمي للفيلم على السجادة الحمراء في التاسعة والنصف من مساء يوم الخميس الفائت، لأسباب ربما تتعلق بتفاصيل الجدل المثار عن الفيلم، وربما لتجنب الهجوم على الفيلم وقتله حتى قبل عرضه في وجود صناعه. الأجواء أيضًا مشتعلة في الصحافة الأمريكية مع اتهامات لكوبولا، ظهرت يوم الثلاثاء الماضي، عن محاولته لتقبيل فتاة في دور صامت في مشهد ما من الفيلم، ما دافع عنه المنتج التنفيذي للفيلم بأنها قبلات “بريئة” قام بها كوبولا لتهيئة جو المشهد! 

على عكس الكثيرين، دائمًا ما أحس أن هناك نوع من الاختيارات المجانية لأفلام المخرجين الكبار، لأن أسباب برمجتها واضحة ومعروفة، هذا مخرج كبير معروف ومُسلط عليه الضوء بالفعل، ستُحجز كل عروض الفيلم، وسيكتب عنه جميع النقاد، إضافة إلى تواجد النجوم على السجادة الحمراء، ما يخلق دعاية للمهرجان، والأمر الذي يعرفه كل مشتغل بالمهرجانات أنه لا دعاية سيئة ستأتي للمهرجان من وراء ذلك الاختيار، وإن أثار الفيلم الجدل، فإن ذلك يعني دعاية أكبر، وهو ما يحدث بالفعل. 

 لن ينتهي الحديث حول ما ناقشته الصحافة عن ظروف إنتاج الفيلم وكيف صنعه كوبولا ببيع حصة من شركته التي تبيع النبيذ، وكيف حلم به طوال عمره، لكن بنظرة إلى الفيلم ذاته، لم يتملكني إلا شعور بالضجر أثناء المشاهدة، ولك أجد في الفيلم إلا نوع من اللعبة الذاتية، لكن بمعناها السيء، لعبة مدللة حقق بها الرجل حلمه في الخامسة والثمانين، وهو شيء يحسد عليه، لكن إذا أزلت تفصيلة أن هذا فيلم لكوبولا فإن الفيلم لن يلقِ أي قبول أو – على أحسن حال- سيتم اعتباره تجربة فنية جريئة لكنها غير ناجحة. 

ميغالوبوليس

أعلم أن هذا محبط لكثيرين من محبي كوبولا، إذ أن الفيلم به كل ما يشوق لمشاهدته، ملحمة تاريخية رومانية تتخذ شكلًا معاصرًا، ديكورات ضخمة ومواقع تصوير مستقبلية ونجوم بينهم آدم درايفر وشيا لابوف وناتالي إيمانويل وجيانكارلو إسبوسيتو وداستن هوفمان، وكل منهم نجم بالفعل ومضمون جودة تمثيله، ناهيك عن الإمكانات الإنتاجية للفيلم ومؤثراته الخاصة، فلم لا ينجح الفيلم؟!

ميغالوبوليس

السبب الرئيسي في نظري هو أن هذا الفيلم يبدو كوجبة بها كل الأصناف الطيبة من الطعام، لكن من دون تناسق بينها، تخيل أن تأكل طبقًا من الاستيك ثم تتبعه بطبق من السلمون وتأكل للتحلية طبق بسبوسة، ثم تشرب الإسبرسو بعدها، أي طعم يبقى في فمك بعد كل هذه العشوائية؟! هكذا الفيلم الجيد يمتلك تناسقًا بين عناصره كلها، حتى وإن كانت تلك العناصر هادئة، لكن كوبولا هنا يضيف إلى فيلمه كل الأصناف، شيء من الشرق وشيء من الغرب، أشياء من التجريب البصري والسمعي إلى جانب صوت راوٍ عليم يأتي كصوت مصاحب، وهنا ربما كان حلم كوبولا أن يضع في الفيلم كل ما لم يقم بتجربته على مدار مسيرته، فأتت الخلطة بلا طعم واضح. 

ميغالوبوليس

نأتي للأمر الثاني المتعلق بمحاولة الفيلم للتعليق على أوضاع العالم من خلال شخصياته المتعددة: العالِم الذي يحلم بخلق اليوتيوبيا، وعمدة المدينة البراجماتي، وابن عم العالم الشعبوي الذي يكره عِلْم قريبه واهتمام العالم به دائمًا، والمرأة الجشعة التي يهمها النجاح بأي ثمن، وكذلك المرأة الملائكية التي ستتحدى أبيها ذاته من أجل حبها للعالِم. هكذا يمكن رؤية السياسة واضحة متجلية في الشخصيات، وكأنهم أمثلة عن تيارات سياسية نراها كل يوم، ولكن المشكلة هنا أن المخرج العجوز يمتلك وجهة نظر قديمة نوعًا ما عن العالم، ويحاول اجترار صراعات انتهى منها الزمن، بل وانتهت السينما منها منذ قرابة عقد ونصف من الزمان، أو على أحسن تقدير لم تعد تناقش بذات الطريقة السطحية التي ربما تنتمي للزمن الذي فكر فيه كوبولا في إنجاز الفيلم حيث الأقطاب السياسية الواضحة وصعود الحروب الباردة والتحدث عن تقنيات علمية قد تغير من مجرى الكون، لكننا اليوم نعيش تلك التقنيات بالفعل، حتى وإن لم تأت بالشكل الذي تخيلته السينما سابقًا. 

الشكل الذي يقدم به الفيلم أيضًا صورة المدينة المستقبلية لا يقدم أي جديد لا من ناحية الأزياء ولا من ناحية مباني المدينة ولا ماكياج الشخصيات، إذ يبدو الفيلم إعادة تدوير لكل تاريخ السينما في هذا الصدد. ربما تكون العناصر البصرية الأفضل هي تلك التي تتجه للتجريب أكثر من ألوان مجردة وأصوات متداخلة في صور مقسمة طوليًا إلى ثلاث، وخدعة واحدة استخدمت في طريقة عرض الفيلم ذاته، وربما تكون خدعة تكسر الإيهام بشكل لم يستخدم من قبل. 

ميغالوبوليس

لا ينجح الفيلم في التموضع كفيلم فني خالص أو كفيلم تجاري موجه لشباك التذاكر، فلا هو فيلم مثل “أوديسا الفضاء” Space odyssey لكوبريك، الذي أخفق في شباك التذاكر ثم تحول لجوهرة سينمائية خالدة، ولا هو مثل أفلام مارفل مصنوع للتسلية الخالصة، ما يجعل جمهوره هو جمهور كوبولا بالأساس. ولكن هذا في رأيي لن يكفي ليضمن للفيلم أي موقع جيد لا في تاريخ السينما ولا حتى في تاريخ مخرجه. ربما أكون قد كتبت تلك الكلمات بنوع من القسوة الناتجة عن الإحباط. إحباط نشأ عن أن مشاهدتي لذلك الفيلم قد شوه من صورة كوبولا الذي أحب أفلامه، لكن في النهاية، ربما صنع العجوز ذلك الفيلم كمتعة ذاتية خالصة، ولن يهتم بأي شيء إلا باعتبار هذا الفيلم كرغبة أخيرة لسينمائي كبير. 

اقرأ أيضا: «أنواع من اللطف»… يورغوس لانثيموس يثبِّت مخالبه!

شارك هذا المنشور