فيلم آخر يؤكد أن ثمّة مياه تتحرك تحت الجسور، وأن الوضع الغريب الذي عاشته السينما المصرية طوال العقد التالي ليناير 2011 آخذٌ في التغير ببطء، بعدما كاد إنتاجنا يقتصر على أفلام هائلة الحجم تُصنع لحفنة بعينها من نجوم الشباك لتحقق عشرات الملايين، وأفلام فنية مستقلة تُصنع عبر صناديق الدعم والتمويل المشترك فتسافر إلى المهرجانات ولا يشاهدها الجمهور المحلي، وعلى هامش النوعين أفلام منخفضة التكلفة والمستوى لا تكاد تُذكر، يمُكن أن نطلق عليها “أفلام بئر السلم”.
هذا الوضع المؤسف كاد يُفرّغ السينما المصرية من الأعمال التي صنعت تاريخها وشعبيتها: الأفلام متوسطة الحجم إنتاجيًا، التي يلعب بطولتها نجوم محبوبون، من دون أن يرتبط وجودهم بمشاهد حركة معقدة أو بذخ إنتاجي أو رهان على الضخامة، وإنما بحكايات مسلية ولحظات إنسانية وشخصيات قابلة للبقاء في الذاكرة. وهو النوع الذي لو نظرنا لتاريخ السينما المصرية سنجد أنه يضم الغالبية العُظمى من أفلامنا الكلاسيكية.
“مقسوم” أول فيلم روائي طويل للمخرجة كوثر يونس، يأتي بعد العام الماضي الذي شهد عرض “فوي فوي فوي!” أول أفلام المخرج عمر هلال، و”وش ف وش” ثاني أفلام المخرج وليد الحلفاوي، لتؤكد الأفلام الثلاثة أن هناك جيل من صناع السينما الشباب الذين قرروا التمرد على كل النماذج المحفوظة، ليصنعوا أفلام وسيطة، غير متعالية، صالحة لأن يشاهدها الجمهور العريض ويستمتع بها، ويُمكن أيضًا أن يُعجب بها النقاد ويجدون فيها ما يُمكن قراءته وتحليله.
سمات الخلطة الثلاثة
“مقسوم” من تأليف هيثم دبور، مؤلف أعمال جيدة مثل “فوتوكوبي” و”عيار ناري”، والذي يُقدم لأول مرة على تجربة إنتاج فيلم طويل كذلك (بالاشتراك مع أحمد يوسف). دبور وضع سيناريو يجمع بين ثلاث سمات رئيسية: البساطة، والتأثير، وطرح الأفكار.
البساطة واضحة من القصة التي يمكن أن يفهمها كل من يُشاهد الإعلان الترويجي للفيلم. فريق غنائي شهير تفرقت السبل بعضواته الثلاث، يجتمع شملهن مجددًا بعد ربع قرن من انفصالهن الذي كان من المفروض أن يصير نهائيًّا. قصة كهذه يُمكن بسهولة تصور الإطار العام لمسارها: سترفض البطلات العودة، ثم توافقن مضطرات، تصادم وصراع واسترجاع لأزمات الماضي، ثم تصالح مع بعضهن البعض ومع الحياة.
اختيار القالب البسيط يحمي الفيلم من التغريب ويُقرّبه من الجمهور، ولكنه يجعله أيضًا مهددًا بخطر فقدان الاهتمام مالم يقترن المسار المتوقع بالكثير من اللحظات الطريفة والمؤثرة والشخصيات الصالحة للتماهي معها، وهو ما ينجح فيه “مقسوم”، سواء في رسم شخصيات الفريق الغنائي الثلاث: هند (ليلى علوي) الجريحة التي تعيش بصدمة تعجز عن تجاوزها، إيمي (شيرين رضا) “الديفا” المهووسة بذاتها والعاجزة عن التواصل مع أقرب الناس إليها، ورانيا (سما إبراهيم) التي استسلمت لحياة زوجية سامة تبدو صاحبتها مؤهلة بقوة أن تفقد روحها للأبد، لولا وصول العرض غير المتوقع للعودة إلى المسرح مجددًا.
التباين الشديد بين الشخصيات يمنح الفيلم شحنة جاذبية مبدئية، تستثمرها المخرجة كوثر يونس سريعًا بوضع المشاهدين داخل الصراع الطفولي الذي يحكم علاقة الصديقات الثلاث، لتنجح عبر تطوير علاقة كل منهن بنفسها وبقريناتها من تحقيق السمة الثانية وهي التأثير، فنحن لا نتابع حكاية عضوات فريق “أميتشي” فقط لأننا نضحك أو لأننا نريد معرفة مسار الحكاية، ولكن بالأساس لأننا تمكنا من تكوين علاقة ما معهن.
عن الزمن والصداقة والحرية
يقودنا ذلك للسمة الثالثة في “مقسوم”، وهي كونه يُقدم للمُشاهد ما هو أكثر من حكاية اجتماع الصديقات الثلاث، فهو بالأساس عمل عن الزمن، أو تحديدًا عن أثر الزمن في البشر، كيف يُمكن أن يغيرنا مرور السنوات؟ ما هي الأمور التي تتغير بلا رجعة في نفوسنا؟ وما هي الصفات التي مهما طال الزمن وانقلبت الأوضاع ستظل ثابتة؟
“مقسوم” أيضًا فيلم عن الصداقة، التي تتشكل في جوهرها من مزيج من النوعين: ففيها ما هو ثابت للأبد، وفيها ما يتحتم تغييره. يخبرنا الفيلم أن صحة أي صداقة تتوقف على فهم هذا المزيج، فالإيمان بالثبات وحده، أو التغيّر فحسب، هو الطريق الأسهل لخسارة العلاقة، أو لاكتشاف أنها لم تكن حقيقية من الأساس.
يُمكن اعتبار “مقسوم” كذلك عملًا نسويًا بامتياز، ليس فقط لأنه من إخراج مخرجة وبطولة ثلاث نجمات، ولكن لأن قضيته الأساسية – والتي نكتشفها تباعًا ومن دون توقع، عكس قدرتنا على توقع جانب الصداقة- هي قدرة المرأة على الاختيار. الفيلم تحرري كليًّا، يُدافع بصراحة عن حق المرأة في تقرير مصيرها، سواء في أمور جوهرية كشريك حياتها وكيفية تسيير تلك الحياة، أو حتى أمور شكلية كمظهرها وقدر “السيليكون” الذي تزرعه في جسدها!
عمل جريء ولكن
قد يجد البعض العبارة السابقة متجاوزة، وبالفعل بعض التعليقات السلبية على مواقع التواصل الاجتماعي تصف الفيلم بالخروج عن النص، فقط بسبب عبارة أو اثنتان في الإعلان الترويجي. لكن الحقيقة أن “مقسوم” ليس جريئًا أبدًا على المستوى البصري أو اللفظي، فقط يخرج قليلًا عن الحدود الضيقة التي حاصرت الأفلام المصرية التي تنشد الجماهيرية نفسها فيها منذ نهاية القرن الماضي.
لكنه بالتأكيد فيلم جريء على المستوى الفكري والاجتماعي، بدفاعه عن حق المرأة في أمور صارت من المسلّمات في مجتمعات أخرى، كحقها في اختيار شكل جسدها وملبسها، حقها في أن تشرب ما يحلو لها وأن تقع في الحب على طريقتها، حقها في اختيار شريك حياتها ثم تركه لو كان اختيارها خاطئًا، حقها في الاختيار الخاطئ من الأساس، فالبشر – بغضّ النظر عن جنسهم- جاءوا الحياة ليخوضوا رحلتهم الخاصة ويتعلموا بالتجربة والخطأ، لا لكي يصيروا كائنات نورانية لا تليق بها الهفوات.
المدهش أن تأتي هذه الأفكار استجابة لفيلم بسيط مثل “مقسوم”، لا يأخذ نفسه على محمل الجد أو يتظاهر بامتلاك أفكار خفية، لكنه بالفعل ومن خلال حكايته الصغيرة يُحرك تلك الأفكار داخل عقول من يريد من المشاهدين، أما من لا يريد؛ يترك الفيلم له أيضًا الحرية الكاملة أن يستمتع بالحكاية ويمضي، دون أن يُشعره الفيلم بالدونية لأنه لم يتمكن من استقراء مغزاه العميق.
بعض السلبيات كذلك
كل ما سبق أسباب واضحة للإعجاب بالفيلم، مع الأداء المميز من بطلات الفيلم الثلاث اللاتي يظهرن بصورة ممتازة، صحيح أن الاختيارات كلها تصب في التصورات المسبقة عن كل ممثلة، حيث تفادت كوثر يونس الخروج عن المألوف في اختيار ممثليها، حتى في الأدوار الداعمة وعلى رأسها ظهور متميز للغاية للمخرج هاني خليفة الذي يبدو هنا ممثلًا متمرسًا، ملائمًا تمامًا للشخصية.
غير أن هناك اختيارات أقل نجاحًا بطبيعة الحال، على رأسها الخط المُفجر للأحداث حول المخرج الشاب (عمرو وهبة) وزميلته المنتجة (سارة عبد الرحمن)، ومحاولاتهما لجمع نجمات الفريق القديم بغرض صنع فيلم وثائقي حولهن.
دراميًا، دور هذا الخط هو ما يشعل فتيل الأحداث، لكن منحه المزيد من المساحات ومحاولة استغلاله لإضافة كوميديا للأحداث، جاءت أكثر مما يحتمله الخط، خاصة مع اختلاف نوع الكوميديا التي يحاول عمرو وهبة تحقيقها عبر السخرية المستمرة من نفسه ومن موقفه العسير، وبين النبرة العامة للفيلم الذي يأتي فيها الإضحاك من مدخل أقل صخبًا وأكثر ارتباطًا بدراما العلاقة بين الشخصيات. عمومًا، في كل لحظة حاول الفيلم فيها الابتعاد عن هذه النبرة نحو بعض المبالغات يقل مستواه تلقائيًا حتى يستعيد نبرته، لا يحدث ذلك كثيرًا لحسن الحظ.
العنصر الثاني الأقل من المأمول هو أغنيات الفريق، وهي عنصر حيوي في ظل كون الحكاية عن فريق موسيقي. لم يبخل صناع الفيلم عليه واستعانوا بالنجمة نانسي عجرم لأداء أغنيتين إحداهما تحمل عنوان الفيلم، لكن الأغنيتين لما تحققا أهم هدفين مفترضين، فلم تمسكا بروح موسيقى التسعينيات التي يُفترض أنها مرحلة صدورهما، ولا عبرتا بشكل صادق عن رحلة الشخصيات التي تبدو أعمق وأصدق من محتوى الأغنيات.
مجددًا، الأغنيات عنصر رئيسي هنا، لكن الغريب أنه رغم عدم ارتقائها لمستوى العمل ككل، إلا أن الفيلم يظل ممتعًا ومؤثرًا بالقدر الكافي الذي يجعلنا نحتفل بصدوره، وبتقديم موهبة جديدة في إخراج الأفلام الروائية الطويلة (كوثر يونس)، وأخرى في مجال الإنتاج (هيثم دبور)، أما قدراتهما السابقة في تخصصات أخرى فنعرفها بالفعل من قبل.
اقرأ أيضا: «جرس إنذار»… عندما تغيب عن الحصة الأولى