لو كان هناك درس وحيد نتعلمه من فيلم «إسعاف» الذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة في مهرجان الأفلام السعودية في دورته الحادية عشرة، فهي أن ليست كل خلطة سينمائية مضمونة النجاح؛ مضمونة التوفيق كذلك.
بالتزامن مع طرحه في صالات السينما السعودية، جاء صناع فيلم «إسعاف» إلى مهرجان الأفلام السعودية طامحين إلى النجاح النقدي والجماهيري، وقد أعدوا وجبة كوميدية دسمة، لم يحسنوا تقييم مقاديرها جيداً فباتت وجبة ثقيلة متخمة ضمن قالب يجمع بين الأكشن والإثارة والغموض.
الفيلم من كتابة بطله إبراهيم الحجاج بالمشاركة مع ألبرتو لوبيز، ومن إخراج كولن تيج. وهو مخرج كان للحجاج تجربة ناجحة معه ممثلاً في مسلسل «رشاش». يشارك الحجاج في بطولة الفيلم كل من: محمد القحطاني، وفيصل الدوخي، وفهد البتيري، ونيرمين محسن، ونواف الشبيلي، وسعيد صالح، ومهدي الناصر، وحسن عسيري، ولطيفة المقرن.
من المؤكد أن فيلم «إسعاف» تبنّى خلطة وصيغة سينمائية جاهزة لا جديد فيها، تهدف بالوصول لأكبر شريحة ممكنة من الجمهور. وهو أمر لا يُعدّ سلبياً في حد ذاته، ما دام العمل قد استفاد من هذه الصيغة في تقديم فيلم ناضج في بنائه ممتع في حكايته، ومسلٍ من دون الوقوع في فخ التهريج أو السذاجة، مع التزام نسبي بمنطقية الأحداث وتصاعد الصراعات. ورغم هذا التوازن، لا يخلو الفيلم بطبيعة الحال من بعض الملاحظات التي تستحق الوقوف عندها، بعضها يكاد يخل بعالم الفيلم السينمائي.
لنبدأ من غياب منطقية الحدث العام للفيلم وكذل غياب دوافع الشخصية الرئيسية. إذ يركّز الفيلم على عمل اثنين من المسعفين في مدينة الرياض، التي غالبًا ما تتسم بالازدحام، ويقدّم شخصيتين متناقضتين في الطبع والسلوك: عمر (إبراهيم الحجاج)، شخصية ساخرة ومهووسة بالألعاب الإلكترونية، لا يكف عن إطلاق التعليقات الطريفة من بداية الفيلم حتى نهايته، باستثناء مشهد وحيد يتسم بالجدية. في المقابل، هناك خالد (محمد القحطاني)، الذي يتّسم بالصرامة والانضباط والتجهم. يبدأ تصاعد الأحداث، أثناء عودتهما بسيارة الإسعاف إلى المستشفى.
مع اشتداد الزحام، يقرر عمر تشغيل صفارة الإنذار كي يشق طريقه نحو موعد مسابقة الألعاب التي يشارك بها، لكن خالد يعارض بشدة، وعندها يتطور هذا الخلاف إلى شجار حول تشغيل الصفارة من عدمه، ينتهي بانفعال خالد وانطلاقه المفاجئ بالسيارة متجاوزًا الأنظمة، صاعدًا على الأرصفة، حتى يدخل أحد الأحياء ويصدم «طلال» (فهد البتيري). وهنا يتكشف البُعد الحقيقي للأزمة، حين يتبيّن أن المصدوم مصاب بطلقة نارية لا يعرفان مصدرها، وبجانبه حقيبة يكتشفان فيما بعد أنها تحوي مبلغًا كبيرًا من المال وبداخلها هاتفًا يرنّ، وما إن يرد عمر على المكالمة، حتى يدرك أن هناك رهينة محتجزة، وأن تسليم المبلغ شرط لإنقاذها. فيصر عمر على التحرك لتسليم المال وإنقاذ الفتاة، بينما، من ناحية أخرى يبدأ بدر (فيصل الدوخي) في مطاردتهما منذ لحظة الحادث، سعيًا وراء الحقيبة ومحتوياتها. ورغم تصاعد الأحداث، يبقى السؤال المنطقي الأبرز الذي يتبادر إلى ذهن أي مشاهد: لماذا لم يتصل المسعفان بالشرطة؟

يدرك صنّاع العمل هذا الإشكال، ولذلك حاولوا نزع فتيله منذ البداية بجعل شخصية خالد تطرح هذا السؤال مرارًا، انسجامًا مع طبيعته المنضبطة، في مقابل تسويف عمر وتهرّبه من الإبلاغ بحجج واهية، لا تنجح فعليًا في تبرير الموقف أو منحه منطقًا مقنعًا. وهذا يقودنا إلى طبيعة شخصية «عمر» الساخرة والكوميدية وغير المبالية. فمنذ البداية وحتى شارة النهاية، تغرق الشخصية في سيل متواصل من النكات (الإفيهات) والتعليقات الطريفة إلى درجة تجعلها تبدو ذات بُعد واحد، يتسم بالسذاجة المفرطة التي لا تتوافق أحيانًا مع طبيعة عمل البطل مسعفاً، كما لا تتوافق ردود أفعال الشخصية وتعليقاتها مع بعض الأحداث الدرامية التي تمر بها. إذ لا تبدو هذه النبرة الساخرة مناسبة أو منطقية في جميع المواقف، خاصة تلك التي تتطلب حضورًا عاطفيًا أو شعورًا بالخطر.

الاعتماد المستمر على كوميديا الإفيه دون تنويع في النبرة أو الإيقاع يصل إلى حد إرهاق المتابع، ويؤدي في النهاية إلى نتيجة عكسية، حين يفقد المشاهد تفاعله العاطفي مع ما يجري. فالتأثير الدرامي لا يتحقق فقط عبر الضحك أو الإثارة، بل يحتاج أيضًا إلى لحظات صمت، ومساحات للتأمل، ووقفة تتيح للمشاهد استيعاب ما يراه. وفقدان هذا التوازن العاطفي، يحوّل التجربة إلى خط سردي واحد ومسطّح.
إن تنويع مستويات الشخصية ينعكس إيجابًا على تفاعل الجمهور، ويمنحه مدخلاً لفهم دوافع الشخصية أو التعاطف معها. أما حين تتحضر الشخصية على الشاشة بسلسلة طويلة التعليقات الساخرة المتواصلة، ثم يُزج بها في مشهد تراجيدي يتيم قرب نهاية الفيلم، فلن يكون لهذا المشهد أي وقع يُذكر، لأنه لم يُبنَ عليه مسبقًا، ولم يُمهّد له شعوريًا.

ومن النقاط التي لا يمكن إغفالها في هذا السياق: الحوار. إذ اتسمت بعض حوارات الفيلم – خصوصًا تلك التي تتعلق بشخصية عمر- بالجنوح إلى الشرح والتفسير المباشر، مثل حديثه عن سبب عمله في الإسعاف بلا أي مبررات أو تمهيد درامي. وستجد دائماً أن أي حوار بالفيلم غير متسق أو مفاجئ يبدأه عمر عادة بالرد بنكتة أو تعليق ساخر.
من ناحية أخرى، وبالرغم من الثنائية المعتادة والمتكررة في كثير من الأفلام – المتمثلة في وجود شخصيتين متضادتين: الأولى مرحة وكوميدية، والثانية جادة ومتجهمة – كما شاهدنا في أفلام مثل Midnight Run (1988)، وRide Along (2014)، إلا أن فيلم “إسعاف”، وبعيدًا عن الملاحظات السابقة، استطاع أن يقدّم هذه الثنائية بنجاح، ويرسم ملامح كل شخصية بوضوح، لا سيما شخصية «خالد» التي يؤديها محمد القحطاني. التي تنوّعت بين الجدية والانضباط والخوف والتردد في بعض اللحظات، وتمكّن القحطاني من الحفاظ على هذا الاتزان في أدائه حتى نهاية الفيلم، مما منح الشخصية عمقًا إنسانيًا.

فيلم إسعاف، بلا شك، هو فيلم شباك تذاكر بامتياز، ومن المرجح أن يجد جمهورًا واسعًا يستمتع بتجربته. ولعل أفضل طريقة للتعامل معه، كنصيحة منّي، هي أن تضع منطقية الفيلم جانبًا، وتنظر إلى التجربة ككل، وتستمتع بركوب رحلة الإسعاف الصاخبة، لعلك تصل سالماً.
اقرأ أيضا: مهرجان أفلام السعودية 11: «فخر السويدي» ربما من هنا علينا أن نبدأ كوميديًا!