يبدأ الفيلم القصير ميرا ميرا ميرا (٢٠ دقيقة) للمخرج خالد زيدان بأصوات طرق البلدوزرات التي تعمل في مهمة إزالة الأحياء العشوائية في مدينة جدة، ثم تنتقل الصورة مباشرة إلى الشاب سعيد -الذي أدى دوره بامتياز الفنان الجميل (إسماعيل الحسن)- وهو في غرفته يعاني من فقدانه لكلمات معجمه اللغوي غير كلمة واحدة، هي اسم الفتاة التي لا يعرفها (ميرا)، ونراه يحاول أن ينطق كلمات أخرى، لكن صوته لا يخرج سوى بـ(ميرا ميرا ميرا)، هذا الدخول إلى حكاية الفيلم من أجمل وأخطر ما يكون، سألت نفسي: بعد هذا الدخول، إلى أين ستأخذنا أحداث الفيلم؟ لكن زيدان يستمر ببراعة خلف هذا العالم (عالم الواقعية السحرية).
إنها حبسة البطل الكلامية، لكنها لا تشبه أي حبسة أخرى، حبسة تركت لسعيد كلمة واحدة فقط، لذلك سنلاحظ طوال العشرين دقيقة (مدة الفيلم)، أن هذه الكلمة المتبقية، سوف تدخله في مشكلة عاطفية مع زوجته، وفي عدم فهم من قبل جاره العجوز على الكرسي المدولب، وفي هروب طويل من أمه التي لا تظهر في أحداث الفيلم، لكن أخوه -الذي لعب دوره باقتدار الفنان (خالد يسلم)- سيخبره عن سؤال أمه المتكرر عنه، وسنلاحظ أيضًا أن نفس هذه الكلمة المتبقية من معجم البطل (ميرا) سينطقها سعيد بعدة أصوات تعبيرية، سيستخدمها في حالة التعبير عن الفهم، ،وفي محاولة الإفهام، وفي حالة الموفقة، وفي حالة الرفض أيضًا، لكنه سيضج بهذه الحياة، ويحاول أن يبحث عن الحلول لدى الأطباء وشيوخ الدين دون جدوى.
يجدر الإشارة هنا إلى أن الفيلم مأخوذ من قصة قصيرة بنفس عنوان الفيلم، للكاتب عبدالعزيز العيسى، الذي قام بكتابة سيناريو الفيلم أيضًا، وسنلاحظ بعد قراءة القصة القصيرة، أن الفيلم استمثر ثيمة القصة ليوظفها في فضاء مكاني معروف هو مدينة (جدة)، وسينقل كذلك الطاقة الخطابية للقصة إلى بعد رمزي مفتوح على التأويل، وهنا تكمن البراعة، فليس من السهل الذهاب بهكذا ثيمة إلى نهاية تقبل التأويل، ففضول المشاهد بطبيعة الحال سيتحفز لمعرفة مصير هذا البطل المسكين، الذي يعيش في مكان يوشك على الزوال، وعلى مصير مجهول تمامًا، لكن كاتب الفيلم ومخرجه سيقرران أن يأخذانا إلى بعد جديد، ونهاية عجيبة، فالطبيبة التي زارها سعيد بمعية أخيه، ستتصل به لتخبره بالمفاجأة الكبرى التي ينتهي عندها الفيلم، فهناك فتاة أخرى زارت نفس الطبيبة بسبب فقدان معجمها اللغوي، الذي لم يتبق منه سوى كلمة واحدة، هي اسم شاب لا تعرفه اسمه سعيد!
بتصور معين لهذا الشكل من قصص الواقعية السحرية، يمكننا أن نحيل الأمر إلى أن الذي يحدث في الفيلم هو وباء قذفت به الحياة في حلوق المقهورين، ولعل أشبه ما يمكن أن نحيل إليه في هذه الحالة، رواية (العمى) للعظيم جوزيه ساراماغو، وثيمة الفيلم يمكن أن تكون قريبة بالفعل، لكن تصاعد الأحداث سرعان ما تبعدنا عن تلك الثيمة؛ أعني الوباء، وتذهب بنا إلى بعد مركب، وأكثر تعقيدًا من سهولة توقع فكرة الوباء في رواية (العمى)، بل تذهب بنا إلى فكرة الوجود اللغوي للإنسان، فالبطل وتلك الفتاة التي تظهر في آخر الفيلم لم يفقدا قدرتهما على النطق تمامًا، بل نراهما يعيشان جحيمًا من نوع آخر، جحيم مخترع لغرض ما، جحيم أن يقتصر معجم الإنسان اللغوي على كلمة واحدة، بل اسم واحد!
إنه فقر من نوع جديد، فقر يحيل إلى الكبت لكن بشكل فانتازي وفني، فالبطل وتلك الفتاة في نفس المدينة، التي يعلو فيها صوت طرق البلدوزرات، ومنظر تلال الإزالة، لديهما جامع مشترك، وكل واحد منهما يعرف اسم الآخر بشكل لا إرادي، إنه جوع من نوع آخر، جوع يحيل إليه الفيلم دون أن يخبرنا بشيء ذي بال، ويحيلنا إلى نتيجة غرائبية رغم أن الواقع حولهما طبيعي تمامًا، وهذا النوع من الفقد هو المساحة الحرة التي يتحرك داخلها الفن، والسينما هي الفن الأكثر جدارة على تقديمه واللعب من خلاله، سواء اللعب بالصورة أو بالصوت أو بالحبكة الروائية قبل ذلك.
فيلم (عثمان- 2022)
في فيلم (عثمان) الذي جمع المخرج والكاتب قبل ذلك، كانت السخرية اللاذعة حاضرة بقوة، والبعد التعبيري موجود كذلك، أما في فيلمهما الذي نتحدث عنه هنا ميرا ميرا ميرا فأعتقد أن المسيطر هو البعد الفلسفي، فالفيلم وجودي بامتياز، يعبر عن الوجود من خلال الفقد، وعن حرية الاختيار من خلال الإجبار، فوجود الثنائيات الفلسفية داخل الفيلم يمكن القبض عليها بسهولة، وهنا ملمح عجيب للغاية، يكمن في قدرتنا على ملاحظة الثنائيات دون أن يكون في مقدورنا القبض على المغزى منها، وكأننا أمام فكرة مجردة، أو لأقل أسئلة مجردة (ماذا لو لم يبق في معجمنا سوى كلمة واحدة فقط؟ ماذا لو لم يكن في مقدورنا أن نختار تلك الكلمة؟ ماذا لو كانت اسم لشخص لا نعرفه؟).
أتصور أن هذا النوع من الأسئلة، هو أحد أبرز أسباب وجود الفيلم السينمائي القصير، فهو القالب الفني الأجدر على حملها؛ أعني هنا حمل تلك الأفكار السينمائية وأسئلتها التي تحمل في جعبتها الطاقة الإيحائية للمفارقة على سبيل المثال، أو على البعد الشعري الذي يمكن أن يُقال من خلال عدد محدود من المشاهد، أو على فكرة فانتازية، تتعامل مع الوقع بسحرية لذيذة، لا يمكن تصديقها، لكن يمكن التعامل معها إذا تركنا للخيال فسحة معقولة، وكلما كان الفنان قابضًا على هذه الإمكانيات داخل فنه الذي يتعامل معه، كان أقدر على التعامل معه ببراعة، وهذا ما لمسته بشكل استثنائي لدى مخرج الفيلم وكاتبه، فمختبرهما الفني بلا شك مختبر ناضج، لأنه باختصار لم يسقطهما في مغبة التساهل، ولا في ويلات الاستعجال.
إننا مع فيلم ميرا ميرا ميرا القصير، أما حالة فنية تعبيرية تقول أشياء كثيرة، لكن بشكل تجريدي؛ أي دون الإحالة إلى بيان واضح وصريح، وهذا في حد ذاته وعي عميق لدى صنَّاع الفيلم بماهية الفن، وقدرته على فلسفة الوجود الإنساني الهش، الذي يمكن أن يتداعى بسبب فقد حاسة واحدة، أو ضياع الصوت، وبالتالي اضمحلال القدرة التعبيرية، التي من دونها يصبح وجود الإنسان وجودًا عدميًا، يشبه اللاوجود تمامًا.
اقرأ أيضا: «هوبال»… ثراء البادية وفقر التبني السينمائي