فاصلة

مقالات

مهرجان «كليرمون فيران»… جنّة الفيلم القصير

Reading Time: 5 minutes

ما هو الفيلم القصير؟ كيف نعمّق اطّلاعنا عليه وأين نشاهده، وهل يختلف عن الطويل؟ وفيمَ يختلف عنه؟ أسئلة نجد أجوبة شاملة عنها عند انغماسنا في عروض صالات مدينة كليرمون فيران الفرنسية، المدينة الصغيرة التي حقّقت سمعة عابرة للقارات بسبب أمرين: مصنع اطارات “ميشلان” ومهرجان الأفلام القصيرة. والأخير أقيم هذا العام من 2 إلى 10 فبراير الجاري.

هناك أسطورة تقول إن القائمين على مصنع ميشلان، راحوا يدعمون المهرجان بعد سنوات من انطلاقه في العام 1982، بعدما لمسوا حماسة العمّال للأفلام القصيرة المعروضة فيه. إذ يبدو أن معظم أحاديث العمال خلال دوامهم كان يدور حول ما شاهدوه من أفلام تأتي من كلّ أنحاء العالم، وجعلت مدينتهم “قرية كونية” وُضِعت على خريطة الفنّ السابع.

وهكذا؛ فالمهرجان الذي بدأ كمغامرة خاضها بعض الناشطين ، تلقّى دعمًا ساهم في استمراره وتعزيز دوره. هذا إن دلَّ على شيء، فعلى مكانة المهرجان في وجدان أهل المدينة والارتباط العضوي بينهم وبينه، خلافًا لعلاقات القوة القائمة بين بعض المهرجانات العربية والبيئات التي تجري فيها، بحيث يُؤتَى بجمهور جاهز، لا بجمهور يُصنَع ويتكاثر عامًا بعد عام.

الحكاية التي بين مهرجان كليرمون وناس المدينة، هي حكاية عشق وإخلاص وتعاون، قلّما وجدنا مثلها في تاريخ المهرجانات. المنخرطون في المهرجان ليسوا مشاهدين فحسب، بل هناك أكثر من 300 متطوع، بعضهم في أعمار متقدّمة، يضمنون حسن سير كل ما يتعلق بأنشطة المهرجان. وهناك أيضًا نحو 180 ألف مشاهد يزحفون إلى الصالات كلّ سنة على مدار الأيام التسعة التي يستغرقها المهرجان، وهذا يحتاج إلى تنظيم لا يتسامح مع الخطأ. 

clermont-ferrand

معروف عن المشاهدين الفرنسيين عشقهم للسينما وشغفهم بها. ففي فرنسا، أقيمت أولى عروض السينما قبل أكثر من قرن. لكن السينما ونجومها الكبار ومهرجاناتها ذات السجّادة الحمراء في كفّة، وأفلام سينمائيين مبتدئين يخطون أولى خطواتهم خلف الكاميرا في كفّة ثانية. فالأولى تفرض نفسها بآلتها الترويجية والإعلامية الضخمة، أما الثانية فالفضول هو العنصر الأهم لاكتشافها، إذ عليك بالمبادرة والذهاب في اتجاه الفيلم القصير الذي ليس في خدمته أي دعاية. هذا الفضول، وهو أساس كلّ اكتشاف، لا ينقص المتفرج الكليرموني، الذي يعلم أن أهمية الخطاب السينمائي والمنجز الجمالي لا يقاسان بطول الفيلم. فالصالات مكتظة على مدار اليوم بمشاهدين من كافة الأعمار والخلفيات، مهما يكن التوقيت، ومهما يكن أصل العمل المعروض وفصله. 

مهرجان كليرمون فيران

على مدى سنوات تغطيتي للمهرجان، جلستُ مرارًا قرب سيدات متقاعدات في أيديهن نسخ من الكاتالوغ تمتلئ صفحاتها بالملاحظات، بعضهن يتحدّثن عن أفلام لافتة من دورات سابقة وكأنها عُرضت أمس.

أغلب الظن أن الخلفية العمّالية للمدينة ووجودها في معسكر اليسار عبر التاريخ، عاملان بارزان في انفتاح الناس على كلّ ما هو جديد ومثير ممّا يأتي إليهم من أراض بعيدة لا يعرفون عنها سوى ما ترويه نشرات الأخبار. 

عمليًا، بدأت السينما بالفيلم القصير. أعمال الأخوين لوميير بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم تتجاوز الثواني المعدودة. هذا الاكتشاف الجديد الذي تحول إلى أحد أهم اختراعات العصر، ظلّ لفترة أولى مقيدًا تقنيًا، إطاره الزمني محدود ويصعب تجاوزه، ممّا جعل الأخوين لوميير يعلنان أن السينما فنٌ ولد ميتًا.

اليوم، أصبح في الإمكان تصوير كلّ شيء، وبالطول الذي يريده صاحب العمل، ومع ذلك لا يزال الفيلم القصير يهيمن على المشهد السينمائي، بل به تنطلق المواهب الفتية التي ستصنع سينما الغد.

تجاوزنا التقنية، وأصبحت الحدود الوحيدة المعترف بها رسميًا هي الخيال. هل من سبب واضح لاستمرار الفيلم القصير؟

في الحقيقة، هناك أسباب، بعضها عملي وبعضها جمالي: على المخرجين أن يقنعوا الجهات الممولة والجمهور بأنهم قادرون على صناعة فنّ وترفيه بأقل الخسائر. أما من الجهة الثانية، فعلى هذا التراث الجمالي أن يستمر ويتبلور، وقد ساهمت المعدات الخفيفة والتقنيات الرقمية خلال العقود الأخيرة، في بقائه تحت الضوء. 

 

عدد غير قليل من السينمائيين الشباب – إناثًا وذكورًا- قابلتهم في كليرمون فيران عبر سنوات مشاركتي الطويلة في المهرجان، وكانت الدهشة دائمًا تملأ جبينهم أيًا تكن الحالات.

هؤلاء كانوا يأتون متأبطين أحلامهم الكبيرة ليواجهوا أولى التجارب المهمة في مسيرتهم: الوقوف أمام جمهور مشبَّع بثقافة المشاهدة والمعاينة؛ يتوارثها جيلًا بعد جيل. رأيت في عيونهم طموح البدايات وبهجة مَن يلمس عند الآخر الرغبة في اكتشاف عالمه. 

الغني عن القول أن كثيرين منهم اختفوا تمامًا بعد فيلم أو فيلمين قصيرين، فالعالم دائم الغربلة لمَن لا يتكيف معه، فيما انتقل آخرون إلى المجال الأرحب للفيلم الطويل.

اليوم، هناك شبه إجماع أنه ما من مكان أفضل من كليرمون للانطلاق. فإذا كان للفيلم الطويل قبلته وهي مهرجان كانّ، فللفيلم القصير؛ كليرمون، الذي صار مرجعًا لهذا الفن في أقل من ثلاثة عقود، والبعض لا يتوانى عن تسميته “كانّ الفيلم القصير”.

مهرجان كليرمون فيران

يصعب الحديث عن الفيلم القصير من دون ذكر مسألة الحرية المرتبطة به. هذا الحيز الأوسع من الحرية غير متاح دائمًا في الطويل، لأسباب متعلّقة بالإنتاج والتمويل وغيرهما. أما سقف التجريب والاختبار فأعلى في القصير لكونه لا يرضخ لأعراف السوق، ولا ينُجز أصلًا لهدف الربح؛ بل لنيل الإعجاب الذي سيتيح لصاحبه أن ينتقل منه إلى الطويل.

لذلك، يضطلع الفيلم القصير ومهرجانه – غالبًا- بدور تأشيرة المرور إلى عالم الفيلم الطويل. والتاريخ يشهد أن قلّة من السينمائيين عادوا إلى الفيلم القصير بعدما كرّسوا مسيرتهم للطويل.

هناك أقسام عدة وبرامج متشعّبة في كليرمون، لكن المسابقة الرسمية هي الواجهة، وضمت هذا العام 66 فيلمًا من 52 بلدًا. فيها الغث والسمين بطبيعة الحال. 66 فيلمًا وُزِّعت على 12 حصّة، كلّ حصة عبارة عن خمسة أو ستّة أفلام، وتبلغ مدة كلّ واحدة من تلك الحصص أقل من ساعتين بقليل.

بسبب تقليص الموازنة بنحو 100 ألف يورو، اضطرت الإدارة إلى تقليل عدد الأفلام المشاركة وبالتالي تقليل الحصص. هذا التقليص المالي اعتُبِر بمثابة تهديد لمستقبل المهرجان وعقبة في مسيرته، وقد أحدث ضجّة وصدرت عرائض ونُشرت بيانات تضامن في الصحف. بعد عامين من جائحة عانى المهرجان خلالهما من آثارها المدمرة، ها هو يتلقّى صفعة نتيجة عدم إيمان بعض الجهات بأهمية الثقافة.

لكن، تكفي بضعة أيام في كليرمون والاحتكاك بالجمهور لتدرك أن العالم لا يزال بألف خير، رغم الكثير من التفاصيل اليومية المحبطة.

بعد المغادرة التدريجية للرعيل الأول المؤسس للمهرجان، وقدوم جيل جديد؛ ثمة تغييرات طرأت، وسيطرت ثقافة الصحوة woke culture.

الكلّ يشتكي من هذه الظاهرة، لكن أحدًا لا يعترض بصوت عال. النتيجة أن عديد من الأعمال المعروضة في مسابقة هذا العام تنطق بالإذعان لأجندات جندرية وأقلوية وجغرافية، ومراعاة لسياسات الهوية التي باتت تتعايش مع قضايا ينوي الغرب من خلالها التكفير عن ذنوبه وإعطاء نفسه شعورًا بأنه يمدّ يد العون للفئات المهمّشة والشعوب المستضعفة.

رياح الصوابية السياسي هبّت على دورة المهرجان هذا العام أكثر من أي وقت مضى. النيات حسنة، لكن الأسلوب مثير للجدل، ذلك أنه يفضي أحيانًا إلى نتيجة عكسية.

المرأة وقضاياها، هما المسيطران هذا العام سواء على الشاشة أو خلفها. 40 % من أفلام المسابقة لمخرجات، لكن هذا لم يكفِ لتسجيل موقف داعم للمرأة، إذ أُسنِدَت مهام كلّ لجان التحكيم إلى نساء. إضافة إلى قسم مخصص للمرأة أُطلِق عليه “متمرّدات” وتركز الأفلام المعروضة فيه على تيمة الأنثى التي تستطيع أن تتعامل مع الرجل بندية لا بخضوع.

   

من خلال الإمعان في مشاهدة عدد لا بأس من الأفلام القصيرة، نلمس نوعين منها: تلك التي تبدو كأنها مشهد من فيلم طويل، وتلك التي تعتمد على فكرة وُلدت كي تكون فكرة لفيلم قصير لا أكثر ولا أقل. النوع الأول كثير الحضور في مسابقة هذا العام، وهي أفلام تمنح الإحساس بأن أصحابها يريدون إثبات أنفسهم وتأكيد قدراتهم على إنجاز عمل طويل؛ بعضها مملّ وفيه الكثير من التطويل أحيانًا. لكنه، في النهاية، خيار يُحتَرم، ولم يكن للمهرجان في أي وقت من الأوقات موقف ضد هذا النوع. في المقابل، هناك، مَن يفضّل الأعمال القصيرة التي تحمل فكرة مقتضبة لا يمكن مطّها، وتنتهي مع آخر لقطة من الفيلم. وإذا كانت ثمة جنّة للفيلم القصير، فأغلب الظن أن لأصحاب الأفكار المكثّفة مكانٌ فيها.

اقرأ أيضا: فيليب سيمور هوفمان… النجم الذي لم يَكبُر

شارك هذا المنشور