فاصلة

مقالات

«ملك الكوميديا»… وثيقة سكورسيزي عن هوس الشهرة وثقافة الإذلال

Reading Time: 5 minutes

في فيلم “ملك الكوميديا The king of comedy” 1982 للمخرج مارتن سكورسيزي، يُجسّد روبرت دي نيرو شخصية الكوميديان الفاشل روبرت بابكين، الذي يتلقى إهانات محرجة لا نهاية لها مثل أبطال دوستويفسكي. 

فيلم “ملك الكوميديا” هو دراسة ثاقبة مؤلمة للهوس الأمريكي بالشهرة، فبينما كان ترافيس بيكل بطل “سائق التاكسي Taxi driver“، يسعى للشهرة عبر العنف، كان روبرت بابكين يسعى للشهرة عبر موهبة الأداء التمثيلي. ولأنه لا يملك الموهبة؛ يقوده الفشل إلى الجنون مثل ترافيس. وبهذا المعنى، يكون فيلم “ملك الكوميديا”، جزءًا ثانيًا – بطريقة ما- من “سائق التاكسي” للمخرج مارتن سكورسيزي. 

  

روبرت بابكين هو نتاج فريد للرأسمالية الفائقة، تعكس خيالاته قدرة وسائل الإعلام على تحريف العالم الحقيقي، وتحويله إلى مجموعة واهية من الصور التي تحاكي الواقع، ليصبح تمثيل الذات هستيريا مرضية، تزاحم وتطرد الذات الحقيقية.

يطمح بابكين إلى تقديم عروض حوارية تفوق في نجاحها عروض الممثل جيري لويس الذي يلعب دور مقدم البرامج الشهير جيري لانغفورد. ومع أن بابكين معجب بجيري لانغفورد، إلا أنه يتعجل الخطوة التالية. والخطوة التالية، هي إبهار العالَم بقدراته الفنية. لكن للأسف! قدرات بابكين الفنية معدومة تمامًا.

بشارب رفيع متأنق، وبذلة من الكتان يرتديها كاملة في جميع المناسبات، وثقة في النفس حديدية، يقتحم بابكين سيارة جيري لانغفورد، بحجة أنه يدفع عنه المعجبين. يقدم بابكين نفسه لجيري، ويفشل في كلماته الأولى بقوله: “قد لا يعني اسم روبرت بابكين شيئًا لك، لكنه يعني لي الكثير”. ينظر جيري لبابكين ببرود. يتعثر بابكين. يطلب جيري من بابكين أن يهون على نفسه. يمدح بابكين مواهبه الخاصة الشبيهة بقنبلة.  

بابكين يريد فرصة، ويُذكّر جيري بأنه هو نفسه جيري لانغفورد، أخذ فرصته مرة عندما مرض جاك بار، نجم العروض الحوارية، وكأنّ بابكين يطلب من جيري أن يتنحى جانبًا، ويترك له تقديم حلقتين، أو ثلاثة، من برنامجه الناجح. يصرفه جيري بلباقة، ويبعثه إلى سكرتيرته على وعد أن يرى أداء بابكين التمثيلي. 

بابكين في الرابعة والثلاثين، وما زال يعيش مع والدته. يتخيل بابكين حوارًا خياليًا بينه وبين لانغفورد، كأنهما صديقان. وفي الحوار الخيالي يطلب جيري من بابكين تقديم عرضه الحواري بدلًا منه فقط لمدة ستة أسابيع. لا نرى والدة بابكين، لكننا نسمع صوتها تنادي على ابنها مستنكرة حديثه مع نفسه. عَوَّدتنا سينما هيتشكوك أن الشخصية السيكوباتية ترتبط بالأم ارتباطًا  مريضًا، وفي الغالب يكون العيش المشترك للأم والابن يقوم على مزيج مضطرب من الحب والكراهية والإهمال والخيبة. 

King of Comedy (1982)
King of Comedy (1982)

لا يشبه فيلم “ملك الكوميديا” أفلام سكورسيزي التقليدية، فالكاميرا ثابتة في مكانها، وفي العادة أفلام سكورسيزي مليئة بالحركة. لكن عالم بابكين أكثر هدوءًا، ولهذا رفض مدير التصوير مايكل تشابمان، الذي عمل مع سكورسيزي في فيلم “سائق التاكسي Taxi driver” 1976، وفيلم “الثور الهائج Raging bull ” 1980، تصوير فيلم “ملك الكوميديا”. فقد كانت خطة سكورسيزي الجمالية هي استخدام إضاءة مُسطّحة وكادراج تقليدي، أي تأطير الكادر فيما يشبه الصندوق، لتبدو الصورة وكأنها صورة تليفزيونية. وجهة نظر سكورسيزي بما أن دراما العمل تعالج عالَم الاستعراض التليفزيوني، فالصورة أيضًا يجب أن تكون أقل جمالًا من الصورة السينمائية، وربما رأي سكورسيزي الفني لا يمكن الدفاع عنه كثيرًا.

"ملك الكوميديا".. وثيقة سكورسيزي عن هوس الشهرة وثقافة الإذلال
King of Comedy (1982)

كان اختيار سكورسيزي لجيري لويس مثاليًا في دور الممثل الشهير الكئيب والوحيد في حياته الشخصية، بعكس ظهوره المرح في برنامجه أمام الجمهور. امرأة تتحدث في كابينة التليفون، تلاحظ جيري يمشي في الشارع، فتطلب منه توقيعًا على مجلة في يدها، يستجيب جيري، ثم تطلب منه أن يتحدث مع ابن عمها موريس على الهاتف، موريس مريض في المستشفى، يعتذر جيري عن الحديث مع موريس. تتمنى المرأة المعجبة بأن يُصاب جيري لانغفورد بالسرطان. هكذا يُصوّر سكورسيزي الوجه المظلم للمعجبين عند تحولهم السريع إلى كائنات حاقدة عدوانية.  

يحاول روبرت بابكين دون كلل الاتصال بمكتب جيري لانغفورد، ومن كابينة الهاتف في الشارع، يعطي رقم تليفون الكابينة على أنه رقم تليفون مكتبه، ويقول لمكتب جيري لانغفورد، إنه ينتظر اتصال جيري به خلال ساعة ونصف الساعة، وهو لن يترك مكتبه خلال تلك المدة الزمنية. يضع بابكين ببؤس يده على مرتكز السمّاعة التليفون، بينما السمّاعة قريبة من أذنه، منتظرًا رنين الهاتف، بينما هناك طابور ساخط من الأشخاص الذين يرغبون في استخدام كابينة التليفون العمومي. براعة دي نيرو وسكورسيزي في تصوير مشهد الفشل الصارخ لا تُنسى. سيبقى دي نيرو ساعة ونصف الساعة، يكافح في صد كل مَنْ يرغب في استخدام التليفون العمومي.  

"ملك الكوميديا".. وثيقة سكورسيزي عن هوس الشهرة وثقافة الإذلال
King of Comedy (1982)

في مكتب جيري لانغفورد الأنيق، يتلقى روبرت بابكين سيلًا من الإهانات الهادئة المؤدبة التي لا تتجاوز حدود الصمت، وبعض الكلمات القليلة ونظرات الاستغراب، وهنا ينظر بابكين إلى صورة جيري، ويتخيل جيري يمدح عبقريته في تأليف المشاهد الكوميدية، ويعترف له بأنه يحسده ويكرهه بسبب موهبته الخارقة، ثم يعرض على بابكين زيارته في منزله الصيفي، حتى يعرف منه في جو ودي، كيف يؤلف مشاهده الكوميدية. يستأذن بابكين في إحضار صديقته إلى منزل جيري الصيفي.  

ترد سكرتيرة جيري شريط الكوميديا لبابكين، وتطلب منه بأدب ولطف المزيد من التدريب في النوادي الليلية الكوميدية، وستبعث له فيما بعد مَنْ يُقيم مستواه الأدائي. تنزلق الإهانة على وجه بابكين اللزج الزيتي، ويسأل: هل هذا رأي جيري لانغفورد؟ تجيبه السكرتيرة بأن نعم. تطلب موظفة الاستقبال رجل الأمن إخراج روبرت بابكين. يخرج بابكين من المكتب بقوة رجل الأمن، لكنه يجلس أمام المبنى على قاعدة رخامية، ويخرج من حقيبته سندوتشًا، ويأكل في انتظار مؤلم.  

يذهب روبرت بابكين وصديقته ريتا إلى منزل جيري لانغفورد الصيفي. بابكين يعرف كل شيء عن جيري، حتى اسم خادمه الآسيوي جونو. يرتبك جونو ويقول بلياقة لبابكين وصديقته إن السيد جيري غير موجود. ثقة بابكين، وهو يعطي حقيبته لجونو، تجعل الأخير يتردد في عدم إدخال بابكين وصديقته. يقول جونو، لكن السيد جيري غير موجود، فيرد بابكين: “يلعب الجولف بالتأكيد”، يوافق جونو، لكنه يعود بيأس: “السيد جيري غير موجود”. يرد بابكين بأنه لا يمانع في الانتظار. يتجول بابكين وريتا في أنحاء المنزل. يعطي بابكين معلومات وثائقية صحيحة عن الصور الفوتوغرافية لجيري، الموضوعة على الحائط. يتصل جونو بنادي الجولف، ويخبر سيده بالزائر الرهيب. يأتي جيري لمنزله الصيفي، وتجري مباراة بين إطلاق الإهانات من جيري، وبين تلقي بابكين لتلك الإهانات.  

King of Comedy (1982)
King of Comedy (1982)

ينضم روبرت بابكين إلى ساندرا برنارد في دور ماشا، المعجبة أيضًا بجيري، والأكثر فشلًا من بابكين، ويخططان معًا لاختطاف النجم الشهير. لا يقاوم جيري عند اختطافه، وفي بيت ماشا يملي بابكين على جيري ما سيقوله لطاقم عمله حتى يظهر بابكين في فقرة من برنامج جيري. يقبل بابكين أن يذهب للسجن مباشرة بعد فقرته التي تستمر لمدة عشر دقائق، أو أكثر قليلًا، وللمرة الأولى في الفيلم نرى ونسمع نِكات بابكين الضعيفة، ومع هذا يشاهد الفقرة ملايين الأشخاص. ينال بابكين أخيرًا الشهرة التي يحلم بها، ثم يُحكم عليه بالسجن ست سنوات، وفي السجن يكتب مذكراته “ملك لليلة واحدة”، ويحقق كتابه علامة الأكثر مبيعًا  

يُعد هوس روبرت بابكين رمزًا للقرن الحادي والعشرين، فهو هوس يتجاوز المساعي التقليدية للمال والسلطة، ويسعى بدلًا من ذلك شهرة لا تقوم على الثروات ولا على الموهبة، بل على مجرد الرغبة الصادقة المرضية في الشهرة. لم يُستقبل فيلم “ملك الكوميديا”، استقبالًا جيدًا، سواء من الجمهور أو من النقاد، على عكس أفلام سكورسيزي السابقة، وبحلول وقت فيلم “ملك الكوميديا” 1982، لم تعد هناك ثقافة سينمائية أمريكية تُشجّع أو حتى تسمح بأعمال مثيرة للإحباط. وعلى الرغم من فبركة سكورسيزي لنهاية سعيدة سريعة في الدقائق العشر الأخيرة من الفيلم، يبقى وقع الفشل والإذلال في فيلم “ملك الكوميديا”، ثقيلًا على السينما الهوليوودية.

اقرأ أيضا: الملك دي نيرو متوجًا في كان

شارك هذا المنشور

أضف تعليق