فاصلة

حوارات

من برلين.. مخرج «آخر يوم»: أبحث عن تأثير الأحداث على البسطاء في كل مكان

Reading Time: 6 minutes

من مركز كفر الدوار البعيد جدًا عن حواضر صناعة السينما والحركة الفنية، بدأ شاب مصري مشواره نحو مهرجان برلين السينمائي الدولي، متحديًا المركزية الكبيرة التي تحكم الوسط الفني والثقافي في مصر حيث نشأ.

إلي العاصمة الألمانية التي تحتضن مهرجان برلين، جاء محمود إبراهيم المخرج المصري الشاب في صحبة فيلمه “آخر يوم” المعروض ضمن قسم “الفورم الممتد” بالمهرجان الذي يتيح منصة للأصوات التي تخرج الأفلام من رحم الشغف قبل أن تصقلها الإمكانيات. والمفارقة أن الأمر حدث دونما تخطيط.

آخر يوم
المخرج محمود إبراهيم – برلين (2025)

 عن بداياته، وتأثير دراسته للمونتاج على رؤيته السينمائية، وعلاقته المتوترة بقاعات العرض، وعن خطته لما بعد برلين كان لـ فاصلة معه هذا الحوار.

 “آخر يوم” فيلم قصير جدًا، لا تزيد مدته عن أربع دقائق ونصف الدقيقة، يتحرك بطلاه بصمت داخل مساحة ضيقة يتراكم فيها أثاث يشي بأن حياة كانت هناك. يترك الفيلم المهمة لشريط الصوت الذي يتولى نقل الحكاية لنا كاملة، على الرغم من أنه مجرد مونتاج لنشرة أخبار تنتقل بنا من أحوال العمال إلى خبر عن إزالة بيوت لتوسعة طريق بالقاهرة وتنتهي في القدس حيث تعمل السلطات الإسرائيلية على حصار وهدم بيوت الفلسطينيين. يترافق هذا الشريط التي تقطعه صافرة تشويش تتعالى بسرعة لتكتم الصوت مع الملامح المحايدة للبطلين وانتقال الكاميرا وسط ذلك التشويش لتوصل الرسالة كاملة.

وعلى الرغم من أن كفر الدوار التي يبدأ منها الفيلم بعيدة عن الحدثين الذين يحملان سردية الفيلم إلا أن الربط بينها وبينهما يتكفل بإحداثه شريط الصوت في بدايته التي تتحدث عن مفاوضات العمال للحصول على حقوقهم، فكفر الدوار الواقعة في محافظة البحيرة  في شمال غرب دلتا النيل، واحدة من المدن الصناعية الراسخة ومركزًا لحركة العمال في مصر وهي أيضًا مسقط رأس مخرج “آخر يوم”. التي يقول عنها في حواره لـ فاصلة: “نشأت في مدينة لم تكن لها صلة قوية بصناعة السينما، ولم أدخل قاعة عرض سينمائي حتى بلغت السابعة عشرة، وكان ذلك لمشاهدة فيلم أولاد رزق. قبل ذلك، كانت متابعتي للأفلام تقتصر على التلفزيون فقط”.

فيلم آخر يوم (2024)
فيلم آخر يوم (2024)

 الصدفة تكفلت برسم طريق محمود إبراهيم إلى صناعة السينما. يقول لـ فاصلة: “كنت أدرس في قسم الصحافة بكلية الآداب، لكن القسم أُغلق وأنا في السنة الأولى. في الوقت نفسه، علمت أن معهد السينما سيفتح في الإسكندرية، فقررت الالتحاق به، خاصة أن المدينة قريبة من سكني. سحبت أوراقي من الكلية رغم أن الدراسة في المعهد كانت قد بدأت بالفعل، لكنني قُبلت رغم ذلك وبدأت دراسة السينما”، واختار إبراهيم دراسة المونتاج، الذي يقول عنه: “المونتاج هو الذي علّمني السينما. هو الذي يجعلك تفكر في بناء الفيلم منذ مرحلة الكتابة، وليس فقط أثناء التصوير أو المونتاج النهائي”.

آخر يوم
فيلم آخر يوم (2024)

لعبت الصدفة أدوارًا كثيرة في علاقة مخرج “آخر يوم” بالسينما. فكما رتب القدر دراسته للسينما بالإغلاق المفاجئ لقسم الصحافة تزامنًا مع افتتاح فرع لمعهد السينما بالإسكندرية؛ شاهد محمود أول فيلم “آرت هاوس” كذلك بمحض المصادفة. يقول إبراهيم لـ فاصلة: “في مرحلة عمرية معينة، كنت أميل لأفلام الحركة، لكن لاحقًا تغير ذوقي. أتذكر أنني شاهدت فيلم ميكروفون للمخرج أحمد عبد الله بالصدفة، وشعرت أنه قريب مني ومن تفكيري، على عكس أفلام الأكشن التقليدية.

بعد ذلك، في عام 2019 وأثناء دراستي في المعهد، كنت أبحث على أحد مواقع قرصنة الأفلام، ووجدت نسخة سيئة جدًا من فيلم “آخر أيام المدينة” للمخرج تامر السعيد. ورغم رداءة الجودة، شعرت بأن هذا هو النوع من الأفلام الذي أريد صنعه”.

رغم ذلك، يصف إبراهيم علاقته بدور العرض بأنها “علاقة متوترة” فلنُدرة دور العرض في مدينته البعيدة عن القاهرة، لم يكن مخرج “آخر يوم” معتادًا على مشاهدة الأفلام وسط جمهور “لم أكن أشعر بالراحة، ولم أستمتع بالتجربة. لكن الأمر تغيّر عندما حضرت مهرجان الإسكندرية لأفلام البحر المتوسط، حيث دخلت عرضًا للفيلم اللبناني “بيروت يا بيروت” للمخرج مارون بغدادي، ووجدت نفسي وحدي في القاعة، وكانت تلك نقطة تحول بالنسبة لي”.

يجيئ محمود من عائلة بعيدة تمامًا عن صناعة السينما والفن، إلا أن أفرادها يدعمونه ويشجعونه على الاستمرار. يقول لـ فاصلة: ” لم تكن والدتي مستوعبة لما أفعله أو أدرسه، لأن العائلة ليس لها علاقة بالسينما. لكن عندما علموا أنني ذاهب إلى برلين، كانوا سعداء جدًا”.

فيلم آخر يوم (2024)
فيلم آخر يوم (2024)

تدور أحداث “آخر يوم” بين ثلاث مدن، كفر الدوار، القاهرة والقدس؛ لكن التصوير كله يجري في موقعين اثنين، داخل شقة ضيقة، وفوق سطح إحدى العمارات، غالبًا العمارة التي تقع فيها الشقة نفسها. يظهر في التصوير اعتماد الفيلم على إمكانيات بسيطة وميزانية صغيرة جدًا، فهل كان هذا فيصلًا في قرارات المخرج الفنية؟

يقول محمود إن الإمكانيات قادت بالفعل لأن يخرج فيلم “آخر يوم” للنور. “قبل العمل على آخر يوم، ترددت كثيرًا وكنت أشعر أنني لست جاهزًا بعد لصناعة الأفلام. كتبت سيناريو لفيلم قصير لكنه لم يُنفَّذ بسبب الإمكانيات، ثم فقدت الشغف به. لكن من نفس السيناريو خرجت ثلاثة أفلام قصيرة، أحدها كان آخر يوم”.

سألناه: هناك من رأى أن الفيلم يرمز إلى سقوط المباني في غزة. هل كان ذلك مقصودًا؟

صورت الفيلم عام 2023، قبل اندلاع الحرب، ويحكي قصة شقيقين يقضيان آخر لحظاتهما في منزل العائلة الذي سيُهدم ضمن أعمال تطوير المدينة. وبينما يقومان بنقل الأثاث إلى الخارج، يصدح التلفاز في الخلفية بأخبار هدم منازل الفلسطينيين في حي الشيخ جراح بالقدس، لكنني لاحظت لاحقًا وجود تشابه بين الأحداث.

أتت المصادفة لتلعب دورها مجددًا في مشاركته في مهرجان برلين، فبعد تواصله مع تامر السعيد، المخرج صاحب فيلم “آخر أيام المدينة” الذي كان من الأفلام التي فتحت عينا إبراهيم على سينما مختلفة، نصحه تامر السعيد ببعض التعديلات في فيلمه. يقول إبراهيم “أقنعني بفعل ذلك من أجل نفسي، حتى لو لم يُعرض الفيلم في مهرجان”. بعدها نصحته الفنانة مها مأمون بإرساله إلى قسم الفورَم الممتد (Forum Expanded)، وتلقى النصيحة نفسها من مبرمج كندي قابله في مهرجان الجونة. يعلق: “لم أكن أعتقد أن الفيلم قد يعجب أحدًا، لكنه قُبل في برلين بعد أن أرسلته في ديسمبر”.

وعن كيف تلقى خبر اختيار الفيلم في المهرجان يقول: “كنت سعيدًا جدًا، خاصة أنني أحب هذا القسم من مهرجان برلين، حيث يعرض أفلامًا تعلمت منها الكثير، مثل أفلام المخرج اللبناني غسان سلهب والمخرج تامر السعيد”.

فيلم آخر يوم (2024)
فيلم آخر يوم (2024)

اللافت أن الفيلم لم يُعرض في مصر، يقول محمود إبراهيم: “قدمته لمهرجان زاوية للأفلام القصيرة، لكنه لم يُقبل هناك، بينما قُبل في برلين”. تلك المفارقة تبدو مثيرة أكثر للتساؤل بعدما تلقى إبراهيم دعوات من مهرجانات سينمائية أخرى للمشاركة فيها بعد مشاهدة فيلمه الأول المعروض في برلين. يقول إبراهيم “تواصلت معي مهرجانات أخرى تواصلت كلها غير عربية. وأتمنى أن أشارك فيها جميعها من خلال الأفلام التي أعمل عليها حاليًا حيث أنهيت تصوير فيلمين قصيرين، أحدهما روائي والآخر وثائقي”.

وعما إذا كان للميل السياسي للفيلم دور في قبوله في مصر وخارجها، يقول: “لا اعرف. لكن أي فيلم يمكن أن يكون سياسيًا إذا ناقش الواقع. حتى لو كان عن شاب يبحث عن عمل، فهذا شأن سياسي في حد ذاته. أنا لا أحاول انتقاد شيء محدد، بل أفكر بصوت عالٍ من خلال السينما”. 

يعمل إبراهيم حاليًا مع المخرج الكبير يسري نصر الله ويتعاونان معًا في مشروع سينمائي جديد بعدما تعرف إليه إبراهيم عندما تقدم للالتحاق بورشة دهشور للأفلام التابعة لشركة مصر لأفلام العالمية. يقول مخرج “آخر يوم”: “تعرفت عليه من خلال ورشة في دهشور كانت لجنة تحكيمها تضمّه إلى جانب مروان عمارة وماغي مرجان. خبرته في الحياة والسينما تجعلني أتعلم منه الكثير”.

آخر يوم
فيلم آخر يوم (2024)

يسعى محمود حاليًا لتأمين التمويل اللازم للانتهاء من الأفلام التي يعمل عليها، ويجيب عن سؤال فاصلة حول العمل في أفلام مخرجين آخرين لتوفير الدخل والتمويل: “لا مانع لدي بالتأكيد من التعاون مع زملائي في أفلامهم، ومتحمس للمونتاج لكني أبتعد عن وظيفة المخرج المساعد، فهي وظيفة مرهقة جدًا، والمقابل المادي ضعيف. ما يشغلني حاليًا هو كيفية تأمين تمويل لأفلامي كي أستطيع الاستمرار”.

وحول استقبال الجمهور لفيلمه وما تلقوه من رسائل عقب المشاهدة يقول: “الاستقبال كان جيدًا جدًا بعد العرض. في نقاش مع الجمهور، أوضحت أن ما يحدث في مصر لا يُقارن بغزة، لأنني لا أعرف أحدًا هنا فقد منزله بسبب قصف. لكل بلد ظروفه، لكنني أبحث في تأثير الأحداث على الإنسان البسيط في أي مكان”.

اقرأ أيضا: أبرز المشاركات العربية في الدورة 75 من مهرجان برلين السينمائي

شارك هذا المنشور

أضف تعليق